مقدمة
الفصل الأول:
إبراهيم نبياً
الفصل الثاني:
موسى منتصراً
الفصل الثالث:
الله-لفظ الجلالة-عربياً
الفصل الرابع:
مصر رهن الهزيمة
الفصل الخامس:
"متعلمون مصريون"
الفصل السادس:
مصر الأمية
الفصل السابع:
أثريون و لغويون
الفصل الثامن:
حول اللغة المصرية الحديثة: "اللمح"
الفصل التاسع:
حول أبجدية جديدة
الفصل العاشر:
لويس عوض: ننقده لا نصادره
الفصل الحادي عشر
بين ما يُسمى بالعامية و ما يُسمى بالفصحى
الفصل الثاني عشر:
رداً على كتاب "جغرافية التوراة"
الفصل الثالث عشر:
المصريون بين الشوفينية و الدونية
الفصل الرابع عشر:
3 دفاعات عن اللغة المصري الحديثة
الفصل الخامس عشر:
مأساة اللغة القبطية في مصر
الفصل السادس عشر:
حفاير لغوية تحت تعابير مصرية
الفصل السابع عشر:
عن الفرق/الفروق بين "اللمح" و "اللعق"
الفصل الثامن عشر:
"اللمح" هي اللغة القومية للمصريين المعاصرين.
بيان ثقافي
ملاحق
تقديم
نظرت فرأيت، و لما رأيت رصدت، و لما رصدت استنتجت، و لما استنتجت خرجت أدعو بدعوتي، هذه التي غدت وجهتي التي رسيت عليها في نهاية المطاف.
و لم يكن بوسعي أن أنظر فأرى، لولا أنني كنت قد تحررت عقلياً من الخراريف التي تجرعتها في دور التعليم في بلادي.
و لم يكن في طوعي أن أرصد دون أن أتجاوز العوائق التي وضعتها أمام ضميري الحي، قواعد الأخلاق الدينية السائدة.
و كان متعذِّراً، دون استنادٍ إلى منهجٍ علمي صارم تقوده المعلومات الموضوعية الموثقة، أن أستنتج أي نتائج حتمية و أن أتمسَّك بها، مثلما أفعل الآن، مهما مسَّت عواطفي أو عصفت ببديهياتي أو أطاحت بمسلَّماتي.
و كان من رابع المستحيلات أن أخرج بدعوتي التي أدعو بها في الوقت الحاضر دون أن أمتلك قدراً من الجراءة التي وطَّنتني عليها معرفتي. فالجراءة بنت المعرفة و الخوف ابن شرعي للجهالة.
و باختصار لم يكن في استطاعتي أن أقول شيئاً جديداً و رزيناً و عاصفاً، معاً على مثل هذا النحو، أو على الأقل هكذا أتصوَّر، قبل أن أقرر الإقامة الدائمة في قارتي التي اكتشفتها، دون عونٍ من أحد، و بعد رحلة طويلة، كنت خلالها أجدِّف بيدٍ واحدة، إذ كانت الأخرى مشغولة بضمان قوتي، وسط مجتمع صار أشبه بالغابة االبشرية، و الأدق "جنينة حيوان بشرية"Human Zoo و أقصد بتلك القارة: ثقافة الأميين المصريين أي الثقافة القومية المصرية التي يحملها الأميون المصريون بصفة رئيسية.
دنشواي بين ثقافتين:
في البدايات الأولى، نظرت و قرأت بل و درست خلال النسق التعليمي في مصر، ما كتبه "أحمد شوقي" أمير الشعراء(العرب بطبيعة الحال) عن حادثة "دنشواي":
يا "دنشواي" على رباك سلام،
ذهبت بأُنس ربوعك الإيام
شهداء حكمك في البلاد تفرقوا،
هيهات للشمل الشتيت نظامُ.
كيف الأرامل فيك بعد رجالها،
و بأي حالٍ أصبح الأيتامُ...إلخ
و ما كتبه "حافظ إبراهيم" الملقب بشاعر النيل، عن نفس الموضوع:
أيها القائمون بالأمر فينا
هل نسيتم ولاءنا و الودادا
خفضوا جيشكم و ناموا هنيئاً
و ابتغوا صيدكم و جوبوا البلادا،
و إذا أعوزتكم ذات طوقٍ فصيدوا العبادا...إلخ
بل و ما كتبه "صلاح عبد الصبور" الذي يعده نقادٌ كثيرون في مصر و أحياناً فيما يُسمى بـ "العالم العربي"، أحد كبار الشعراء الرواد المجددين المجيدين:
و ثوى في جبين الأرض الضياء،
و مشى الحزن في الأكواخ،
تنينٌ له ألف ذراع،
في كل دهليزٍ ذراع...الخ
و ما كتبه و الأولى ما أنتجه الأميون المصريون أي من أدعوهم بالمصريين-المصريين أي المصريين الحقيقيين عن نفس الموضوع:
يوم شنق زهران كانت صعبة وقفاته،
أمه عليه بتنوح فوق السطوح و اخواته،
و ابوه كما السبـــع يوم الشنق لم فاته...إلخ
و لست غافلاً عن أن الموازنة هنا بين أفراد كلٍ بمفرده و بين جماعة. و لست جاهلاً أن من "سمع عن" الحادث ليس كمن "عاشه". و لست مهملاً الفرق بين المعزين و بين أصحاب المأتم، أي أبناء القرية الواقعة في زمام "منوف". و لكن كل ذلك لا يخدش، من قريبٍ أو من بعيد، الحقيقة الناصعة التي ينساها و يتناساها "المتعلمون المصريون" باستمرار: الصورة التي رسمها ـ و/ الشعر رسم بالكلمات/ كما علَّمنا "أرسطوطاليس" ـ الأميون المصريون، باللغة المصري الحديثة أو "اللمح"، حسب تسميتي الخاصة، أروع، بما لا يُقاس، مما سطَّره "المتعلمون المصريون" باللغة العربية الوافدة إلى مصر و وادي النيل من غرب آسيا، تلك اللغة التي حازت أفعل التفضيل: الفصحى، دون سندٍ من منطق أو مسوِّغ من واقع. فالناطقون الأفراد بهذه اللغة أو تلك، هم الذين نستطيع، في بعض الأحيان، أن نصفهم بهذه الدرجة أو تلك من الفصاحة، دون اللغة التي ينطقون بها على إطلاقها، أياً كانت. فـ "ونستون تشرشل" لا يملك فصاحة "وليم شكسبير" لمجرد أن كليهما تحدث أو كتب بنفس اللغة: الإنجليزية. و نفس الأمر ينطبق إذا تطرقنا للغة الألمانية على "أدولف هتلر" و "هينريش هايني" و إذا رجعنا إلى اللغة العربية على "سحبان" و أي فرد من قبيلته: "وائل" التي عُرف عنها هذا المثل: "أفصح من سحبان وائل".
بل و لا أبالغ إذا قلت أن ما كتبه "المتعلمون المصريون" عن مأساة "دنشواي" لا يرقى إلى العتبات الأولى لما صاغه أولئك "المنبوذون" المصريون الذين لا يزالون يحملون قدراً زاد أو قل من رجس جدودهم الفراعنة، أولئك الذين يسميهم "المتعلمون المصريون"، إذا قرروا، في بعض الأحيان، إسباغ كرمهم عليهم: "البسطاء"، أو "الجهلاء" إذا ارتأوا، و هذا ما يحدث في أغلب الأحيان، حجب ما منحوا من كرم. و دع عنك استهداف الإعلام الزائف المفروض في أرض "إيزيس" لهم في الأعمال التي يزعم أصحابها، هم و البلاط العسكري الحاكم، أنها "فنية" من أفلام و مسلسلات و تمثيليات("الصعايدة وصلوا" نموذج)...إلخ
و أظن أن المرء ليس بحاجة ماسة إلي التعمق في مناهج نقد الشعر، قبل أن يسلِّم بأن "شوقي" ألقى بالمسؤولية، في الشطر الأول من البيت الأول عن فعل بشري محدد على "القدر" أو "الأيام". و ليس معنى ذلك أنني أري أي ضرورة لأن يعلِّق الشاعر هنا بالمسؤولية في رقبة الإنجليز. فهذه ليست في الغالب، هماً من هموم الشعر، لكن العكس ليس هو الآخر صحيحاً، أي أن تقرير الوجه الآخر للأمر خاطئ بنفس الدرجة أو درجة مقاربة. و يستطيع المرء أن يتساءل طويلاً عن مدى أهمية "الربى" و "السلام" بل و عن الروح الغنائية التي يحفُّها الطرب من كل جانب في موقف يتوقع فيه السامع المهموم قدراً من الأسى و قدرين من الحزن.
أما "حافظ إبراهيم" فكان مناسباتياً هنا، و هبط شعره الراقي الذي نعرفه عنه أحياناً ليست قليلة إلى مستوى النظم الذي يوازي "الزجل" الذي لا يهتم إلاَّ بتلبيس المعاني الصريحة ـ و دع عنك حظها من الرجاحة ـ في موازير الوزن و قواعد الروي و القافية. و لقد فقد كاتب القصيدة التي لا أستطيع وصفها إلاَّ بالركاكة، المفروضة من جانب النسق التعليمي الزائف على كافة تلاميذ مصر، حساسية الشاعر تماماً عندما عيَّن المسؤولين عن ذلك الفعل، بل و وجه إليهم خطابه: /أيها القائمون بالأمر فينا/
فإذا جئنا إلى "عبد الصبور" فإننا نفاجأ بمفردة "التنين" التي و إن كانت تشير إلى أسطورة جنوب-شرق أسيوية، بصفة رئيسية، رائعة، إلاَّ أنها أجنبية، و ليس على استدعاء أساطير الأجانب أي مأخذ من جانبي، شرط امتلاك المستدعي للقدرة على استيعابها و دمجها في نسقه هو الخاص، و لكن يبدو أن أجنبيتها هذه أعجزت "عبد الصبور" أي مستدعيها نفسه إلى بنية العقل و الوجدان المصريين، عن توظيفها في قصيدته. فـ "التنين" قد يكون مرعباً برؤوسه المتعددة و جرمه الضخم و لا بشريته...إلخ أما الحزن فقد يكون شديد الوطأة و قد يكون قاهراً و قد يكون فاتاً في العضد مشيعاً للعجز، و الوطةالااااو لكنه على وجه التحديد ليس مرعباً. و ما كان ينبغي أن يغيب عن شاعر في قامة "عبد الصبور" ذلك الفرق بين الرعب و الحزن. فالرعب ينبثق باستمرار رداً عل عنصر مفاجئ مجهول، أما الحزن فيترقرق بصفة شبه دائمة استجابة لعنصر معلوم غير مفاجئ، هو في حالتنا هذه: حادث "شنق زهران"، الذي كان قد مر عليه وقت طويل بالنسبة للمبدع المصري- المصري الذي لم يترك إمضاءه على عمله الفذ، و وقتٍ أطول بالنسبة لنا نحن الذين نضم الشاعر الحديث "عبد الصبور".
و يقف عجز هذا الشاعر المعاصر عن توظيف ما هو أجنبي في قصيدته بمثابة السر وراء استشعار المتأمل لفعل "مشى" في عبارة "مشى التنين" أمام هبوط تعبيري understatement واضح. على أن مفردة "التنين" ليست هي المفردة الوحيدة الأجنبية فـ "الأكواخ" كذلك. و القصيدة كلها، في الحقيقة، مكتوبة بلغة مجهولة تمام الجهل بالنسبة لوجدان أكرر وجدان المصريين.
على الجانب الآخر نجد في موال المصريين-المصريين "جدور" عميقة تربط "زهران" بطلنا بأرضه "دنشواي": أمه و أبوه و اخواته. و نقابل كلماتٍ بسيطة بلا تزويق و لا تلوين، بلا استعارات خلابة و لا تشبيهات تجمع متنافرات شديدة التباعد. و مع ذلك فهي لغة مفعمة بالشعر على نحوٍ معجز، إذ يتعذَّر ـ إن لم نقل يستحيل ـ علينا أن نترجمها إلى لغة بديلة أخرى دون أن تفقد نصف ما تحمل على الأقل، ليس من معاني و حسب، بل و من ارتباطات و إيحاءاتٍ و ظلال. و انظر معي ـ قارئي الكريم ـ على سبيل المثال، إلى حرفيْ "الحاء" المسبوقين بصائتين طويلين في كلمتيْ "بتنوح" و "السطوح"، و كم يشبهان سكينين حاميين يلقيان و الأولى ينزان في الفؤاد جروحاً طويلة الأثر و افتقاداً مبرِّحاً و لوعة شجية. و تطلَّع معي، إلى ذلك "الأب" الذي يشبهه الشاعر العبقري المجهول بـ "السبع"، بما لهذا "الحيوان الممجد على لسان المصريين-المصريين" من ارتباطات تدور حول "العزة و الأنفة و الرفعة" ـ و ليس الأسد الذي يُعد رمزاً قومياً عند العرب ـ و كيف وقف عاجزاً كل العجز عن أن يفعل شيئاً يحول دون ما تفرضه قوة قاهرة على فلذة كبده، سوى أن يتابع ما يدور. أليس يرجِّع هذا السطر الأصداء التي كان السطر الأول قد ألقاها في وجداننا حول "صعوبة" الموقف؟
و لكن ما هي تلك القوة القاهرة؟ يهمل الشاعر الأمي الساكن في أميته و نتيجة مباشرة لها أي بسبب "تلوثه" بأعظم حضارة، على وجه الترجيح، عرفها شمال شرق أفريقيا و جنوب أوروبا، أو الشرق الأوسط القديم، و بتعبيري الأثير "أفريقيا المتوسطية"L'Afrique Mediterranée ، كل ذكر لتلك القوة، سواء بشكلٍ صريح أو ضمني، و ذلك على النقيض من صاحب "القائمون بالأمر فينا"، فيرتفع شعره إلى ذرى تجاوز أعناق السماء، فلقد أدى ذلك الإهمال "الحسيس"sensible بتلك القوة أن تبدأ من المادي و تمضي إلى الميتافزيقي ذاته، أي أن "زهران" الإنسان يقف هنا ليس في مواجهة الإنجليز و حسب، بل القدر نفسه، تماماً كما وقف الإنسان في التراجيديات اليونانية القديمة. فلقد كان "زهران" إنساناً عادياً في ضمير الشاعر المصري-الأمي المجهول، كما كان بطلاً كذلك أي أكبر من البشر، و مثل هذا الإنسان الأكبر من البشر لا يرضى له شاعرنا المصري-المصري أن يوضع في مواجهة الإنجليز-البشر و حسب، و إلاَّ فإنه يكون عندئذِ قد اجترح بطولته و انتقص نبالته و خدش عظمته.
شعر شعبي أم شعر مصري:
قد يكون نقدي موفقاً و قد لا يكون، فلست ناقداً و لا أطمح أن أكون. لكن الحقيقة تظل قائمة، في ظني، أو على الأقل هذا ما يبدو لي: ليس لـ "المتعلمين المصريين" أي حق فيما يستشعرونه من استعلاء أمام شعر الأميين المصريين أي المصريين-المصريين، و هو استعلاء لا يكتفي بأن يجري على ألسنتهم بين الحين و الآخر دعوات من قبيل التطوير، بل و يجعل شريحة من كبار "المتعلمين المصريين" و أقصد هنا "الأكاديميين" من مدرسي "الأدب الشعبي" في مصر يطلقون على مثل هذا الشعر الخالص المصرية مصطلح "الأدب الشعبي"، و هو الأمر الذي يفترض ـ و هذا ما ينسونه أو يتناسوه ـ أن يكون الأدب الرسمى الأرقى شعراً مصرياً أيضاً. و هذا ليس صحيحاً. و إيضاحاً للأمر أسوق هذا المثال: الشعر الهندي الموازي لشعرنا هذا في ولاية "أوتار براديش" شعر شعبي. لماذا؟ لأن الشعر الرسمي في نفس الولاية ناطق أيضاً باللغة الهندية، و ليس بالإيرانية أو المغولية أو غيرهما من لغات أجنبية بالنسبة للهنود، بل و ليس ناطقاً حتى بالسنسيكرتية القديمة المقدسة التي كانت لغة قومية/رسمية في الهند في أزمنةٍ سابقة و لم تعد كذلك مع هنديتها غير المنكورة.
و معنى القول أن الفرق بين ما هو شعبي و ما هو رسمي في الهند هو فرق في المستوى الذي يستخدم عنده الشعراء الشعبيون نفس اللغة الهندية. و نفس الأمر ينطبق على كافة الدول-القومية Ētat-nations في كافة أنحاء العالم أي تلك التي تتخذ لغتها القومية/الأم لغة رسمية لها. أما في مصر فالأمر مختلف، و هو أشبه بالأمر في فنلندا إبان السيادة الثقافية للسويد، و هي السيادة التي أسفرت، ضمن ما أسفرت عنه ـ عن جعل اللغة السويدية لغة رسمية للفنلنديين، و هو ما يشبه إلى حدٍ ليس بالقليل، الوضع في بنجلاديش قبل الإستقلال في مطلع السبعينات، إبان السيادة الثقافية الباكستانية و في قلبها اللغة "الأوردية". فالشعر الفنلندي كان يُوصف ـ بالخطأ ـ بأنه شعر شعبي. و لكن ذلك لم يكن صحيحاً و ظل الأمر كذلك حتى نجح الفنلنديون تحت قيادة مثقفيهم بطبيعة الحال في تصعيد لغتهم "العامية" أي الفنلندية التي كانت تحمله إلى مستوى اللغة الرسمية للبلاد. و في هذا الإطار جمع الشعراء ذلك الشعر الذي ُوصف يوماً بأنه "شعبي" كي ينسجوه في ملحمة "كاليفالا" الرائعة كي يصبح شعراً رسمياً و غدت هذه الملحمة، هي الأخرى فنلندية رسمية. و على نفس النول أو المنوال ـ كيلا يغضب "المتعلمون المصريون" ـ سوف يظل من الخطأ وصف شعرنا المصري بأنه شعبي طالما ظلت اللغة الرسمية للبلاد لغة أخرى بخلاف "اللغة المصري الحديثة"(=اللمح) حسب تسميتي. و مرادي في هذه النقطة لا يعدو الدعوة إلى تدريس هذا الشعر الخالص المصرية لكافة تلاميذ مصر من المالح حتى الشلالات، عوضاً عن الإكتفاء بدرسه في مدرجات قسم يسمى قسم "الأدب الشعبي" في كلية الآداب بجامعة "القاهرة" و الأصح "الكاهرا"، إلى جانب أقسام اللغات الأجنبية كالأسباني و الياباني و الصيني الخ، و بعبارة أخرى: ينبغي أن يعمل التعليم المصري ـ لو كان له وجود ـ على تسييد روح مصر في واديها، بدلاً من حبسها بين أربعة جدران، و هو الحبس الذي يُساهم، دون جدال، في محو الشخصية القومية للمصريين المعاصرين.
ابن عروس مصرياً:
و نفس الأمر يسير على شعر "ابن عروس" الذي تقطع {لغته المصري الحديثة "اللمح"} بنسبته إلى الناطقين بهذه اللغة دون من بنوا له و الأدق لسمِّيه ضريحاً في بلادهم. و انصت معي ـ قارئي الكريم ـ إلى سطرين اثنين من شعر هذا الشاعر المصري الأصيل:
من قدم السبت يلقا الحد قدامه،
من خدم الناسِ صارو الناسِ خدامه!
مدح و ردح:
و قارن بين هذا الشعر الذي قد يرميه هذا الناقد أو ذاك بأنه: مباشر، و بين ما جاء في ديوان الشعر العربي الذي ينقسم أو يكاد إلى نصفين: المدح و الردح أو الهجو/الهجاء، لمن يشاء، مما تفرضه الثقافة المسيِّدة قسراً في أرض "إيزيس"خلال النسق التعليمي في مصر على تلاميذنا من قبيل:
وجهك يا عمرو فيه طول/ وفي وجوه الكلاب طولُ. أو: "قولا لـ "دبسٍ" شر من يطأ التراب و يلمس/إن كان أنفك هكذا فالفيل عندك أفطسُ، أو: "كأنك شمس و الملوك كواكب/إذا طلعت لم يبدُ منهن كوكبُ"، أو، "ما شئت لا ما شاءت الأقدار، فاحكم فأنت الواحد القهار"ُ، الخ و في نهاية المطاف الوقاحة و النفاق. فالثقافة في نهاية الأمر سلوك.
و لسوف أتجاوز هنا صمت أولئك "الأكاديميين المصريين" عن العدوان الذي يتعرض له الإنجاز المصري في مجال ما يُسمونه بـ "الشعر الشعبي" كلما اضطر خدم و حشم البلاط العسكري الحاكم، من بين "المتعلمين المصريين" إلى الإتكاء على هذه "التيمة" أو تلك من "تيمات" ذلك "الأدب الشعبي"(استبدال كلمة "رجلي" في موال: "إتدلع يا رشيدي على وش الماية/سيب رجلي و امسك إيدي على وش الماية" نموذجاً) و هو عدوان طال حتى نشيد "سيد درويش" الخالد الذكر بإقحام عبارة "وي ناصر يا بلادي" في آخر النشيد خلال مصر الناصرية. و لسوف أكتفي بوصف موقف أولئك "السادة الأفاضل" بالصمت بدلاً من الترحيب الذي، أرى فيه، كلما حدث، نتيجة مباشرة لتبني "الثقافة السامية" بوجهها العربي المتدني بمراحل واسعة من ثقافة قطاعات أخرى من الساميين و مراحل أوسع كثيرة من ثقافة المصريين-المصريين. و أرجو أن يتوفر عندي وقت للعودة إلى نفس هذا الموضوع في وقت لاحق و مكانٍ أرحب.
نموذج من شعر الحب:
و إليك سيدي مثالٌ آخر في شعر الحب من ديوان الشعر المصري-المصري، سوف أتركه دون تعليق:
عجبي على بنت دبِّلتني بدي أقابلها،
مكحَّلة العين لكين الكحـل سابلها،
مطرَّزة التوب من ديلها لقابلها،
و نهود البنت يا ناس شايلين التوب،
زغيَّرة في السن داخلة على بلاغ يادوب،
من شافها مرة يدوب يا ناس يا ناس جسمه دوب،
يا بخت مين احتضى في العمر مرة و قابلها،
ترد فيه الروح كنه "طيبة" و زايرها!
لغتان و ثقافتان:
غير أن كل ذلك يفترض التسليم بأن في مصر لغتين و ثقافتين و ليس لغة واحدة و ثقافة واحدة. و ليس هناك من يستطيع نفي موقف الأكاديميين الذين عادوا من عواصم غربية عديدة بشهاداتٍ في هذا التخصص بدءاً بـ د."ع.يونس" و هو الموقف الذي يقوم على الإستعلاء في الوقت الذي يقبل فيه هؤلاء الأكاديميون وصف الخبراء ـ و لا أقول العلماء ـ الأمريكان، بصفة عامة للغة التي تحمل مثل هذا الشعر خاصة و الأدب بصفة عامة، بأنها "عامية"، أي ركيكة. و ليس "لغة العموم"، كما يزعم بعض الأدعياء، و دليلي في هذه النقطة أن مقابلها هو "فُصحى" بأفعل التفضيل المشهورة. و هو قبول يوازي تسليمهم في وقتٍ سابق، لوصف الخبراء البريطان، بصفة عامة، لنفس هذه اللغة بأنها "لهجة"، و القبول و التسليم هنا تامين، حيث أن هؤلاء الأكاديميين لم يسلكوا يوماً إلاَّ بناء عليهما. و هذا واضح سافر في استخدامهم للغة الوافدة من غرب آسيا في أواسط القرن السابع من العصر المعروف(=م.ع.م.) ـ و دع عنك استخدامهم أحياناً للغات الأوروبية بمبررات أقوى ـ في كافة البحوث و الدراسات و الأوراق بل و الشروحات التي يدبجونها بشأن ذلك الأدب المصري الكامل المصرية، و إن لم يفز منهم بهذه الصفة، كما فاز بها الأدب الموازي الذي أنتجه الفنلنديون في بلادهم، بعد أن تحرروا من "فصحاهم" الأجنبية، على سبيل المثال.
لغتان تساويان ثقافتان، سواء في مصر أو أي بقعة أخرى من بقاع العالم. و بخصوص مصر نجد أن اللغة الأولى هي اللغة العربية "الفصحى" الوافدة و الرسمية و المضطهدة(بكسر الهاء) و اللغة الثانية هي اللغة القوميةMuttersprache التي يُعلمنا الفرع النفسي من اللغويات Pycholiguistics أنها اللغة التي "يكتسبها" الطفل خلال طفولته، أي قبل أن يُكمل الخامسة من عمره على وجه التقريب. و ذلك نظير كافة اللغات التي قد "يتعلمها" في أوقاتٍ لاحقة من عمره فكل هذه اللغات تُعد بالنسبة إليه لغاتٍ أجنبية. و في هذا الصدد يقول بعض الأقوام أننا لو كنا نتكلم "الفصحى" أمام أطفالنا لنطقوا هم أيضاً بها، و لكن مثل هذا القول هو قول وعظي، لا يعني العلماء في كثير و لا قليل. و لكنه يشي، مع ذلك، بدرجة مخيفة من اللامنطق، إذ يوهمنا أن بوسع "الكبار" أن يعمدوا إلى النطق بأي لغة خلاف لغتهم الأم أمام أطفالهم!
تصارع أم تعايش:
و اللغتان العربية-السامية و المصرية-الحامية تصطرعان، مثلما تصطرع الثقافتان اللتان تحملانها: الثقافة العربية-السامية و الثقافة المصرية-الأفريقية. و لا تتعايشان، مثلما يدعي قطاعٌ لا يستهان بحجمه من "المتعلمين المصريين"، و يطمئنون إلى إدعائهم. فكل ثقافة من هاتين الثقافتين تقدم وجهة نظر مستقلة عن الأخرى و مغايرة عن بنت عمها للعالم و الإنسان و المرأة و المجتمع و الوطن إلخ. و الثقافة العربية-السامية و في قلبها اللغة العربية تشن الهجوم في حين لا تملك الثقافة القومية المصرية و في قلبها {اللغة المصري الحديثة "اللمح"} سوى المقاومة أي أنها هبطت إلى مستوى الدفاع عن نفسها في أرضها التاريخية!
و لننصت إلى نماذج محدودة لضيق المساحة التي يتيحها هذا التقديم من الأمثال و الأولى من الحكم المصرية التي تنهض بمقاومة الثقافة العربية-السامية الوافدة من غرب آسيا:
العرب جرب
ظلم الغز و لا عدل العرب
الوضو ع الفلاحين و الضراط ع "الهوارة"(=قبيلة عربية وافدة)
كناس الدنيا زبال الأخرة
نوم الظالم عبادة
العمل عبادة
يشخ على كعبه و يقول دا قضا ربه
لولا يغفر جنته تُصفر
الطاعون جالكو السنة دي؟ قالو: جالنا مرتين الطاعون و العرب.
راكب سرجين وقَّاع و راجل مرتين كداب(سوداني)
ربنا عرفوه بالعقل.
و بطبيعة الحال ليست هذه هي الأمثال الأشد مقاومة للثقافة العربية-السامية. فالأمثال الأخرى، و كما لا يجهل كثيرون أفصح و أوضح و "أنقح". و لكنني أحمل، مثل يفعل سائرالكتاب في منطقتنا، عن اضطرار بطبيعة الحال، رقيبي داخلي. أضف إلى ذلك أن الأمثال ليست الشكل الوحيد الذي يحمل ثقافة المصريين-المصريين أي المصريين-الأميين، و كما سبق لي القول، بل و لا الشكل الأهم. فهناك المواويل و الواوات و المربعات و الحواديت و "القوافي" و العديد و "النميم" و النكت إلخ، و بعبارة أخرى منظومة متكاملة لـ "ثقافة قومية".
الأميون المصريون و فاشيتهم:
و أذكر في هذا الصدد أنني التقيت في سنة 1984 ، و خلال مؤتمر صحفيي دول عدم الانحيازالذي انعقد في "بيونج يانج"، عاصمة كوريا الشمالية، بعدد كبير من صحفيي القارتين الأفريقية و الأسيوية و ربما الأمريكية اللاتينية، إن لم تكن الذاكرة قد خانتني، لكنني لن أنسى انطباع أولئك الصحفيين عن النكت التي أنتجها المصريون-المصريون أي المصريون-الأميون، و وجهوها في سبيل مقاومة الدكتاتورية-العسكرية، و خصوصاً نكتة المواطن الصالح الذي توجه إلى صندوق الإقتراع للإدلاء بصوته في أحد الاستفتاءات التي تخيِّر المواطنين بين "نعم" و "لا"، و هي النكتة التي تجري على هذا النحو:
"واحد ابن بلد حب يروح يستفتي. الموظف ناوله البطاقة و هي ع الوش اللي مكتوب عليه: نعم.
صاحبنا ابن البلد قلب البطاقة ع الوش التاني قام لقا مكتوب عليه: نعمين!"
و الحقيقة أن رد فعل زملائنا من صحفيي القارات الثلاث الذين توجهوا إلى "بيونج-يانج" هو الذي أيقظني على أن تلك النكتة العابرة تمثِّل أبرع نقد، استطاع أي شعب من شعوب المعمورة في نطاق معلوماتي أن يوجهه ـ خلال هذا الأسلوب الساخر الذي يرصد الحقيقة عارية، و يُضيف إليها نزف الألم ـ إلى نموذج الاستفتاء الذي يلجأ إليه عسكريون-دكتاتوريون و أصوليون-دكتاتوريون في كثير من أرجاء العالم. و غني عن الذكر أن لغة النكتة حاسمة في نسبتها إلى المصريين-المصريين أي المصريين-الأميين حتى و لو رواها عنهم "متعلمون مصريون" في أوقاتٍ لاحقة.
وضع شاذ:
تقف الثقافة القومية المصرية، كما سبق لي القول، في وضع الدفاع في أرضها التاريخية في الشرق الأوسط الحديث، حسب التسمية السائدة حالياً لمنطقتنا، و بعبارة أخرى يقف "المصريون الأميون" في حالة مقاومة، وحدهم و دون متعلميهم. و هذا وضع شاذ بالغ الشذوذ لا يُعرف له نظير في العالم أجمع شرقيه و غربيه، شماليه و جنوبيه. و الأنكت أن "المتعلمين المصريين" لا يعوون مجرد الوعي بوجود ثقافتين في مصر فضلاً عن وجود صراعٍ بينهما.
و لكن لماذا أنتصر، على هذا النحو، للثقافة المصرية، و في قلبها بطبيعة الحال "اللمح"، حتى إذا سلَّم "المتعلمون المصريون" للحظة واحدة، بما أقول من صراعٍ حاد بينها و بين الثقافة الأخرى و في قلبها اللغة الأخرى؟
جوابي هو أنتصر لهما لسببين:
الأول: أنها الثقافة التي تنحدر إليَّ من جدودي المصريين القدماء، و لا أقول الفراعنة و حسب، أولئك الذين بنوا إحدى أعظم حضارات، إن لم أقل أعظم حضارة في العصرين الحجري الحديثNeolithique و البرونزي في الشرق الأوسط القديم و الأدق في شمال شرق أفريقيا و جنوب أوروبا، و بتعبيري الأثير "أفريقيا المتوسطية" و ذلك عن طريق التواتر، أي ثقافتي القومية، بمعنى الثقافة التي أتقنها تمام الإتقان، دون أدنى معاناة، و ذلك خلال "الاكتساب" و تلمس شغاف وجداني دون قفزٍ على أي حواجز، أي دون حاجةٍ مني إلى تعلُّم أبجدياتها في دور تعليم.
الثاني: أنها الثقافة الأرقى في المنطقة، بمعنى أنها أكثر إنسانية و أكثر تسامحاً و أكثر قبولاً للآخر و أكثر عقلانية و أوسع غنى بالأساطير و أفصح تعبيراً عن الثقافة العربية-السامية التي يريد الخبراء الأنجلو-أمريكيون و متدربوهم من أكاديميينا أن تسود و أن تسيطر و أن تمحو كل أثر لأي ثقافة أخرى أصلية قومية محليةautochtone في مصر كالنوبية و البجاوية و السيوية إلخ.
و معنى القول، بصريح العبارة أن خسارة الثقافة المصرية، و هذا هدف يسعى إليه أعداء تاريخيون للمنطقة في معظم الأوقات سراً و أحياناً علناً، هي خسارة للمصريين، و كذلك لكافة سكان المنطقة من جميع القوميات، بمن فيهم الساميون أنفسهم أي كلٍ من العرب و العبرانيين معاً.
إبادة ذاتية:
و إذا كان المصريون الذين كانوا، حتى يوم الأربعاء الأسود المشهور، قبل أكثر من نصف قرن، أرقي شعوب المنطقة، كما يُؤكد لنا أجانب غير مغرضين (الهنود نموذجاً) يبدون اليوم "أدنى" من العرب-الساميين أنفسهم، فذلك راجع بالتحديد، إلى أن من يُسمون أنفسهم أو يُسميهم الآخرون عرباً يبدون "تعساء" بثقافتهم العربية-السامية (خلع الخليجيات لـ "السدال" في إطار مقاومة "الأصولية الوهابية" نموذجاً). و قد نشرت جريدة "اليوم" التي تصدر في منطقة "الإحساء" الشرقية في أواسط السبعينات من القرن الماضي قصيدة تدعو المرأة هناك إلى خلعه بدأها الشاعر الذي كان يستشرف وقت ذاك الأفق الآتي بهذا السطر: لا تخافي مزقيه.) في حين أن "المصريين-الساميين" أي "المصريين-المتعلمين" يبدون "سعداء" بتبنيهم للثقافة العربية-السامية، مع أنها مفروضة عليهم من جانب "الخبراء" الأمريكيين بصفة خاصة و الغربيين بصفة عامة عبر نسقين يُمليهما على المنطقة هؤلاء "الخبراء" و هما التعليم و الإعلام(إعتزاز و افتخار و ابتهاج المرأة المصرية-العربية/السامية أي "المصريات-المتعلمات" بلبس الحجاب فالخمار فالنقاب فالسدال. هجوم تحالف العسكروت-الكهنوت الحاكم في مصر، تحت رعاية الولايات المتحدة على "الفراعنة و نصب "الموالد"و زيارة القبور، و التبرك بالأضرحة إلخ. نماذج)، و هو الأمر الذي يرقى في رأينا إلى اتخاذ قرارٍ بالإبادة-الذاتيةSelf-genocide و لا نبالغ إلاَّ قليلاً للغاية إذا وصَّفناها بـ "المحرقة-الذاتية"Self-holocaust .
ضرورة القومية:
لست أكشف سراً إذا قلت أن جزءاً من موقفي هذا من قوميني المصرية جاء على سبيل "الانعكاس" للقوميات العديدة التي اتصلت بأبنائها على نحو أو آخر.
زرت ألمانيا "الغربية" في سنة 1982 و كانت العاصمة الألمانية العريقة "برلين" كما نعرف جميعاً خاضعة وقت ذاك لاحتلال رباعي: الإتحاد السوفييتي(الراحل) و الولايات المتحدة و بريطانيا و فرنسا. و أمام متحف الآثار المصرية في مدينة "ميونخ" و قفت أتبادل الحديث مع الحارس العجوز. و كم كانت سعادته عندما بدأت حديثي معه باللغة الألمانية. و لكن هذه السعادة انقلبت إلى غضب قاتم عندما حوَّدت على اللغة الانجليزية كي أستخدم مصطلحاً في علم المصريات. أخذ خطوتين إلى الوراء كي يلقي عليَّ محاضرة باللغة الألمانية عن وطنه ألمانيا "المحتلة" بدأها هكذا:
ـ ألمانيا دولة عظمى و ينبغي على جميع زائريها أن يتقنوا اللغة الألمانية، لغة "جوته" و "شيللر" و "بريخت" و هاينى"...
و عقب المحاضرة التي سمَّعني (=أسمعني) إياها هذا الحارس الألماني المجيد أخذت أتأمل موقف المصريين المعاصرين من مصرييتهم و لغتهم "اللمح"، تلك التي لا يُدركون أصلاً أن لها وجوداً. و إذا أشار شخصٌ ما إليها، إندفعوا لمن لدغه دكر عقرب يافع، كي يرددوا أفكاراً بالية، شديدة الخطأ بالغة الضرر معاً. و فوق ذلك ليست أفكارهم الخاصة، بل الأفكار الذي فُرضت عليهم فرضاً خلال النسقين الزائفين في مصر: "التعليم" أو ما يبدو أنه كذلك و "الإعلام" المتوحش، الذي بلغت ساعات إرساله المسموع و المرئي خلال العهد الناصري، ما وضع مصر في مرتبة الدولة الثانية على نطاق العالم بعد الإتحاد السوفييتي(الراحل) الذي كان يضم 15 قومية/لغة مختلفة!
و الغريب في الأمر أنهم يرددون تلك الأفكار و كأنها أفكارهم هم التي أنتجوها و تشكل جزءاً لا يتجزَّأ من كرامتهم الشخصية التي ينبغي أن يدافعوا عنها حتى الموت و الاستشهاد، موت مخالفيهم و استشهادهم بطبيعة الحال.
و يومها تذكرت موقف أستاذنا "بيتر فولف" الذي كان يُدرِّس لنا اللغة الألمانية في أواخر الستينات في "أسوان" عندما مرت على لساني أثناء الدرس عبارة "ألمانيا الشرقية"، و كيف انفجر داخله بركان ثائر، بذل قصارى جهده كي يسيطر عليه بأسنانه المجزوزة و قبضتيه اللتين أخذتا ترتجفان على جانبي أذنيه، و كأن ثعبان كوبرا قد عضه، و هو يشرح:
ـ لا يوجد شيئ إسمه "ألمانيا الشرقية"، بل يُوجد شرق ألمانيا و هو "بولندا".
و ذات يوم و خلال زيارتي التي أشرت إليها قبل قليل لألمانيا، سألت عن الطريق لأحد الألمان باللغة الفرنسية في مدينة "هانوفر". فما كان منه إلا أن رد باللغة الفرنسية ذاتها:
Ah! Vous parlez le français que je ne l’aime pas de tout!
و اكتفى بذلك. و لم يرد على سؤالي، أي أنه أفهمني أنه يعرف الفرنسية، لغة الفرنسيين الذين يحتلون عاصمة بلاده العريقة "برلين" في إطار الإحتلال الرباعي لها. لكنه لن يستخدمها حتى في الرد على سؤالٍ من عابر طريق.
و قد يقول قائل أنهم الألمان الذي انبثقت بينهم "النازية". و لكنه الاعتزاز القومي، و هو الأمر الذي يُعد بمثابة الخبز الروحي الذي يقتات عليه كل البشر في كافة البلدان التي زرتها من كوريا شرقاً إلى "ويلز" غرباً. و إن كنت أنسى فلن أنسى موقف صديقي المستشرق السويدي "إنجفار ريدبيرج" الذي ذكرت أمامه خلال زيارته لمصر في شتاء 2001دولة "فنلندا"، فإذا به يصحح لي معلوماتي ـ بهدوء بالغ ـ بأن ما أشير إليه باسم دولة فنلندا ليس سوى مقاطعة "متمردة" من السويد.
و بطبيعة الحال لأستاذي الألماني و صديقي السويدي آراؤهما. و لكنني أود هنا أن أشير إلى إعتزازهما القومي. فلكل قومية أساطيرها، التي تتفق أو تختلف عن الواقع إلى هذا الحد أو ذاك، لكنها في الحالتين تشكِّل جزءاً لا يتجزَّأ من تاريخها الخاص، فيما عدا قومية واحدة، مع أنها أقدم قومية عرفها التاريخ.
دفاعاً عن اللغة الأم:
و نعرف أو ينبغي علينا، أن الضحايا الذين سقطوا خلال المظاهرات الضخمة التي نظَّمها البنغاليون يوم 21 أمشير/فبراير سنة 1952، فيما كان يُسمى وقت ذاك بـ "باكستان الشرقية"، دفاعاً عن حقهم في استخدام لغتهم البنغالية "العامية" كلغة رسمية للبلاد أي في "باكستان" التي كانت قائمة وقت ذاك، إلى جانب اللغة الرسمية "الفصحى": الأوردية، كانوا بمثابة المبشرين بفجر الاستقلال الذي تحقق لهم في سنة 1972، تحت اسم "بنجلاديش" أي بلاد البنغاليين. و على أي حال تلك هي الذكرى العطرة التي يحتفل بها أبناء "بنجلاديش" بصفة سنوية الآن أمام النصب الذي أقاموه تخليداً للضحايا العزاز، و فضلاً عن ذلك هو اليوم الذي ارتأت الأمم المتحدة أن تفرده للاحتفال العالمي باللغات القومية.
قل هي القومية:
و لقد شاهدت، مثلما شاهد كثيرون منا عبر شاشات التليفزيون صورة تلك السيدة الكورية الجنوبية العجوزة (=العجوز) تندفع نحو ضابط كوري جنوبي شاب يرتدي الزي الرسمي و مدجج بالسلاح خلال المظاهرات التي بلغ قوامها 200 ألف نفس، تلك التي حاصرت مبنى المحكمة التي مثل أمامها الجنرالان اللذان قادا انقلاباً عسكرياً وحشياً في "سول" في بداية تسعينات القرن العشرين: "بارك-تشونج-هي"Park Chung Hee ، و "تشون-دوو-هوان"Chun Doo Hwan ، و كيف رفعت ذراعها الأيمن(و ليس اليمنى) و صفعته على وجهه، ليس بأصابعها و ليس بيدها بل بكامل ذراعها. و كيف تجمَّدت اللحظة التالية مباشرة كي تشهد الضابط الكوري الشاب، و قد سقطت رأسه على صدره كي يتلقي الصفعة التالية، هذه المرة بظهر يد ذراع السيدة العجوزة نفسها. غير أن السؤال الذي لم يسأله أحد من "المتعلمين المصريين" من زملائي الذين كانوا يقفون بجواري يتطلَّعون إلى نفس المشهد بل و تعذَّر عليهم أن يستوعبوه عندما وجد من يسأله هو:
ـ لماذا جاء رد فعل هذا الضابط الكوري المفتول العضلات، المدجج بالسلاح و ربما المسنود أيضاً بالتعليمات على هذا النحو، مع أنه كان يستطيع لو سمح له ضميره الوطني، أن يصرع بحركة واحدة، تلك السيدة العجوزة التي صفعته؟
و بالتالي فإن مثل هذا الجواب لم يكن و لا يُمكن أن يكون جوابهم و لا تفسيرهم بحالٍ من الأحوال لما حدث:
ـ قل هي القومية الكورية العميقة، التي وضعت في ذراع هذه السيدة العجوزة كل ما تستطيع حمله من القوة التي يملكها الكوريون جميعاً، بما فيها قوة هذا الضابط نفسه، بصفته إبناً باراً لكوريا المقدسة، يستحق شخصه من كل الكوريين لموقفه هذا كل إكبار و كل إجلال، فلقد أدرك في لمح البصر أن هذه السيدة تضربه ليس لأنها تكرهه، بل لأنها تحبه، كما تعاقب أي أم كورية إبنها عندما تضبطه في موقفٍ لا يليق بأي كوري أن يضع نفسه فيه: أن يقف حارساً لعدو الكوريين، حتى و لو كان من أبناء جلدتهم، و بعبارة أخرى يحاول صد غضب الكوريين المتفجر ضد هذا العدو. فمثل هذا الضابط لم يتعرَّض يوماً، و لا يُمكن أن يكون قد تعرَّض حتى في أشد الكوابيس إزعاجاً لمن يوسوس في أذنيه بأن البوذي الياباني ـ مثلاً ـ أقرب إليه من الكوري المسيحي، مثلما يتعرض المصري في ظل الثقافة السائدة في الوطن الوحيد الذي لم يعُد، دون كل الأوطان، مقدَّساً، و ذلك بعد غروب شمس الفراعنة العظام. و لعلنا نعرف أو ينبغي علينا أن الإيطاليين يقولون عن وطنهم Italia Sacra و الفرنسيين France Sacrée و الأسبان España Sagrada و أعرف عن الروس أنهم يقولون عن بلادهم "تسفتايا راسيا " أي "روسيا المقدسة"...إلخ.
و في "روسيا المقدسة" هذه مثل كافة الأوطان فيما عدا وطن، لم يُوقف انحدار صخرة الانهيار التي اندفعت من قمة جبل غير منظور، تساعدها الرياح الغربية، عقب رحيل الإتحاد السوفييتي، سواها: القومية الروسية. و أختار عفو الخاطر موقف البرلمان الروسي أو "الدوما" من مشروع القانون المسمى بقانون "حرية الأديان" الذي رفعه إليه الرئيس السابق "بوريس يلتسين"، و هو القانون الذي كان ليسمح لو مر بحرية الكنيسة الأمريكية: كنيسة السينتولوجي Church of Scientology في التبشير في الأراضي الروسية. و هنا انتفضت الكنيسة الروسية القومية "الأرثوذوكسية" ضد المشروع، و إلى جانبها "الدوما"، الذي انتهى بعد جدل ساخن إلى رفضه، و حظر أي تبشير في "روسيا المقدسة" إلاَّ تحت إشراف الكنيسة الروسية. و على أي حال صادفت هذه الكنيسة الأمريكية المشبوهة نفس المصير بالتقريب في بلدان أوروبية أخرى بعضها حليف وثيق للولايات المتحدة بينها ألمانيا بل و بريطانيا ذاتها.
و لعلنا نذكر قائد قوات "الكومنتانج" الجنرال "تشانج-هسو-ليانج" أو "زهانج شيلوانج" كما كان يُعرف في الصين الأم، الذي اختطف "تشانج-كاي-شيك" رئيسه و رئيس الصين في سنة 1936 كي يُجبره على وقف الحرب التي يخوضها ضد الشيوعيين و الانضمام إليهم عوضاً عن محاربتهم في تصديهم للغزاة اليابانيين، مع أن "شويلياخ" لم يكن شيوعياً و لا متعاطفاً مع الشيوعيين بل يقود قوات حكومة الحزب الوطني الحاكم: "الكومنتانج" ضدهم.
مجتمع قبل- قومي:
وقعت عيناي خلال إقامتي في أواسط السبعينات في عاصمة خليجية للعمل على6 فرداً من البوليس الديني، و هم يُعطون سيدة شابة "طريحة" ساخنة بعد أن فرشوها على أسفلت الشارع، إذ وقفوا كل ثلاثة على جانب و نزلوا يرصون ضرباتهم بالعصي الخيرزان التي لا يقل طولها عن مترين، و يُمسك كلٌ منهم عصاه بيديه الإثنين كفلاح يعزق أرضاً. و كانت ضرباتهم تنزل ضربة في ريح ضربة، كي تمزِّق ثوبها فجلدها فلحمها، بدقة لا يملكها بعض من يُمسكون بالقلم، و رهافة لا نقابلها إلاَّ في الأعمال الفنية الراقية. و السؤال الذي طرأ على ذهني وقتها:
ـ لماذا جاء رد فعل الرجال من مواطني و الأولى من رعايا تلك البلاد على ذلك النحو: مضوا في طريقهم بعد أن شمَّروا أذيال جلابيبهم كيلا تعوصها الدماء التي نتجت عن العقاب الذي نزل في ساعته بسيدة ترتدي "السدال"، دون الإكتفاء بـ "الحجاب" أو "الخمار" أو "النقاب". و كل جريمتها أن "سنيحاً" من كعبها الذي تخضبه الحناء كان يظهر ـ و ياللهول ـ للأجانب، كلما مدَّت قدمها أثناء سيرها في الطريق العام!
و كان أن تساءلت في ذلك الوقت مرة أخرى:
ـ هل يستطيع هذا المشهد أن يتكرر حتى الآن ـ و رغم كل ما حدث في أرض "إيزيس"ـ في أي بقعة في مصر ضد أي سيدة مصرية أو غير مصرية مهما كانت جريمتها؟
و عودٌ على بدء رأيت في تلك البلاد، السواقين(=السائقين) و هم "بيدوسو بنزين" حتى يلحقوا قطة يتصادف عبورها للطريق كي يسووها بالأرض، و هم يتضاحكون و يتعابثون و يشاركهم الركاب من مواطنيهم صخبهم عند سماعهم و الأدق تخيُّلهم سماع صوت إنفجار جسم القطة تحت عجلات السيارة. و عندما أعلنت استيائي ذات مرة متسائلاً:
ـ دا موش حرام؟
رد أحدهم رداً ساحقاً ماحقاً لا يستطيع أي "متعلم مصري" عادي أن يرى له أي دفع:
ـ ما في نص!
و تطلَّعوا نحوي جميعاً كمن يتحدث الهيروغليفية. و حقيقة الأمر أنني كنت أفعل ذلك بمعنى من المعاني، و إلاّ فما هو التفسير الذي يهدينا إلى السبب الذي يجعل السوَّاقين المصريين يحرصون كل الحرص، و على النقيض من أولئك "البُعدا" على ألاَّ يدوسوا القطط في طريقهم. و قد يغامرون بإحداث إنقلابٍ لسيارتهم عندما يفرملون فجأة عوضاً عن إلحاق كل ذلك الألم بحيوان بريء أليف يعبر الطريق أمام سياراتهم.
تراني هل أبالغ إذا قلت أن السر وراء سلوك المصريين-المصريين أي المصريين الأميين أو الورثة الحقيقيين للمصريين القدماء على هذا النحو هو أنهم قدسوا يوماً ما "المرأة" و كذلك "القطة"، باعتبارهما تجسيداً رمزياً لإلاهتهم العظمى "إيزيس" و كذلك الإلاهة "باست"؟ و أن هذا التقديس، و لو أنه انتهى عقلياً في مصر، إلاَّ أنه لا يزال يُفعم وجدان هؤلاء المصريين-المصريين أو المصريين الذين طالتهم و قل "عاصتهم" ـ كي يبتهج "المتعلمون المصريون" ـ و لا تزال "تعوصهم" ثقافة/حضارة الفراعنة، و تتناسب زيادة و نقصان هذا التقديس عند المصريين المعاصرين مع مدى تغلغل ثقافة غرب آسيا في أعماقهم. و هذا القول الذي أُرسله الآن يقوم على أن الثقافة، مرة أخرى، سلوك في نهاية المطاف.
دون أبطالٍ قوميين:
و رصدت أن الأمة المصرية تقف، و الحال هكذا، دون أبطال قوميين، سواء على مستوى التاريخ أو الأساطير. و بطبيعة الحال لست أجهل وجود فرعون مصر بطل و شهيد حرب التحرير من "الهكسوس" أو "الحكام الأجانب": "سقن-ن-رع" في العصور القديمة و لا بطل "بشمور" بشمال الدلتا: "مينا ابن بقيرة" في العصور الوسيطة الذي قاد ثورة طويلة الأمد ضد الاحتلال العربي لمصر، و لا "أدهم الشرقاوي" بطل المقاومة ضد الإنجليز. و لكن هؤلاء و أمثالهم، ممن لا يتسع المجال لذكرهم جميعاً، لا يُشكِّلون بصورتهم الراهنة عند "المتعلمين المصريين" أكثر من مشاريع موؤودة لأبطال قوميين من وزن "جان دارك" الفرنسية، بطل تحرير فرنسا من الإحتلال الإنجليزي و "أنا" النرويجية بطل إلحاق الهزيمة بالغزاة السويديين، تلك التي توصف بـ "السيدة المسترجلة" و بقليل من التجاوز "السيدة-الرجل" La Femme virile de Norderhov و "جويوم دي أورانج" الأيرلندي بطل المقاومة الباسلة ضد الإنجليز أو "إسكندربيه" بطل المقاومة البطولية للألبان ضد الأتراك أو "الجريرو ديل أنتيفاس"El guerro del Antifaz بطل سلسلة قصص الأطفال الأسبان الذي قاوم الإحتلال العربي لشبه جزيرة أيبريا أو حتى "موسى" عند بني إسرائيل، و هو بطل قومي-ديني، كما هو جلي للعيان، أو "يوسف" البطل القومي-العلماني المعاصر الذي يحج الإسرائيليون إلى ضريحه في "تل هاي" اليوم. و واضح أو أرجو أن يكون واضحاً أنني لا أقارن بين أبطالنا و بين أبطالهم، بل بين إهمالنا لأبطالنا و احتفالهم بأبطالهم. و لقد طرحت في أكثر من منتدى ثقافي في مصر على "متعلمين مصريين" كبار هذا السؤال:
ـ مين هو "سقن-ن-رع"؟
فلم يكن هناك من يرد، و عوضاً عن ذلك كانوا يستطلعون رأي أصدقائهم في السماء الزرقاء!
و لست بغافلٍ عن النقد الذي يوجهه عديدون لمفهوم "البطولة" ذاته: "لا تُعد البطولة بالنموذج الأمثل لتأكيد القيم الثقافية لأي جماعة من الجماعات. و إذا احتاج شعب ما إلى "بطلٍ قومي" من هذا النوع فإن معنى ذلك أن هذا الشعب يجد نفسه في وضعٍ حرج، دون أن يمتلك على المستوى الجمعي بأكمله، القوة الروحية التي تمكنه من تجاوز وضعه ذاك". و "تُعد البطولة بمثابة عدوانٍ سافر على القيم الديمقراطية" و قول "هيجل" في هذا الصدد: "سحقاً لشعبٍ يحتاج إلى بطل". غير أن كل هذا النقد الذي لا أنكر وجاهته، لا يفرض من وجهة نظري سوى إعادة تعريف مفهوم "البطولة" فضلاً عن شروطها.
و إلى جانب افتقار المصريين المعاصرين إلى أبطال قوميين و الأدق افتقارهم إلى الاحتفال بأبطالهم القوميين، تراهم يفتقرون كذلك إلى ملاحم قومية مثل "الفردوس المفقود" عند الانجليز و "الشاهنامة" عند الإيرانيين و "مدار الدنيا"Heimskringla عند أبناء "النرويج".
و على نحو ما يفتقر المصريون المعاصرون تحت قيادة "متعلميهم" إلى أبطالٍ قوميين فإنهم يفتقرون بالمثل إلى رموز قومية عديدة . فالمصريون المعاصرون لا يعرفون لهم طائراً قومياً و لا زهرة قومية و لا حيواناً قومياً، ولا رقصة قومية/جماعية(كالدبكة الشامية) و لا مشروباً قومياً (كالساكي عند اليابانيين)، و هو الأمر الذي تعرفه لنفسها سائر القوميات، في شتى ربوع المعمورة، مع أنها أحدث كثيراً من القومية المصرية، أي أنهم يفتقرون، على النقيض من تلك القوميات إلى تلك الخيوط غير المنظورة التي تشد وحدتهم الداخلية. و لعل ذلك هو السبب الأعمق في إنتاج مصر المعاصرة لأكبر عدد من "أفضل" الأصوليين الإسلاميين، أي الأعلى قدرة على نفي ذواتهم القومية، و ليس هناك، في نطاق علمي من يستطيع بين أشد المتشددين من الأصوليين الإسلاميين في مشارق الأرض و مغاربها أن يفوه بمثل ما صدر عن السيد "م.عاكف" المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر أي أن "يُطزز" في وطنه "مصر" وفي شعبه "المصريين"، مثلما حدث في الربع الثاني من سنة 2006. و على هذا النحو نجد أن مصر أصبحت تنتج "أحسن" المتخلفين أي أشدهم تخلفاً (أصوليين، عملاء، ضباط تعذيب، منافقين إلخ) و الوجه الآخر لذلك هو إنتاجها لأسوأ "التقدميين" أي أقلهم تقدماً، من كافة الأطياف(ماركسيين، علمانيين، دعاة حقوق إنسانية و حقوق نسوية إلخ) و المعروف تاريخياً أن انحسار المد القومي يُؤدي إلى رجحان كفة المتخلفين على كفة المتقدمين، و العكس أيضاً صحيح.
مرجعية ثقافية مختلفة:
و ليس تحت يدي تفسير أعمق يقف وراء رقي الأجيال الأقدم من "الأزهريين" بصفة عامة، وهو الرقي الذي يتبدى في درجة نسبية من العقلانية و الإنسانية و الرحمة و التيسير على البشر سوى وجود مرجعية ثقافية أخرى، خلاف المرجعية الثقافية العربية-السامية، انحدرت إليهم من "أميتهم" أي ثقافتهم القومية المصرية التي وصلت إليهم خلال التواتر(د.ع.بيومي نموذجاً). و لعلنا نلاحظ مدى تخلُّف الأجيال الأحدث من خريجي الأزهر، الذين يُقصرون مرجعيتهم على الثقافة العربية-السامية، و هو التخلف الذي ينعكس تزمتاً و تشدداً و تعصباً، و في عبارة واحدة عداءاً (=عداءً) أكثر حدة تجاه الثقافة القومية للمصريين-المصريين، أحفاد الفراعنة العظام الذين "سجد العالم المأهول في العصور القديمة، و بالتحديد خلال الأسرة الثامنة عشرة من المملكة الحديثة عند أقدامهم"، حسب عالم المصريات الكبير "دونالد ريدفورد".
لـ "نيبال" زهرة قومية:
و لقد أسعدني و أتعسني في وقت واحد أن أعرف من أحد الأصدقاء الأمريكيين، في الآونة الأخيرة و بالتحديد في شتاء 2002 أن "النيباليين" التي تقع بلادهم بين عملاقين ضخمين هما الصين و الهند يعرفون لهم طائراً قومياً هو "الطاووس" و زهرة قومية هي الـ "رودوديندرون"Rhododendron . و ترجع سعادتي إلى أنني كنت أسير في الطريق الصحيح عندما نقَّبت في محاضرتي أمام جمعية "تحوتي" للدراسات المصرية بقصر الثقافة بالإسكندرية يوم 29أبيب/يوليو سنة 1999التي حملت عنوان "الجمل رمز قومي للمصريين المعاصرين" وانتهيت فيها، و كانت بـ "اللمح" إلى أن الجمل هو ذلك الحيوان القومي بالنسبة لنا، نظير "الأسد" عند العرب. أما حزني فأعتقد أن أسبابه صارت واضحة الآن بما لا يحتاج إلى التكرار.
مين هو الأمي و مين هو المتعلم؟
و في هذا المجال أذكر أن د."ف. العرارجي" رئيس تلك الجمعية سألتني خلال المحاضرة أي منذ أكثر 18 سنة:
ـ مين هم الأميين و مين هم المتعلمين؟
و لست أذكر بالتحديد نص ردي على سيادتها. و لكنه لم يخرج في ظني عن:
ـ الفرق بين الأميين و المتعلمين موش بس بين ناس ما اتعلموش القراية و الكتابة و ناس اتعلموهم هم الاتنين: القراية و الكتابة في دور تعليم. فداخل كل "متعلم مصري" مننا أمي، اللي هو اللاوعي بتاعه، اللي للساه مصري و داخل كل أمي متعلم اللي هو عقله اللي اتلقنه خلال الإعلام و مواعظ و خطب المعابد، الموسوية المسيحية و المحمدية. و بالتالي فكل نقد من ناحيتي لـ "المتعلمين المصريين" هو في حقيقته نقد لنوع "التعليم" اللي استراتيجيات أجنبية مغرضة بتفرضه فرض في مصر. و إذا كانت الإستراتيجيات دي قدرت تخسِّرنا "عقلنا" فهي للساع بتحاول تخسرنا "وجداننا" و أعظم حاجة في الوجدان دا هو "اللغة المصري الحديثة"(=اللمح). فدي اللي تقدر توصَّلنا من يمة بماضينا الروعة، بكل تأكيد و من يمة تانية بمستقبلنا الأروع، بالتمني، في ضي: حضارة إنسانية واحدة و ثقافات متعددة. و في طوعنا أن نصوغ الأمر على النحو التالي:
إذا كان "الأمي" أعرج، أي فاقد لرجلٍ واحدة، فإن "التعليم" في مصر ُيحوِّله إلى "كسيح" أي يُفقده الرجل الأخرى.
أسئلة بسيطة:
و بالتالي استنتجت أنه لكل ذلك لم يسأل أي "متعلم مصري" سؤالاً بسيطاً من هذا النوع:
ـ لماذا لم يُطالب المصريون المعاصرون بعودة رفات العبدة المصرية ـ و دع عنك أقوال الكتبة الكذبة ـ "ماريا القبطية" من "البقيع" في "أثريب"(=المدينة المنورة) كي نعيد دفنها في جنازة مهيبة بعد أن يُصلي وراء جثمانها الطاهر حشد من المصريين المؤمنين، و ليس رجلاً واحداً، مثل الخليفة الثاني "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه، كما حدث في دفنها الأول، فيما نعرف من "ابن عبد الحكم" ص 45أي أن نعيد تسليم رفاتها لتراب وطنها، بجلال و إجلال لم تحظى(=تحظ) بهما هدية حاكم مصر البيزنطي-المسيحي التي بعث بها إلى شبه جزيرة العرب. و يكون دفنها تحت قبة ضريح، أسوة بباقي أمهات المؤمنين ـ طالما كانت زوجة للرسول حسب الكتبة السابق وصفهم ـ في قريتها التي لا تزال تحمل إسمها العريق على لسان المصريين-المصريين أي المصريين-الأميين: "حفن" على الضفة الشرقية لنيل "ملوي" بمحافظة "المنيا"، فيما يُسميها أنصاف المصريين أو المصريين-الساميين أي "المتعلمين المصريين" بـ "الشيخ عبادة"، سيراً على نهج الساميين عرباً و عبرانيين في نسبة المكان إلى الشخص لا العكس؟
ـ كيف نُطلق إسم الخليفة العباسي "المأمون" ـ غفر الله له ـ الذي قدم إلى مصر على رأس جيش قوامه مائة ألف عسكري خلال القرن العاشر من عصرنا المعروف(م.ع.م.) فيما نعرف من شيخ المؤرخين العرب "المقريزي" كي يُنزل بأمر الله قدر الإبادة البشرية على "البشارمة"(=البشموريين) سكان شمال الدلتا بعدما فشل قواده، و خاصة التركي "الأفشين"، الذين أرسلهم سيادته لإنفاذ هذا الأمر ذاته، على شارعٍ يمتد من ميدان "العباسية" كي يصب في ميدان "روكسي" بقلب "مصر الجديدة"؟ و إلى متى نظل نجهل اسم و سيرة "مينا ابن بقيرة" أحد أعظم أبطال المقاومة المصرية ضد الإحتلال العربي لمصر، كي نردد خراريف "التعليم" الزائف في مصر حول ترحيب المصريين، دون سائر البشر، بجميع غزاتهم و محتليهم و مستوطني بلادهم و خصوصاً العرب منهم؟
ـ كيف نتجاهل المصير الذي آلت إليه "طبقة الصنَّاع" الذين رحَّلهم الغازي الأسيوي "سليم" الأول في إطارٍ يوازي اليوم نزع سلاح الدول التي تحيق بها الهزيمة، و هل ذابوا فيما حولهم من سكان دون أن يتركوا وراءهم أثر، أم قتلهم آسروهم بعدما أنجزوا المهام الموكولة إليهم، فيما تقول إحدى الروايات؟ و إذا صحت هذه الرواية، فهل تستطيع، بحد ذاتها إسدال ستار نهائي على القضية، أم يتعيَّن علينا تحويل الإعتمادات التي نكاد أن ننفرد بين كافة الأمم برصدها، للاحتفالات المخزية بذكرى غزو الأجانب لبلادنا، سواء قدموا من غرب أسيا أو جنوب أوروبا، إلى بند إعادة رفات أبناء هذه الطبقة، فرداً فرداً، و دون استثناء، إلى مسقط رأسهم، كما تفعل إسرائيل مع رفات قتلاها، بمن فيهم من حوكموا و أعدموا في بلادٍ أجنبية بتهمة التجسس؟
ـ لماذا لم يخطر على بال أي "متعلم مصري" أن يُطالب أياً من المستعمرين الذين "نهبوا" مصر و "أذلوا" شعبها بالاعتذار، مثلما استمر المتعلمون الهنود ـ دون تحفظ ـ يُطالبون بريطانيا و يلحون في طلبهم، حتى حصلوا على مثل ذلك الاعتذار لبلادهم من الملكة "إليزابث" الثانية ملكة بريطانيا خلال العقد الأخير من القرن العشرين؟ أم أن "المتعلمين المصريين" ينتظرون رحيل أحدث استعمار حتى يُطالبوا كل مستعمري مصر دفعة واحدة بدل المطالبة القطاعي؟ أم أنهم يرون أن هذا عمل تافه، طالما لا ينبع من الغريزة و لا يصب فيها، لا يُفكر فيه سوى هنودٍ لا يملكون سوى سادس أكبر إقتصادٍ على نطاق العالم، و لا يستوردون من العالم الخارجي حبة قمح واحدة ـ و بطبيعة الحال و لا حبة رز واحدة ـ لإطعام أكثر من مليار نفس، هم سكان شبه القارة الهندية بل يُصدرون فائضهم من القمح الذي أصبح سلعة استراتيجية إلى الخارج، و يرفضون بشموخ قومي لا تُخطئه عين و لا تصم نفسها عنه أذن، أي مساعدات خارجية يُلوِّح بها الأجانب وقتما تواجه الهند أي كارثة من الكوارث مثل كارثة "بهوبال" المشهورة؟
ـ لماذا لم يتبنى (=يتبن) الأزهر الذي يعيش بصفة أساسية، على عرق المصريين المنتجين، أي دافعي مختلف أشكال و أنواع و ألوان الضرائب التي لا يدخَّر جهداً في اختراعها بصفة تكاد أن تكون يومية، وزراء البلاط العسكري الحاكم ـ و دع عنك المائتي مليون دولار التي تخصصها الولايات المتحدة سنوياً، مما يسميه الإعلام الغربي و وراءه الإعلام الزائف في بلادنا بـ "معونة أمريكية" لمصر ـ الصيغة و الأدق القراءة الشافعية للديانة المحمدية، مثلما تتبنى مدرسة "قم" الصيغة (=القراءة) الشيعية و الأدق الإثنى عشرية لنفس الديانة؟ و هل يكفي أن نترك نحن المصريين المعاصرين، أمر التراث الشافعي الذي ينطوي على صيغة مصرية تقوم أكثر على حس العدالة و التسامح و التواؤم مع مقتضيات الحال في أيدي "أكاديميين" ناقصي الكفاءة مهزوزي الهوية من أمثال "ح.ن. أبو زيد"، ممن يتصدون للكتابة عن "قاضي الشريعة" في الوقت الذي لا يُلمون فيه بالمعلومات الأولية عنه من ناحية و خصومهم الشخصيين (ع.شاهين نموذجاً)من ناحية أخرى؟ و في نفس الوقت نترك "أزهرنا" أي الذي يعيش على عرقنا، نحن المصريين المعاصريين، ينحدر إلى النطق بلسان الوهابية الصحرواية الغازية؟
ـ لماذا لم تحتج مصر، فور إبرام معاهدة السلام مع إسرائيل عند حكومة "تل أبيب" لسماحها بتدريس نصوص "التوراة"، بصرف النظر عن تقديس أتباع الديانتين الموسوية و المسيحية لها أو قول أتباع الديانة الثالثة: المحمدية بأنها "محرفة" ـ و هذا هو الأنكى ـ قصد الانتقاص من أقدار أنبياء بني إسرائيل، في معاهد تتلقى دعماً مالياً حكومياً، مع أن هذه النصوص تقول، و قولها لا يأتيه الباطل بطبيعة الحال، عند المؤمنين منهم أن إلاههم "يهوه" أعطى مصر إرثاً لهم، أي أنها تتنافى مع الحدود الدولية المنصوص عليها في المعاهدة التي أرست السلام بين البلدين؟ و مثل هذا الاحتجاج لا يزيد، و إن قل بكل تأكيد، عن احتجاج الكوريين و الصينيين، على سبيل المثال، على الكتب المدرسية أي الأدنى درجة أو درجتين عن المقدسة، في اليابان إذا غفلت عن ذكر الفظائع التي ارتكبتها العسكرية اليابانية في جنوب شرق آسيا خلال الحرب العالمية الثانية؟
ـ لماذا لم يخطر على دماغ أي "متعلم مصري" بدءاً من حملة شهادة محو الأمية حتى شهادةDSC أن يتساءل عن السبب/الأسباب التي أدت بكافة الديانات و الفلسفات و الاختراعات و التكنولوجيات التي دخلت مصر إلى إلحاق ضرر/أضرارٍ فادحة بها، فيما أفادت هي نفسها، كافة الدول/القومية التي وصلت إليها. و لنا أن نقارن بيننا و بين تركيا، على سبيل المثال، دون الحصر. فبينما صارت تركيا إمبروطورية و أقصد بطبيعة الحال ما يُعرف تاريخياً بالإمبراطورية البيزنظية أو الرومانية الشرقية في ظل الديانة المسيحية، تدفع لها الجزية كل الأقطار الداخلة في نطاقها، بما فيها مصر، ثم أصبحت مرة أخرى إمبراطورية هي المعروفة باسم "العثمانية" عقب دخولها رحاب الديانة المحمدية ترفع إليها نفس الأقطار، على وجه التقريب، الجزية و بالتالي استمر الأتراك أسياداً داخل بلادهم و خارجها في ظل الديانتين، فإننا نتلفت إلى أصحاب أعظم و أقدم دولة/قومية عرفها العالم القديم و أطولها استمراراً وأغناها ترفيداً لمجرى الحضارة الإنسانية، كي لا نجد في مآقينا دموعاً تكفي لرثاء الذي ظلوا عبيداً يؤدون الجزية للأجانب في ظل الديانتين، بدءاً من الرومان في عاصمتهم الإمبراطورية "روما،" مروراً بالبدو الرحل بعد صفعهم لقفاهم، بل و أدنى مستوى من بعض العبيد، منذ فقدانهم لدولتهم القومية تحت ظل الفراعنة العظام، رغم كل شئ. و ينطبق نفس الأمر على الفلسفات(الماركسية نموذجاً) و الاختراعات (الكهرباء نموذجاً) و التكنولوجيات(الفضائيات نموذجاً)
ـ لماذا عجز "المتعلمون المصريون" عن توجيه نقد موضوعي، يبدأ برصد المعطيات و تمحيص المعلومات و رؤية الأبعاد المحددة للحضارة المصرية القديمة، نقد موضوعي كان ليستطيع أن يكشف عن السبب/الأسباب التي أدت إلى هزيمة المصريين هزيمة مضلَّعة أي على كافة المستويات أمام الأقل منهم حضارة، و إن كانوا أعلى منهم تسليحاً و دربة و اعتزازاً بدياناتهم و عاداتهم و رموزهم و جدودهم و في كلمة واحدة بأنفسهم، و هو الأمر لم يحدث لليونانيين الأحرارعلى سبيل المثال أمام حجافل العبيد من الفرس؟ و لماذا اكتفى"المتعلمون المصريون" بكافة أطيافهم، إذا كان المقام مقام نقد لماضيهم، برجم جدودهم المصريين القدماء، ممثلين في رمزهم الفرعون، بخراريف و أكاذيب و ادعاءات "بني اسرائيل"؟ و بعبارة أخرى لماذا ينتصر "المتعلمون المصريون" بصفة تكاد أن تكون دائمة لأعدائهم التاريخيين ضد أنفسهم؟ و إلى متى سيستمر تغلغل الدونية القومية في أعماق هؤلاء "المتعلمين المصريين" أمام القسم الأشد تخلُّفاً من الساميين أنفسهم، و كل ما ينتمي إليهم بدءاً من لغتهم؟ و مثل هذا النقد هو وحده الكفيل بتجاوز تلك الهزيمة المضلعة التي لا تزال آخذة في التغلغل في عقولنا و وجداننا.
وبطبيعة الحال تستطيع مثل هذه الأسئلة أن تنتج أسئلة أخرى تمتد إلى ما لا نهاية، إذ أنها تتأسس على سؤال محوري: هل يحق لنا نحن المصريين المعاصرين أن يكون لنا رأيٌ، في السياسات التي تتبناها مؤسستا العسكروت و الكهنوت، في بلادنا، أي الأكاديميات العسكرية، بكافة أشكالها، و كذلك معاهد و جامعات الأزهر (و سائر المؤسسات الدينية الأخرى) بكافة درجاتها، بما في ذلك المناهج التعليمية التي تدرِّسها لتلاميذها و طلابها؟
جوابي:
ـ بل يجب أن يكون رأينا هو الرأي الأخير، الذي لا مُعقِّب عليه، طالما كنا نموِّل، من عرقنا، نحن دافعي الضرائب، كافة أنشطة هاتين المؤسستين اللتين يتعيَّن أن نراقب باستمرار أداءهما في خدمة المصالح القومية لمصر.
و عدت أستنتج و أسوق استناجي على هيئة تساؤلات:
هل المصريون عرب؟
و قلت رداً على هذا التساؤل أن الثقافة السائدة في مصر، و بالتحديد تلك التي سعى الاستعمار القديم بقيادة بريطانيا إلى تسييدها في مصر و المنطقة التي تمتد من الخليج إلى المحيط، و سمَّاها (=أسماها) "العالم العربي" تتناقض مع الحقائق اللغوية و الأنثروبولوجية و الجيو-سياسية و التاريخية و التفاوت الملحوظ بين درجة التطور الاقتصادي-الاجتماعي في كل بلدٍ من بلدان المنطقة، و بعبارة أخرى مع مجمل الحقائق النابعة من وجود ثقافاتٍ محلية مضطهدة(بفتح الهاء)، بينها إن لم نقل على رأسها ثقافة المصريين. و معنى القول أن الطابع الرئيسي للثقافة السائدة في مصر و ربما المنطقة بأسرها هو طابعٌ أجنبي، و ليس طابعاً طبقياً، كما يذهب الدعاة الماركسيون، أي أن الصراع الرئيسي في المنطقة قومي. و يكفي في هذا المجال أن نعيد إلى الأذهان ما كتبه المؤرخ "محمد بن أحمد ابن إياس" في بدائع الزهور في وقائع الدهور" ج 5 ص 207 عن الخليفة العثماني السلطان سليم سنة 1517 م.ع.م:
"خرج بن عثمان من مصر و صحبته ألف جمل محملة ما بين ذهبٍ و فضة، هذا خارجاً عما غنمه من التحف و السلاح و الصيني و النحاس المكفَّت و الخيول و البغال و الحمير و غير ذلك حتى نقل منها الرخام الفاخر و أخذ منها من كل شيئٍ أحسنه، ما فرح به آباؤه و لا أجداده من قبله أبداً و كذلك ما غنمه وزراؤه من الأموال الجزيلة و كذلك عسكره، فإنه غنم من النهب ما لا يُحصى ... "
و بطبيعة الحال هذا لا ينفي وجود طابعٍ طبقي لهذه الثقافة، و لكن الخلاف هنا هو حول ما إذا كان ذلك الطابع الطبقي ثانوي أم رئيسي.
و قدَّرت أن العرب هم أشقاء العبرانيين على المستوى المعرفي و الثقافي و اللغوي و الديني فهؤلاء و أولئك ساميون، و هم يُشكلون الجزء الأكبر من سكان آسيا الغربية.
أما لماذا قرر الاستعمار القديم أن يمشي بخط حدود الثقافات القومية بشكلٍ يتناقض مع مجمل الحقائق الأساسية في المنطقة كي يضع المصريين مع العرب أي مع غزاتهم و محتليهم و مستوطني بلادهم الذين فرضوا عليهم الجزية و الخراج و كافة ألوان التسخير و العبودية و الإذلال، و لا يزالون يفرضون عليهم، إذا سافروا إلى بلادهم للعمل و الإنتاج ما يُسمى بنظام "الكفالة"، و هو نظام يُعد، في جوهره، استمراراً للعبودية القديمة في ظروف جديدة، فهذا ما لم يكشف عنه الاستعمار القديم، و بالتالي تركه لقدراتنا على الاستنتاج تماماً مثلما ضن بالكشف عن هدفه من وراء سائر الحدود التي خلَّفها وراءه. و لكننا نستطيع أن نرى أن هذه الحدود التي رسمها لا تزال تلقى بثمار يانعة، ليس في حجر بريطانيا بصفة خاصة، بل و في حجر الغرب بصفة عامة.
بريطانيا و تعريب مصر:
نستطيع، بقدرٍ بسيطٍ من سعة الخيال أن نقول أن ذلك يسير على أيضاً على خطة الاستعمار القديم في تعريب مصر، أي نزع "أرض إيزيس" (=كيميت) من شمال شرق أفريقيا و جنوب أوروبا و في عبارة أخرى: "أفريقيا المتوسطية" و ضمها إلى غرب آسيا، و بالتحديد حشرها في قلب شبه جزيرة العرب/العصو-وسيطية، و هذا ما يُعد في نظري الغزو العربي الثاني و الأخير لمصر. و هو السر في سعي الاستعمار القديم الدؤوب في سبيل هذا الهدف الاستراتيجي الذي يرى "المتعلمون المصريون" خيراً سابغاً في نفيه أحياناً أو تبنيه في غالب الأحيان كهدفٍ منشودٍ لهم، هم أيضاً. و هو الأمر الذي أعجز عن مشاركتهم في رؤيته أو حتى فهمه.
و في هذا الصدد يجدر بنا أن نُعيد إلى الأذهان ما ذكره المؤرخ "عبد الرحمن الرافعي" في كتابه "مصر بين ثورة 1919 و ثورة 1952" سلسلة دراسات قومية العدد 7 مطابع الشروق ص 53عند الإشارة إلى توقيع بروتوكول تأسيس جامعة الدول العربية يوم 7بابة/أكتوبر 1944 بمدينة الاسكندرية:
"و كان إنشاء هذه الجامعة(...) بإيعازٍ من بريطانيا"
و هنا يحق لنا ـ أليس كذلك ـ أن نسأل هذا السؤال:
إلى أي حد ذهب استبسال الاستعمار البريطاني في سبيل نشر الدعوة إلى القومية العربية في مصر؟ و هل دفع الرشاوى في سبيل ذلك؟
الجواب بالفم المليان: نعم.
و لننصت إلى ما كتبه أحد أكبر، إن لم نقل أكبر دعاة القومية العربية في صيغتها الناصرية، و ارتباطاته الأمريكية مشهورة، أي شاهد من أهلها هو "م.ح.هيكل" في كتابه "الاتصالات السرية بين العرب و إسرائيل" و نقلاً من جانبه عن أوراق وزارة الخارجية البريطانية:
"...و رد وزير الخارجية البريطاني السير "إدوارد جراي" على ذلك ببرقية منه إلى المعتمد البريطاني في مصر السير "هنري ماكماهون"، و هو المسؤول عن المكتب العربي ( للمخابرات البريطانية) جاء فيها:
"تستطيع أن تقدِّم أي تأكيداتٍ لعزيز المصري باسم الحكومة البريطانية بأن الحركة العربية يجب تشجيعها بكل وسيلة ممكنة. و يُمكن لعزيز المصري أن يبدأ في تنظيم القوة التي يريدها و تستطيع أن تضع تحت تصرفه 2000 جنيهاً استرليني إذا كنت ترى ذلك مفيداً. و لك أن تطلب منه أن يظل على اتصالٍ بمكتب القاهرة(للمخابرات البريطانية) و بالمعتمد البريطاني و أن تتعهد له بأننا على استعداد لأن نساعد الحركة القومية العربية بمقدار ما يبدو من تأثيرها" جريدة "العربي" العدد 153 يوم 18أمشير/مارس 1996
و إذا رجعنا إلى سؤالنا حول هدف الاستعمار القديم فإن أصحابه كانوا يضعون في رؤوسهم هدفاً محدداً على أساس أن سلوكهم كان منطقياً صادراً عن عقلٍ منظم لا ينقصه التخطيط البعيد المدى و لا التفاني في خدمة مصالحهم القومية العليا. و أعتقد أننا لسنا بحاجة إلى أن نُعيد و نزيد في هذه البديهية: كانت مصلحة مصر تتماس أحياناً مع مصلحة بريطانيا(ضد النازي و مع الزراعة المصرية مثلاً) لكن المصلحتين كانتا متعارضتين بصورة رئيسية.
و جواباً على ذلك السؤال نستطيع أن نقول، بعد النتائج التي نلمسها لمس اليد و نراها رأي العين، التي أسفرت عنها تلك الدرجة العالية من النجاح الذي أرجو أن يكون مؤقتاً، تلك التي حققها الاستعمار القديم في هذا السبيل، أن الهدف الرئيسي كان محو القومية المصرية عن طريق فصل المصريين المعاصرين عن جذورهم في أرضهم التاريخية. أما إذا تساءل أحد عن السبب الذي يدفعني إلى القول بدرجة عالية من النجاح للاستعمار القديم، فجوابي هو: لولا تلك الدرجة من النجاح ما كانت مصر التي ضمت أقدم دولة قومية بنت أقدم إمبراطورية في التاريخ امتدت في القرن الخامس قبل عصرنا المعروف(=ق.ع.م) من قرن أفريقيا حتى الشواطئ الشرقية لنهر الفرات، و أطول الإمبراطوريات القديمة في منطقتنا استمراراً قد عانت كل ذلك التراجع خلال الآونة الأخيرة، و بالتحديد منذ يوم الأربعاء الأسود،23يوليو/أبيب 1952 و هو التراجع الذي أدى إلى حدوث فراغٍ في منطقة الشرق الأوسط الحديث، و هو فراغٌ لم تترد إسرائيل لحظة واحدة في التقدم لملئه.
و تصف "كارين فارينجتون" في "أطلس تاريخي للإمبراطوريات"
“Historical Atlas of Empires From 4000BC to the the 21th Century”,Karen Farrington,Mercury Books,London.2003
هذا الإستمرار الذي بلغ ثلاثة آلاف سنة على الأقل من نحو 3000ق.م. حتى 30ق.م.بأنه "استمرار لا نظير له" و بعبارتها هي:
“This continuity is unparalleled”p 16.
و غني عن الذكر أن مصر استمرت، بعد غروب استقلالها السياسي إمبراطورية، كذلك، حتى داخل الإمبراطوريات التي دانت لها بالولاء من الرومانية إلى الأموية إلى العباسية إلى العثمانية إلى البريطانية على التوالي.
لغة مستحيلة:
و لما كانت اللغة هي أهم سمة من سمات الثقافة القومية، فلقد تأسس على فرض الدعوة إلى القومية العربية على المصريين المعاصرين فرض اللغة العربية التي اكتسبت كما سبق لنا القول صفة "الفصحى" عليهم بصفتها لغتهم القومية. و كان ذلك متمشياً مع المنطق المغلوط، طالما لم يعد المصريون مصريين بل عرباً، و طالما يصف الخطاب الرسمي العرب بأنهم "أشقاء"blood-brothers في عبارة حاسمة، و يصف بعض المصريين أنفسهم بأنهم "إخوة" في العبارة المناسباتية المشهورة "الإخوة الأقباط أي المصريين المسيحيين" ـ وفق المظنون ـ في عبارة مترددة، فالأخ قد لا يكون شقيقاً، فلقد تأسس على ذلك أن تكون لغتهم القومية ليست مصرية بل عربية. و الأغرب أن هذه اللغة العربية "الفصحى" لم تعُد لغة قومية حتى للعرب المعاصرين أنفسهم في شبه جزيرتهم، تماماً مثلما لم تعُد اللاتينية كذلك بالنسبة لأحفاد اللاتين/الرومان في شبه جزيرتهم الإيطالية، و عاصمتهم "روما". و ليس أدل على ذلك من استقدام هؤلاء العرب الأقحاح لـ "أجانب"، و بتعبيرهم هم "أجناب" من مصر كي يعلموها لأبنائهم. فاللغة القومية هي ما "نكتسبه" عن طريق تقليدنا لمربياتنا دون أن نلتزم ، بصورة واعية، بأي قاعدة نحوية"، كما علَّمنا قبل سبعة قرون، صاحب "الكوميديا الإلهية" في دراسته الموجزة و القيمة "عن فصاحة العامية"De Vulgari eloquentia
أما في مصر فهذه اللغة العربية "الفصحى" التي يصل عدد قواعد نحوها و صرفها و إملائها إلى ما يزيد على 12 ألف قاعدة رياضية، مقابل ألف واحد للغة الإنجليزية، حسب د. "عبد الوهاب مسعود" أي نسبة 12: 1 ليست صعبة التعلم على كل مصري و حسب، بل و أكاد أقول أنها "مستحيلة" أكرر "مستحيلة". و أدلتي في هذا الشأن لا تُعد و لا تُحصى، ليس أولها "الأخطاء" الفادحة التي يقع فيها ـ و أرجو ألاَّ يندهش أحد ـ المصححون أنفسهم، بل عجز د. "ن.ف.واصل" مفتي الديار المصرية السابق، و هو الرجل الفاضل الذي قضى عمره كله في درسها في الأزهر، عن قراءتها بصورة صحيحة من ورقة في يده في حفل أقيم بمناسبة رؤية هلال شهر رمضان. و قد كتب د. "مصطفى عبد الواحد" من جامعة "أم القرى" ـ أحد أسماء "مكة" ـ مقالاً حاداً ينتقد فيه سيادة المفتي المصري في صحيفة "الأخبار" المصرية يوم 3 أمشير/ فبراير 1997 بعنوان "الصمت أولى يا فضيلة المفتي" جاء فيه ضمن ما جاء:
"... و إليك نماذج من هذا اللحن الصادر عن دار الإفتاء: إسم "إن" منصوب دائماً، لكن فضيلة المفتي جعله مرفوعاً عدة مرات، فقال مثلاً: إن سعادتنا بضم "التاء" و الصواب فتحها. و خبر "كان" منصوبٌ دائماً لكن فضيلة المفتي جعله مرفوعاً، و الفعل منصوب بعد "أن" المصدرية لكن الشيخ "ن.ف.واصل" جعله مرفوعاً عدة مرات، فقال مثلاً أن نعمرها بضم "الراء" ثم كرر هذا اللحن..."
و إذا نسب شخص ما، مثلما فعل دكتور جامعة "أم القرى"، الذي عرفته كاتباً على هذا النحو و لم أسمعه و لا مرة متحدثاً بهذه اللغة العربية "الفصحى"، ذلك العجز إلى أسباب ذاتية خاصة بفضيلة المفتي المصري السابق ـ و هذا ما أتحفَّظ إزاءه ـ دون الأسباب الموضوعية الكامنة في صلب اللغة ذاتها، فإنني أعيد إلى ذهنه و ذهن القارئ الكريم التعليق الذي نشرته بـ "اللمح" ـ كما سيتضح حالاً للقارئ الكريم ـ في جريدة "أخبار الأدب" العدد 37بؤونة/يوليو 2000 تعليقاً على نص التوصيات التي خرجت عن الدورة السادسة و الستين للمجمع اللغوي"، و هو النص الذي لا أزال أحتفظ به تحت يدي حتى الآن:
"باب النجار مخلَّع"
{ "وقفت حيران و جايز أوي حيرتي دي تستمر وياي الأسبوع الجاي بطوله قدام نص التوصيات اللي صدرت عن "مؤتمر المجمع اللغوي في دورته السادسة و الستين"، و خرجت ممهورة بإمضة أستاذ دكتور جليل هو "شوقي ضيف" لعدد م الوزرا على راسهم وزير التعليم العالي، ع شان يحطوها محط التنفيذ.
و حيرتي راجعة في حقيقتها لسبب متحدد: النص كشف عن عجز واضح في الالتزام باللي المجمع نفسه طالب غيره بالالتزام به: الصحة اللغوية, و نتيجة لديق المساحة ح اكتفي بتصنيف أغلاط النص تحت اربع عناوين لأربع مجالات و ح اضرب أمثلة محدودةعلى كل واحد:
(1) رسم الأسامي الأجنبي:
النص طالب الحكومات العربية بـ "إصدار تشريع يحرَّم كتابة الأسماء الأجنبية بحروف عربية (بند 1) بس النص كتب و ع شان أكون سادق أكتر اضطر يكتب تلات أسامي م النوع دا بالحروف دي، و دا خلال صفحتين اتنين يا دوب، و هي: "تليفزيون"(يوناني-لاتيني) و "تكنولوجيا"(يوناني) و "إلكترونيات"(لاتيني-شمالي).
(2) النحــــو:
النص طالب بـ"إستحداث لجنة للغة و الإعلام لمتابعة ما يُذاع من البرامج و المسلسلات و النشرات و تسجيل أخطائها و تصحيحها و التعليق عليها حفاظاً على الفصحى"(بند رقم 10). بس النص ما نسي ش يرتكب ذات نفس "الأغلاط" دي. فالنص بيقول بالحرف الواحد:
"و يُلحق بها(يعني باللجنة بتاع الترجمة) معهد لتدريب طبقة من المترجمين "يُختاروا"من أقسام اللغات الأجنبية "المتفوقون" ...(بند رقم 5).
و صحة الكلمة الأولانية هي "يُختارون" ع شان الفعل المبني للمجهول دا ما سبق هوش لا أداة جزم و لا نصب. و صحة الكلمة التانية هي "المتفوقين" باعتبارها صفة لكلمة "المترجمين" و الصفة أظن للساع بتتبع الموصوف في حالات الإعراب الرفع و النصب و الجر اللي لغويين عرب بيسموه الخفض.
(3) الأسلــــوب:
النص اللي طالع يدافع باستئساد عن الفصاحة ما غفل ش عن ارتكاب أغلاط نزلت به، لدرجة تحزِّن م الركاكة فـ "الدورات" ما بتتهيَّأش. لاكن بـ "تتنظم"، و معاهد التدريب ما بيلتحق ش بها "طبقات" لاكن مجموعات و الأفصح "أطقم" م المترجمين، و الحكومات ما بـ"تصدرش" تشريعات، لاكن بتستصدرها من مجالس نيابية. و دا هو المعنى المقصود، يعني اللي السياق بيحتمه، موش المكتوب اللي بيشكِّل إدانة للحكومات دي بـ "دمج السلطات". و مافي ش "كليات علمية" ع شان كل الكليات كدا، يعني بتتبع منهج علمي في درس الظاهرة و لاَّ الموضوع اللي بتخضعه لتخصصها حتى و لو كان التاريخ و لاَّ النقد الأدبي. و باين كاتب التوصيات كان يقصد "الكليات العملية" بس التعبير الصح ما سعف هوش.
(4) الموضـــــوع:
النص وقع في أغلاط موضوعية، أخطرها في تصوري لما قال:
"حتى يتخّلص شباب الأمة من التبعية العلمية كما تخلَّصت من التبعية السياسية"(بند رقم 4)
و بخصوص التبعية السياسية اللي النص بيقول عليها اللي قاله، أعترف ـ من غير أسف ـ إن معلومات المجمع المتوقر سابقة معلوماتي بسنة ضووي ع الأقل، فأنا لغاية دا الوقت، ما اعرف ش إمتى بالتحديد، اتخلَّصنا ـ اسم اللاه علينا ـ م التبعية السياسية دي. لاكن اللي يهمنا أكتر هو تعبير "التبعية العلمية". فالأصح إن التلميذ المصري لما يعرف نظرية النسبية العامة، مثل ن لـ "ألبرت أينشتاين" ما بيبقاش تابع لا لـ "أينشتاين" و لا لـ "النمسا" و لا لـ "ألمانيا" و لا للولايات المتحدة و لا حتى للغرب. ليه؟ ع شان يعرف يعني يتحرر. فالمعرفة حرية. و العلم ما لهوش وطن. يعني نظرية "أينشتاين": الطاقة= الكتلة X مربع سرعة الضو" ما خدمت ش الولايات المتحدة على إيدين "أوبنهايمر"، و زرجنت ما رضيت ش تخدم عدوتها روسيا، اللي كانت تاني دولة طوَّالي بعد الولايات المتحدة تصنع القنبلة الذرية. و دي كانت واحدة م التطبيقات العملية لنظريات العالم الفيزيائي العظيم. و كذلك الأمر وي الإنجليز و الصينيين و الهنود إلخ. و الغلطة دي كانت تستوجب سحب أعلى شهادة حاصل عليها كاتب التوصيات و أظنها ما تزيدش عن محو الأمية.
نتيجة حتمي:
التوصيات دي بتقدم دليل جديد و ساطع على صحة فرضيتي "اللغة المصري الحديثة" اللي الثقافة السايدة في مصر بتوصمها بـ "العامية" هي في حقيقة الأمر: اللغة القومية للمصريين المعاصرين، بمعنى لغتهم الأمMuttersprache ، يعني اللي ما بيغلطوش فيها أبدن، لا في نحوها و لا صرفها و لا نطقها، و بيتكلموها لبلب من غير ما "يتعلموها". و آن الأوان للاعتراف بوجود الشمس الساطعة في العلالي. و دا هو التحرر- التحرر"}
و بطبيعة الحال لزم المجمع المتوقر، إزاء هذا التعليق العلني صمتاً مطبقاً و لا يزال يلزمه حتى كتابة هذه السطور.
هــــراء مبرمج:
إلاّ أنني صادفت خلال محاضرة دعاني بعد نشري للتعليق لإلقائها قصر ثقافة طنطا، بين "المتعلمين المصريين" من يصرخ:
ـ يعني عايز تقول إن الدكتور "شوقي ضيف" ما بيعرف ش عربي؟
و خلال برنامج بالقناة الفضائية المصرية المسماة بـ "الثقافية" اعترض السيد العائد من ألمانيا بشهادة الدكتوراة في اللغة العربية، بشدة، على وصفي لهذه اللغة "الفُصحى" بأنها تصل في الصعوبة حداً يستحيل معه على أي من كان أن يتقنها مهما أنفق من عمر و جهد.
و على هذا النحو أجمع السيدان على إهمال الحجج العلمية التي يسوقها الحر الفقير لصالح ترديد و الأدق "ترتيل" الأهازيج الشائعة على الألسنة التي تنطق بما يملأ و يترعم عقولهم بصفتهم "متعلمين مصريين" من هراء مبرمج.
***
و الآن هل عندنا مشكلة لغوية أم أن الأمر يسير على خير ما يُرام؟
و إذا اتفقنا على أن عندنا مشكلة من هذا النوع، فما هو جوهرها؟
و هل يكون من باب العبث أو المزاح أن نقرر أن اللغة المفروضة على المصريين المعاصرين من جانب الخبراء الأمريكيين الذين يضعون الكتاب المدرسي لتلاميذ مصر:
(1) لغة أجنبية يحتاج الطفل المصري أن "يتعلَّم" كافة مهاراتها الأربعة: الفهم و النطق و بطبيعة الحال الكتابة و القراءة في دور تعليم مختلفة.
(2) لغة بالغة الصعوبة لا يستطيع أحد، مهما أنفق من سنوات عمره أن يقول بالفم المليان أنه يستطيع التعبير عن نفسه خلالها، دون أن يقع في الخطأ تلو الخطأ، سواء أكان هذا التعبير شفاهة أو حتى كتابة.
مصريون مسلمون أم مسلمون يعيشون في مصر:
و أعود كي أتساءل:
هل سكان مصر مسلمون أم يدينون و الأدق يدين معظمهم بالديانة المحمدية أي الإسلام؟
و هذا هو السؤال يقتضي طرح سؤالٍ آخر قبله: هل الإنتماء الديني جزء من الانتماء الثقافي أم العكس؟
تقول الموسوعة البريطانية في تعريفها لـ "الثقافة" بالحرف الواحد:
"نستطيع أن نعرِّف "الثقافة" بأنها السلوك الإنساني، أي السلوك الذي ينفرد به الإنسان العاقل Homo Sapiens دون غيره من الكائنات الحية، بالإضافة للأشياء المادية التي يستخدمها حيث تُشكِّل هذه الأشياء جزءاً لا يتجزَّأ من هذا السلوك. و "الثقافة" تتكون بشكلٍ محدد من اللغة و الأفكار و المعتقدات و العادات و الشرائع و الأعراف و المؤسسات و التكنيكات و الأعمال الفنية و الشعائر و الطقوس و الأعياد و الإحتفالات...إلخBritannica,V.17,p.874
و معنى القول أن "الثقافة" تشمل الديانة و ليس العكس. و إذا ما استعرضنا كافة علماء البشريات أو الأنثروبولوجيا من التطوريين الكبار في القرن التاسع عشر، قرن الأنوار و التنوير، مثل "إدوارد بيرنت تايلور" و "لويس هنري مورجان" إلى أصحاب مدرسة الإنتشار مثل "فريدز جرابنر" و "إليوت سميث" فإننا لا نعثر، و لو بالصدفة، على من يقول منهم بأن الديانة تشمل "الثقافة". و أعتقد أنه ما من أحد نسب حتى تاريخه أي دولة أوروبية أو أمريكية في إطار الخطاب العام إلى ديانتها على هذا النحو: فرنسا المسيحية أو الكاثولوكية، الولايات المتحدة المسيحية أو البروتستانتينية، و ذلك في نطاق علمي بطبيعة الحال.
هذه هي خبرة البشرية في "الغرب". أما في الشرق فيكفي أن نُعيد إلى الأذهان في هذا التقديم السريع، كتاب "الديانة في الثقافة اليابانية"
Religion in Japanese Culture,edited by Noriyshi Tamaru&David Reid,Kodansha International,Tokyo,New York,1996.
ففي ص 14 من الكتاب نقرأ:
"تعدد و تراكب الظواهر الدينية في اليابان يرتبط بميلٍ استيعابي في الثقافة اليابانية"
و معنى القول، كم هو واضح، أن الثقافة اليابانية أكبر و أشمل من كافة الظواهر الدينية. فالأكبر هو القادر على استيعاب الأصغر و ليس العكس. و تأسيساً على ذلك لم يسمع أحد قولاً مثل هذا القول: اليابان البوذية أو اليابان الشنتوية!
أسوق هذا الحديث كي أنتهي إلى طرح هذا السؤال:
لماذا يصر الخبراء الأمريكيون على رأس الخبراء الغربيين في الخطاب العام على نسبة مصر إلى "ديانتها" ـ بقوسين عريضين ـ على هذا النحو:
Egypt as a moslem country is so and so .. …”
و السر وراء القوسين اللذين حرصت على وضعهما حول "ديانتها" راجع، إلى أن المصريين المعاصرين لا يدينون جميعاً بالديانة المحمدية(=الإسلام)
كما ألَّف البريطانيون لحن منظمة "الجامعة العربية" التي تضم دولاً موصوفة كلها في الخطاب الغربي بصفة عامة بأنها دول "عربية" ألَّف الخبراء الأمريكيون و وزَّعوا لحن منظمة "المؤتمر الإسلامي" التي تضم دولاً موصوفة في الخطاب الغربي بصفة عامة و الأمريكي بصفة خاصة، بأنها "دولٌ إسلامية". و السؤال هنا بالتالي هو: لماذا ينسب هؤلاء الخبراء الغربيون هويتنا القومية، و دون سائر الهويات القومية في الغرب و الشرق على حدٍ سواء إلى الديانة عوضاً عن الثقافة و في قلبها اللغة؟
كما ترك لنا الاستعمار القديم بقيادة بريطانيا حرية تخمين هدفه من تعريب مصر، ترك لنا الاستعمار الجديد بزعامة الولايات المتحدة نفس الدرجة من الحرية في تخمين هدفه من "أسلمة" مصر. و أعتقد، و لو أنني أرجو أن أكون مخطئاً، أن نقل انتماءنا من القومي {المصري بطبيعة الحال} إلى الديني، أي من إنتماء نسبي مفتوح لانتماء مطلق مقفول، لا يرمي إلى أي هدفٍ أهم في ضوء وجهة النظر الاستراتيجية الأمريكية من تمزيق وحدتنا كمصريين، فلقد ظلت مصر طوال تاريخها و حتى "ثورة يوليو الأمريكية"، حسب التعبير البارع لـ "جلال كشك"، بصرف النظر عمن يكون هو، "بودقة صهارة"، و بتعبير آخر، "وطن كل من يأوي إليها" سيان أكان أرمللياً أو كريتلياً، يونانياً أو إيطالياً أو عبرانياً. لكن مع الانتماء الديني سوف نبدأ بحكم كونه مطلقاً مغلقاً من فورنا في الانقسام إلى مسلمين و مسيحيين و موسويين و بهائيين، ثم إلى سنة و شيعة، أرثوذكس و كاثوليك و بروتستانت ثم إلى شوافع و أحناف ثم إلى إثني-عشريين ...إلخ. و معنى القول أن تحويل إنتمائنا من القومي إلى الديني و الأدق الطائفي هو أول طلقة يُطلقها الأمريكيون و من ورائهم الغربيون، في حرب طائفية تبدأ كيلا تنتهي وسط أكثر أمم الأرض تجانساً و انفتاحاً و تسامحاً، و أقدم أمة متحدة أي تتكلم لغة واحدة، أسست لنفسها أول دولة/أمة في تاريخ بني الإنسان و أطول أمم المعمورة استمراراً بهذه الصفة ذاتها.
و بناء عليه فإذا كانت بريطانيا قد هدفت إلى تذويب مصر في الخارج، أي فيما يُسمى بـ "العالم العربي"، فإن الولايات المتحدة تهدف إلى تمزيق المصريين في الداخل على أسس طائفية أي دينية ثم مذهبية ثم مذهبية فرعية. و واضح لكل من يستطيع أن يفتح عينيه و يرى أن كلا الهدفين يتكاملان و لا يتعارضان حيث أنهما يستهدفان خطراً واحداً على المصالح الغربية في المنطقة: القومية المصرية التي تحمل في رحمها المحكوم عليه بالعقم دولة عظمى إقليمية على الأقل، في وزن تركيا أو إيران.
حزمة ضوء:
و لا أريد أن أترك هذه النقطة دون حزمة الضوء التي تستطيع هذه التجربة التي ترويها ـ كتابة ـ زميلة فلسطينية في مجال العمل هي "ف.أبو خضرا"، حول دخول يهود مصريين و الأدق مصريين يدينون بالديانة الموسوية بيتهم لتفتيشه عند الاجتياح الإسرائيلي لبلدها "غزة" في سنة 1956، و دخول عراقيين موسويين لبيت جارهم. و كيف لم يتورع العراقيون الموسويون(=اليهود) عن ارتكاب كافة الجرائم التي ينزلها، في العادة، الغالبون بالمغلوبين، مما كان يقف في حلقها و هي تروي ما حدث أمامي، و لكنه يُندي جفونها في نفس الوقت. في حين أن المصريين-الموسويين لم يمسوا شعرة واحدة في رأسها و لا قشة واحدة في البيت. و لقد طمأنها أحدهم و هدَّأ آخر روع جدة عجوزة ضريرة همت بالوقوف عند دخولهم، و هو يقول بلغته التي لا تخطئها أذن في المنطقة التي تمتد من الخليج إلى المحيط:
ـ ما تخافي ش يا أمي، خلِّي كي زي ما انتي!
و زاد هؤلاء المصريون الذين تصادف أن دانوا بالديانة الموسوية على ذلك بأن رسموا على باب البيت العلامة التي تُفيد خضوعه للتفتيش، و هو الأمر الذي "نسي" العراقيون اليهود أن يفعلوه على باب الجار السيئ الحظ فعرضوه لتفتيش مماثل مرة واحدة على الأقل.
هؤلاء و أولئك يدينون بنفس الديانة و لكن سلوكهم اختلف كل ذلك الاختلاف لسبب أرجو أن يكون قد صار واضحاً الآن.
إنتماءات ثانوية:
و بطبيعة الحال لا يقود هذا الحديث الذي أسوقه الآن حول الثقافة السائدة في مصر، و لا ينبغي له، إلى رفض وجود أي انتماء من تلك الانتماءات الدينية أو المذهبية. فلكل هذه الانتماءات حق الاستمرار على أرض مصر، بشرطٍ واحد: أن تظل، مثلما هو الحال في الغرب و الشرق انتماء ثانوياً، أي تالياً للانتماء الأول القومي بمعنى القومي المصري.
تدهــور إلاه:
و هنا أتذكر بشيئ غير قليل من الحزن و الأسى تبني "المتعلمين المصريين" لموقف "العرب-الساميين" المتأخرين زمنياً، من حيوانٍ يتمتع بالصبر و الجلد و تحمل المشاق و الجوع أقصد "الحمار" الذي كان إلاهاً معبوداً عند الساميين الجنوبيين ثم انتقل معهم بهجرتهم إلى شمال شبه جزيرتهم، بصفته هذه، أي ظل يُعبد عند الساميين الشماليين. و يتضح ذلك من اسم الملك السادس من الأسرة الأمورية الأولى "حمورابي" الذي حكم "بابل" في الفترة من 1792 حتى 1750ق.ع.م. و يعني اسمه "الحمار أبي"{حمور=حمار بعد دخول قاعدة التمييل "=الإمالة"}. و لكن الأيام أدارت له ظهرها، و صار هدفاً للسخرية، أبرز مظاهرها الادعاء الذي انبثق في ظل الصراع بين الآلهة القديمة بغبائه. و هذا إدعاء غير صحيح. و لكن "المتعلمين المصريين" تبنُّوه دون "إحم و لا دستور" عن العرب-الساميين بعد نبذهم لآلهتهم القديمة. و لقد ألقى رئيس وزراء "مصري" سابق ممن عملوا في جناح الخدم و الحشم بالبلاط العسكري الحاكم في سبعينات القرن العشرين هو د."ع.عبد المجيد" بالمسؤولية عليه في نقص إنتاج مصر من القمح! لماذا؟ لأن الفلاحين ـ و للفظ عند "المتعلمين المصريين" ارتباطات تحط بالِشأن ـ يزرعون من أجل غذائه مساحات شاسعة من البرسيم على حساب المساحة التي كان يتعيَّن تخصيصها لزراعة القمح. في حين يعرف المصريون-المصريون أي المصريون-الأميون لهذا الحيوان الذي استأنسه بنو الإنسان، لأسباب كانت و لا تزال قوية، فيما نظن، كي يستخدموه كوسيلة من وسائل الحمل و الجر قبل عصرنا المعروف بنحو أربعة آلاف سنة، عوضاً عن الغباء صفة الذكاء، و خصوصاً فيما يتعلق بذاكرته المكانية الحادة. و يعرف الريفيون من أمثالنا أن "الحمار" لا ينسى مكاناً زاره و لو مرة واحدة. و كان يقودنا عبر الطرق المختلفة ركوباً على ظهره، و نحن صغار لا نعرف بعد النطق بأسمائنا إلى آخر مكان ذهب إليه، بشرط واحد: ألاَّ نتدخل فيما يعنيه. كما نعرف، نحن الريفيين، أن الحمير تملك درجة عالية من الوفاء، الذي قد يفتقر إليه بعض الذين ينسبون أنفسهم، بضمير مستريح، إلى بني الإنسان، تجعلها تصوم حزناً على صاحبها المتوفي، حتى تلحق به!
أما "البرسيم" بالنسبة للحمير، فيوازي "الكافيار" بالنسبة لغالبية المصريين يسمعون عنه و قد يرونه في الأحلام أو الأفلام و لكنهم لا يذوقونه. فالفلاحون لا يفتقرون، مهما "تتركنا" إزاءهم أي صيَّرنا أنفسنا أتراكاً عليهم، ذلك القدر من الذكاء الذي يمكنهم من قصر التغذي بالبرسيم، في ظل ندرته النسبية، على حيواناتهم الحلوبة كالبقر و الجاموس، فيما لا يملكون لحميرهم سوى التقوت على النجيل بصفة خاصة و الأعشاب الشيطانية بصفة عامة.
ثقافة مخترعة للمصريين المعاصرين:
و بناء على كل ما سبق فإن القول الذي يردده "المتعلمون المصريون" و خصوصاً "الأكاديميون" منهم وراء الخبراء الأمريكيين بأن الثقافة الإسلامية هي الثقافة القومية للمصريين المعاصرين هو قول فاسد و بالتحديد غير علمي و غير دقيق و غير نزيه في آنٍ واحد. و ذلك لأنه يحذف ديانتين و الأولى شُعبتين من الديانة الإبراهيمية هما الموسوية و المسيحية اللتين يدين بهما مصريون ـ و لنصمت الآن عن الديانة البهائية ـ و في نفس الوقت يضم ثقافات متعددة أخرى، لا تشكِّل الديانة المحمدية (=الإسلام)سوى جزء من ثقافتها كالثقافة الإيرانية و الأفغانية و الكشميرية على سبيل المثال، في آسيا و البربرية و النيجيرية-الهاوسية على سبيل المثال في أفريقيا أي أنه مصطلح ضيق للغايةexclusive too من جانب و فضفاض للغاية too inclusive من جانب آخر، و فضلاً عن فساده ضار بحاضر مصر و مستقبلها و كذلك بماضيها على حدٍ سواء، و بالتالي بالمنطقة المحيطة بأسرها. أما عدم نزاهته فكامن في خدمته لأهدافٍ أجنبية معادية لمصر و المنطقة بأسرها.
عن نظرية المؤامرة:
و هنا يحق للقارئ الكريم أن يسأل: كيف أنسب للعوامل الخارجية كل هذا التأثير على العوامل الداخلية، و ألاَ يهدد ذلك بالانزلاق نحو نظرية المؤامرة؟ و السؤال بعبارة أخرى: ألا يُبدي المصريون المعاصرون معارضة من أي نوع لما يُريده أولئك الخبراء؟
ردي هنا هو ما يلي:
(1) يتناسب حجم التأثير الذي تُحدثه العوامل الخارجية في أي صيرورة بصورة عكسية مع مدى ضعف أو قوة العوامل الداخلية.
(2) يصل تأثير هذه العوامل أو تلك مداه الأعلى بتوظيفها للعوامل المناقضة كي تعمل لصالحها، و بعبارة أخرى، عندما تكون العوامل الداخلية قوية فإنها تنجح في توظيف العوامل الخارجية لصالحها، أما إذا قويت العوامل الخارجية، أمام تلك المناقضة أي الداخلية، و ذلك في حالات استثنائية، مثلما هو الحال، مع مصر منذ فجر يوم الأربعاء الأسود، و المشؤوم في آنٍ واحد، فإنها توظف العوامل الداخلية لصالحها. و معنى القول أن هناك مؤامرة بل و مؤامرات تحدق بنا، لكنه من الخطل أن نعتمد المؤامرة نظرية تصلح لتفسير أي شيء و كل شيء. فالعامل المرجح كامن و حسب في الداخل.
فإذا ما انتقلنا من النظر إلى الواقع، فإننا نلمس أن هناك معارضة ملحوظة، و ربما بليغة أيضاً للإرادة الأمريكية. و لكن السؤال الأهم هو: إلى أين يتجه رأس سهم تلك المعارضة؟
أمركة التعليم:
تنصب المعارضة الرئيسية، إن لم نقل، كل ما يصدر عن "المتعلمين المصريين"، دون استثناء واحد، من معارضة للإرادة أو الإستراتيجية الأمريكية في مصر، على أن الخبراء الأمريكيين يسعون إلى "أمركة التعليم المصري"، و على الأقل، كان هذا عنواناً رئيسياً لتحقيق صحفي نشرته دورية أسبوعية هي "الأهرام العربي" التي تصدرها كبرى الصحف القومية و الأدق الحكومية في مصر يوم 22أبيب/يوليو سنة 2000، و جاء هذا العنوان انعكاساً دقيقاً لجوهر الآراء التي أفصح عنها "التربويون المصريون" الذين تصادف أن كانوا يحملون شهادات الدكتوراة أو يُحِّضرون لحملها، ممن يتصلون بصورة أو بأخرى بما يُسمى "مركز تطوير المناهج" التابع لـ "وزارة التربية و التعليم" و الأدق الذي تتبعه هذه الوزارة، و استنطقهم التحقيق، و هو التحقيق الذي شكا فيه بعضهم من دفعه ثمناً غالياً لـ "معارضته"!
عقل بائس:
و هكذا نجد أنفسنا أمام عقل ميكانيكي بائس: ما دام المستعمرون أمريكان، فلن يفرضوا على مستعمريهم (بكسرالراء) سوى "الأمركة" و كفى الله "الأكاديميين" شر التفكير و أهواله و أخذه المتغيرات في الحسبان. و هنا يتعيَّن علينا أن نعود بعقلٍ مستقل، إلى التاريخ قليلاً كي نرى ما حدث من متغيرات:
ظل المستعمرون الأجانب يلجأون، في سبيل نزع مقاومة الشعوب التي يُخضعونها لسيطرتهم، إلى فرض ثقافتهم القومية بما تنطوي عليه من لغتهم و آلهتهم و دياناتهم و مختلف أنماط حياتهم على هذه الشعوب. هكذا فعل الشطر الأعظم من أكبر المستعمرين في التاريخ كالفرس و الأشوريين و اليونانيين و الرومان و الأسبان و البرتغاليين و الفرنسيين و الإنجليز. غير أن المستر "جوني" فطن إلى درس ذهبي في أواخر حقبة السلام البريطاني Pax Britannica: هناك عوامل محلية عند هذه الشعوب المقهورة، متخلِّفة عند الشعب المصري عن مرحلة استعمارية سابقة في سبيل هذا الهدف الاستعماري ذاته، خصوصاً و أن فرض الثقافة القومية للمستعمرين لم ينجح باستمرار في تحقيق الهدف الذي ينشده. و ليس أدل على ذلك من أن ثواراً كباراً فيما يسميه الغرب بـ"العالم الثالث" درسوا في سني تكوينهم الأولى في عواصم غربية و أتقنوا لغة و ثقافة مستعمريهم("المهاتما غاندي" و "هوشي منه" نموذجان). و نلاحظ في هذا الصدد أن بريطانيا التي كانت تبذل جهوداً مكثفة في أوائل القرن العشرين لفرض اللغة الإنجليزية كلغة للتعليم في مصر، تخطط قبيل انتصافه بدأبٍ و استبسال في سبيل إنشاء ما يُسمى بـ "الجامعة العربية" في المنطقة و مصر على وجه الخصوص، أي فرض تعريب المصريين، و بعبارة أخرى انتقلت بريطانيا من فرض ثقافتها هي إلى فرض ثقافة أخرى، خلاف ثقافتها، على المصريين المعاصرين. و غني عن الذكر أن الثقافتين، البريطانية و تلك الأخرى تشتركان في أجنبيتهما عن مصر و وادي النيل، و تختلف الواحدة عن الأخرى في أن إحداهما راقية و الأخرى أدنى رقياً. و هذا هو الدرس الذهبي الذي استوعبه المستعمرون الجدد الذين أزاحوا الإنجليز كي يحلوا محلَّهم، و تبنوا تطبيقه ببراعة لا مفر من التسليم بأنها فائقة.
صحيح أن الحركة الوطنية المصرية "العرجاء" تبنت تجاه قضية التعليم باللغة الإنجليزية موقف الرفض، و هو الموقف الذي يتناقض مع موقف الحركة الوطنية (و الأدق القومية) الهندية و لكن لذلك قصة طويلة.
و في سائر الأحوال سار "الانقلاب العسكري الأمريكي"، و هذا توصيف أدق، في مصر على هدي الحركة المصرية التي وصفناها قبل قليل بصفة لا أراها تستحق أقل منها و لا أزيد، و خصوصاً بعد أن سلَّمته رقاب المصريين المعاصرين. بل و بالغ في "مقاومته" للإستعمار القديم فأصدر وزير تعليمه و تربيته "الصاغ الملهم"، هو أيضاً، و لكن بدرجة أقل إلهاماً من "البكباشي المُلهم"، "ك.حسين" قراره قبيل ستينات القرن العشرين بأن الطالب الذي يحصل على 40% في مادتيْ اللغتين الإنجليزية و الفرنسية ينجح فيهما و يُنقل إلى الصف الدراسي اللاحق!
معارضة لكن لذيذة:
يحدد "المعارضون" من "التربويين المصريين" هدف "الأعداء" الذي يوجهون إليه سهامهم على هذا النحو:
"الأمريكيون يسعون إلى فرض ثقافتهم الأمريكية علينا نحن "العرب-المسلمين" و هو الأمر الذي يترتب عليه أن تكون الوطنية المتوقدة في أن نعارض تلكؤ أو تردد الخبراء الأمريكيين في بث "ثقافتنا العربية-الإسلامية" في مناهجنا التعليمية"!!!
و معنى هذا القول أن هذه الشريحة من "المتعلمين المصريين" لا يفعلون بمعارضتهم تلك سوى استنهاض الخبراء الأمريكيين كي يضعوا موضع التنفيذ استراتيجيتهم التي لا تقوم على فرض الثقافة الأمريكية بصفة رئيسية على تلاميذ مصر، بل على فرض الثقافة العربية-الإسلامية عليهم. و يتبدى موقف "المتعلمين المصريين" أكثر ما يتبدى في المقالات الأسبوعية التي تكتبها ببلاغة محزنة د."ن.أ. فؤاد" في كبرى الجرائد المصرية، و هي الجريدة التي تُعد في تصوري أشد فعالية من "لاظوغلي" في خدمة الإستراتيجية الأنجلو-الأمريكية، فبينما لا تطول "الداخلية" سوى شواشي الشرود عن "القطيع"، تستطيع صحيفة كـ "الأهرام" أن تقتل براعيم أي تمرد على اللامنطق و اللاقومية في المهد. فسيادة د. "ن.أ.فؤاد" تجهر بمعارضتها "الشرسة" للخبراء الأمريكيين و تنعي تدخلهم في الشؤون الداخلية لمصر بمعاونة "البنك الدولي". و لكنها تمضي فتتبنى أكرر "تتبنى" موقف د."جوديث كوكران" في كتابها "التربية في مصر"، مع أن سيادتها، و ليس أي شخصٍ آخر، هي التي عرَّفتها لقارئها على هذا النحو:
"الخبيرة الأمريكية التي اشتركت مع الأجهزة الأمريكية في "تطوير" ـ و القوسان من عند د."ن.أ. فؤاد" ـ مناهج التعليم في مصر"
إذ أن د. "ن.أ. فؤاد" تقول بالحرف الواحد عقب هذا التعريف، نقلاً عن الخبيرة الأمريكية هذا القول "البليغ":
"كان تلاميذ الكتاتيب الممتازون يستطيعون أن يُنمُّوا معرفتهم بالإسلام و أن يُصبحوا أرفع المصريين علماً" ص 8 من كتاب الخبيرة.
و تمضي د."ن.أ. فؤاد" كي تبيع لنا هذا القول الذي صدر عن خبير أمريكي ـ و انس تاء التأنيث لحظة ـ كي تبيعه لنا باعتباره "شهادة من أهلها"!!!
بل و تؤسس "الدكتورة المصرية" المعارضة على هذه الشهادة في السطر التالي مباشرة ما يلي:
"إذا فشل الفاشلين لا دخل للكتاتيب فيه فقد فشلوا في جميع الوظائف التي تقلدوها لأسبابٍ هابطة" (ماهي؟لا أحد يعلم)(صحيفة "الأهرام" 11مسرى/أغسطس 1999ص 30)
و قد ينبري شخص ما كي يقول: إن د."ن.أ. فؤاد" ليست "تربوية" في سائر الأحوال. و رسالتها لنيل شهادة الدكتوراة كانت عن "أم كلثوم". و هذا صحيح. و لكنه قول لا ينفي شيئاً و لا يُثبت آخر. إذ أن ذلك هو موقف "الثقافة السائدة" في مصر، تلك التي يقف منها "الأكاديميون المصريون" ضمن مختلف "المتعلمين المصريين" موقف الحراس الأوفياء، و بعبارة أدق: موقف الكهنوت السادن. و إليكم موقف د."ح.عمار" الذي يلقبه تلاميذه النجباء ـ و هم "أكاديميون" بطبيعة الحال بـ "شيخ التربويين" في مصر ـ و هو الموقف الذي أفصح عنه سيادته في مقال "بليغ" بلاغة محزنة هو الآخر نشره في جريدة "القاهرة" بعنوان: "الدور المشبوه للجامعات الأجنبية في مصر"، و خصصه "التربوي المصري" العتيد لشن هجوم حاد، قد نتفق معه و قد نختلف، ضد استخدام الجامعات الأجنبية للغاتها الأجنبية في التدريس، و هو الأمر الذي يتساءل د."ح. عمار" حوله على هذا النحو المؤثر: "هل نحن مع بدايات حدوث انقلاب للإنسلاخ من هويتنا الثقافية العربية".
و يتأسس على هذا التساؤل، بحكم طبيعة الأمور أن يكون البديل عند سيادته هو التفاني في الدعوة إلى استخدام "اللغة العربية"، على نحو ما تدعو إليه "الجامعة الأمريكية" و "الثقافة السائدة"، و كذلك د. "ن.أ. فؤاد"، فلقد وصف سيادته: "مصر"، في الفقرة التالية مباشرة بأنها:
"أم الدنيا العربية-الإسلامية منذ الفتح العربي، مروراً بقادة نهضتها الحديثة منذ "رفاعة الطهطاوي" و ما بذل من سعي و تطوير و إثراء لثقافتنا العربية. نذكر من الأعلام طه حسين و سلامة موسى و أحمد أمين و زكي نجيب محمود و نجيب محفوظ و فاروق شوشة و جابر عصفور و غيرهم و غيرهم...إلى جانب علمائها...إلخ".(صحيفة "القاهرة" العدد 289 ص 9 يوم 25 بابة/اكتوبر 2005)
و لكن الملاحظ أن شهادة د."جوديث كوكران" الخبيرة الأمريكية، لا تتفق و حسب مع موقفيْ د."ن.أ. فؤاد" و د"ح.عمار"، في اعتماد "الثقافة العربية-الإسلامية" و في قلبها بطبيعة الحال اللغة العربية "الفصحى" كثقافة قومية للمصريين المعاصرين، بل و مع ما كتبه الخبيران الأمريكيان "لوزر جيوليك" و "جيمس بولوك" اللذان استدعهاهما العسكروت الحاكم في مصر في ستينات القرن الماضي و بالتحديد في سنة 1960 لتنظيم الإدارة المصرية في تقريرهما:
"الثقافة الإسلامية من أصلح الأسس للحكم في العصر الحديث، و ليس هذا فحسب بل إنها تقدم للشعب المصري المبادئ يمكن للمصريين أن يُقيموا عليها ديموقراطيتهم الجديدة" (نقلاً من جانبي عن د.عبد الرشيد صقر. جريدة "الوفد" عدد 53 يوم برمهات/مارس 1985)
و لهذا السبب أو لهذه الأسباب لم يتوقف أحد من كبار أو صغار "التربويين المصريين" أمام "التطوير" الذي أدخله الخبراء الأمريكيون على الكتاب المدرسي للمرحلة الإبتدائية، خلال ولاية د. "ف. سرور"، المتخصص في القانون، لوزارة التربية و التعليم في أواسط ثمانينات القرن العشرين، بتغيير عبارة "عادل يأكل الفول" إلى "عمر يأكل الفول". و لم يفطن أحد منهم، في نطاق علمي، بطبيعة الحال، إلى أن اسم "عادل" يخاطب جميع الأطفال أو التلاميذ المصريين، بينما يُخاطب إسم "عمر" قطاعاً من هؤلاء التلاميذ و يترك قطاعاً آخر، أي ينفيه إلى كتابٍ آخر يخاطبه باسمٍ ديني بارز آخر يوازي "عمر" مثل "متى" أو "بولس"، و بعبارة أخرى يمزق الأمة المصرية أي وحدة المصريين المعاصرين إلى أمتين على الأقل. كما لم يتوقف أحد من أولئك "التربويين المصريين" أمام إلقاء الخبراء الأمريكيين و متدربيهمtrainees بكل ما يملكون من ثقل وراء "تعريب" تدريس العلوم الطبيعية في جامعات مصر، كما سبقت الإشارة.
عن النموذج الأمريكي:
و عندما يكتب د."ف.زكريا" كتاباً بعنوان "العرب و النموذج الأمريكي"، كي يرفض فيه صلاحية النموذج الأمريكي كأساسٍ يستطيع العرب أن يبنوا عليه نهضتهم في العصر الحديث، فإن سيادته يكون قد سدد سهماً بارعاً حقاً، و لكن على هدفٍ غير قائم في الواقع. لماذا؟
لأن موقف الخبراء الأمريكيين يقوم على عدم طرح النموذج الأمريكي سواء لنهضة العرب أو غير العرب، ليس لعدم صلاحيته أو صلاحيته، بل لامتلاكهم لنموذجٍ آخر أكثر فعالية في خدمة مصالحهم في منطقتنا السعيدة. و ليس أدل على ذلك من إعلان دكاترة "الجامعة الأمريكية" ـ و القوسان بهدف التحفُّظ ـ في مصر أنفسهم رفضهم القاطع للتغريب، و تأكيدهم على فشل التجارب الديمقراطية و العلمانية و بطبيعة الحال، الاشتراكية قبل و بعد "انقلاب يوليو الأمريكي"، الذي قاد و يقود مصر على المستوى الثقافي من العصور الحديثة التي شارفت حدودها هي و سائر بلدان المنطقة بأسرها، التي لم تكن قد اقتربت من تخوم هذه العصور بعد، إلى "العصور الوسيطة"، دون أن يخشوا لومة لائم أو "لفت نظر" من جانب رؤسائهم، و دون أي شعور بالتناقض بين عملهم في مؤسسة أمريكية و "عدائهم" الذي لا فصال فيه، للتغريب، و ذلك لأن النموذج الذي يطرحه الخبراء الأمريكيون و أتباعهم هو النموذج "العربي-السامي"، و بتعبير الثقافة السائدة في مصر و المنطقة المحيطة: "العربي-الإسلامي".
و لست أريد أن أترك عند القارئ الكريم انطباعاً بأنني أعادي "الأمريكيين" أو "العرب-الساميين". فموقفي، باختصار يفرضه مثل هذا التقديم السريع، يقوم، ليس على رفض ما يُسميه دكاترة "الجامعة الأمريكية" بـ "التغريب" أي الغرب كله، على غرار ما يفعل الأصوليون الدينيون أنفسهم، بل على رفض السياسة الأمريكية و حسب و احترام الثقافة الأمريكية، و خصوصاً وجهها الديمقراطي العلماني الإنساني، و ممثلي هذا الوجه من أمثال "توم بين" و "وليم فوكنر" و "آرثر ميللر" و "روبرت فروست" و "وولت ويتمان" و "إميلي ديكنسون" و "نعوم تشومسكي" و مئات آخرين أضعهم ضمن أصدق أصدقائي. و كذلك العالم التربوي "مورين ميرفي" التي تروي في حديث لها مع مجلة "أخبار الأدب" الأسبوعية يوم 25برمهات/مارس 2001 ما يلي:
"في ندوة بجامعة "عين شمس" كنت أتحدث عن الأدب المصري، فقام أحد الحضور و قال لي:
"يجب ألاَّ تتحدثي عن الأدب المصري و إنما عن الأدب العربي كله. و لكنني أعتقد أن أول انفجارٍ معرفي على نحوٍ عالمي لكل طلاب التاريخ و الحضارة في أمريكا هو مصر. و في متحف "المتروبوليتان" مجموعة كبيرة من الآثار المصرية. و قد استغل الكثيرون حب الأطفال للحضارة الفرعونية فقاموا بتصميم عرائس فرعونية و قوالب سكر على هيئة أهرامات، فالكنوز الفرعونية تثير خيال الأطفال في كل أنحاء العالم."
و السؤال هنا أيهم أكثر مصرية: أطفال مصر "هذه" أم أطفال "هذا" العالم؟
و معنى القول أن الفرق بيني و بين ما أسمِّيه بـ "اللوبي الأمريكي في مصر" في عبارة واحدة هو:
يسعى الحر الفقير إلى أن تصبح مصر مثل الولايات المتحدة، و غير الولايات المتحدة من دول العالم أجمع ـ باستثناء عالمنا ـ أي دولة قومية ديموقراطية علمانية منتجة و ذلك على النقيض مما يعمل "اللوبي الأمريكي" في مصر بدأبٍ لا يُحسد عليه، كي يجعل مصر كما تريد الولايات المتحدة، و الأدق السياسات الأمريكية لها أن تكون: دولة غير قومية(=عربية-إسلامية) غير ديمقراطية غير علمانية غير منتجة، تعمل حكوماتها "الأمريكاوية" المتعاقبة، على قصر منتجاتها على خام البترول و الغاز الطبيعي حتى و لو أدى ذلك إلى إنهاء وجود مصر ذاتها كأكبر واحة منقولة في العالم. و لا أستطيع أن أتخيَّل لنا نحن "القوميين المصريين" نجاحاً، إلاّ إذا تمكَّنا من كسب تأييد العدو الأول للإستراتيجية الأمريكية الرسمية، و هو أوسع القطاعات من الشعب الأمريكي، بتراثه الإنساني و الديمقراطي و العلماني، أي النابذ للظلم الرافض للإستعباد، تماماً مثلما فعل و نجح الفيتناميون خلال النصف الثاني من القرن العشرين. على أن فشلنا في ذلك حتى الآن إنما يرجع بالدرجة الأولى إلى دور "الأصوليين الدينيين"، و أشباههم الذين يعملون بدأبٍ لا يُحسدون عليه في سبيل إبعاد هذا الهدف عن متناول أيدينا، عن طريق دفع "أصدقائنا" المحتملين بين الأمريكيين إلى الالتفاف حول قيادتهم المعادية لنا و لهم، و ذلك برفع رايات العداوة المُفرطة لما لا يتورعون عن رجمه جهراً و التمرغ في نعيمه سراً. و في خطٍ موازي(موازٍ)، و على نحو ما يلحق الأصوليون الدينيون الضرر الفادح بنا، فإنهم يُلحقون ضرراً مماثلاً بالشعب الأمريكي الذي تواجهه إدراته، و الحال هكذا، برفع بيارق ضرورة الحفاظ على"الأمن القومي" فوق "الحريات المدنية" المقررة سلفاً في إطار دستور ديمقراطي علماني انساني، تأسس على أفكار التنوير التي دعا إليها آباء الثورة الأمريكية المجيدة. و أظن أن دراستي لتاريخ الولايات المتحدة تمكنني من الحكم باطمئنان بأن ما يُسمى بـ "قسم الولاء"Pledge of Allegience، الصادر في سنة 1954 ، إنما جاء رداً على، لا استمراراً و لا تطويراً للدستور الأمريكي العظيم الصادر في 1778
أما إذا كنت أتفق أو أختلف كثيراً أو قليلاً مع من يرى في الولايات المتحدة: "أغنى و أقوى و أجرم دولة في العالم و التاريخ"، فإن أسبابي، في الحالتين مختلفة إلى هذا الحد أو ذاك عن الأسباب التي يسوقها "الأصوليون الدينيون" الذين يدمغونها بـ "الشيطان الرجيم". فبينما يبكي أولئك، على سبيل المثال، على "إسقاط" هذا "الشيطان" لنظام حكم "طالبان" أي تلاميذ معاهد "بيشاور" الدينية الإسلامية، و هو النظام الذي سيطر على الحكم في "كابول" لثلاث سنوات طويلة و مريرة، فإنني لا أنعي على "واشنطون" إسقاطها لهذا النظام العصو-وسيطي، بل تنظيرها و تدريبها و تمويلها و تسليحها سواء بصورة مباشرة أو عن طريق "أصدقائها" المحليين، لهؤلاء "الصبية المتحجرين" و اتخاذها سفارة عند حركتهم "طالبان" وهي لا تزال خارج نطاق الحكم في إقليم "بيشاور" الباكستاني المتاخم لأفغانستان، في سابقة لم تتكرر في تاريخ الدبلوماسية الدولية، و تنصيبها في نهاية المطاف لهؤلاء "الصبية المتوحشين" مطرح نظام الحكم "الأصولي الإسلامي"، هو الآخر، بقيادة "برهان الدين رباني"، و على نطاقٍ أوسع تبدأ جرائم الولايات المتحدة في رأيي من حرصها على تنصيب حكوماتٍ أقوى من شعوبها، و هو الأمر الشاذ البالغ الشذوذ، في علاقة الحكومات التاريخية مع شعوبها. و لعل شذوذه ذاك هو الذي يُفسِّر فشله الذريع في قارات كاملة، من بينها أوروبا(سقوط فاشيي "أتينا" في السبعينات نموذجاً) و أمريكا اللاتينية(سقوط ديكتاتورياتها العسكرية نماذج) و آسيا(سقوط فاشيي "سول" نموذجاً) و مع ذلك حقق نجاحاً هائلاً في حالاتٍ استثنائية على رأسها حالة مصر، و يبدو أن حجم ذلك النجاح تناسب بصورة مطردة، مع انهيار دولتها القومية.
أما موقفي من العرب فيقوم على الوقوف مع العرب ضد عروبتهم، و هذا نفس موقفي من سائر الساميين: معهم ضد ساميتهم، أي ضد شكلٍ محدد من أشكال وجودهم في سبيل هذا الوجود ذاته. و لعل هذا هو نفس الموقف الذي يتخذه أنبل أبناء أولئك الأقوام. و شرح ذلك موجود في طيات الكتاب الذي بين القارئ الكريم.
كارثة التعليم:
و هكذا انتهيت إلى هذه النتيجة: كارثة مصر في الوقت الحاضر ليست في أميتها، كما يزعم الخبراء الأمريكيون و من ورائهم في جوق مخزي(=مخزٍ) "المتعلمون المصريون" و بعبارة أخرى كارثة مصر ليست في "إتصالها" مع ثقافتها القومية، التي حملها التواتر جيلاً بعد جيل، منذ ما قبل التاريخ و حتى اليوم، بل في "تعليمها" أي في "إنقطاعها" عن هذه الثقافة القومية. و بمعنى آخر في "تعليم" أبناء مصر ثقافة عربية-سامية، و هو "تعليم" يضعه ـ حباً في سواد عيونهم ـ الخبراء الأمريكيون أنفسهم و ليس مجرد متدربيهم من "الأكاديميين" الذين يعودون إلينا سعداء، بشهادات الدكتوراة من الجامعات الأمريكية بصفة خاصة و الغربية بصفة عامة.
و إيضاحاً للأمر أقول أن التلميذة المصرية التي "تتعلَّم" في مدارس مصر، سواء المدنية أو الأزهرية، و على سبيل المثال، أن شعرها "عورة"، و يلزم أن تغطيه بـ "حجاب" ثم تتوغل في هذا "التعليم" و الأدق يتوغل هذا "التعليم" في عقلها و تقتنع بأن شعرها يقوم على نفس المستوى مع "يكرم اخواتي" و يلزم أن تحجبه بـ "حجاب" فـ "نقاب" فـ "سدال" ثم تتوغل أكثر و أكثر في هذا "التعليم" و توقن أن صوتها "عورة" ثم ظلها، فإذا وقع هذا الظل، صُدفة، على أحد المُصليين، بطُلت صلاته، هل تكون بتلك الانتقالات تغادر جهلاً كان كامناً في أميتها و ترتقي إلى مراتب أعلى من العلم خلال "تعليمها" أم أنها تفقد شيئاً فشيئاً في حقيقة الأمر درجة أو درجتين من "علمٍ" كانت قد اكتسبته من أميتها أي ثقافتها القومية التي وصلت إليها عن طريق التواتر أي شفهياً.
بنـت=ولــد:
و غني عن الذكر أن البنت في المجتمع المصري-المصري في الشمال و الجنوب و ما وراء الجنوب أي في سائر أرجاء "مصرودان"(=مصر+السودان)، و في عبارة أخرى في المجتمع الريفي الذي يكتسب علمه و معرفته عن العالم شفهياً، لا كتابياً، لا يزال يرى ـ رغم كل ما حدث من "تعليم" و الأدق من تخريب للثقافة القومية المصرية ـ في البنت إنساناً مثلها مثل الولد سواء بسواء و أمام العمل "إيد" تماماً كشقيقها، أي أن البنت في ثقافة المصريين-المصريين أي المصريين-الأفارقة ليست موضوعاً جنسياً و حسب، كما يريد لها "التعليم" الأمريكاني و الأدق "الأمريكاوي" أي الذي يستزرعه الخبراء الأمريكيون في مصر، دون الولايات المتحدة، أن تكون. و عندما يقول الفلاح المصري-المصري أي المصري-الأمي من المالح إلى الشلال و ما وراء الشلال لخولي الأنفار:
ـ عايزين عشرين "إيد" من صبحية ربنا لجني القطن ولاَّ شتل البطاطا و لاَّ زرع القصب إلخ
هنا لا يقصد هذا الفلاح غير المتعلم تعليماً من ذلك النوع الأمريكاوي من التعليم أن يكون العشرون "نفر"(=نفراً) ذكوراً أو إناثاً.
صحيح هناك تخصص في العمل في ريف مصر على أساس الجنوسةgender و لكن لا يوجد هناك حاجز فاصل بين الجنسين على هذا الأساس. فالسيدة المصرية تستطيع، إلى جانب الطبيخ و الخبيز، أن تحرث و أن تقصِّب و أن تبتن أي أن تقوم، إذا اقتضى الأمر، بكافة الأعمال التي يعتادها الرجال، دون أي استنكار، بل على العكس أي بدرجة عالية من الإكبار. و بالتالي فإنها تستطيع و الأدق "كانت" تستطيع أن تُغني و أن ترقص و أن تفكِّر بصورة مستقلة.
مصر بين ثقافتين:
و هذا في تصوري، هو الفرق أو المسافة بين الثقافة الرعوية-البدوية، سواء أكانت عربية أم عبرانية، و بين الثقافة الزراعية-المصرية الأرقى، و بعبارة أخرى نفس المسافة بين الإرتباطات التي تحملها كلمة "حرمة" أو "إمرأة" في اللغة العربية و "جيفرت" في اللغة العبرية من ناحية و بين كلمة "الست" في اللغة المصرية سواء القديمة أو الحديثة، من ناحية أخرى. فـ "الست" كانت في مصر إلهة معبودة و لم تنزل تماماً حتى الآن عن العرش الذي رفعتها إليه ثقافة المصريين.
و غني عن الذكر أن العبراني-السامي، الذي حسُنت ساميته يُصلي لإلهه على هذا النحو:
ـ أحمدك ربي لأنك لم تخلقني كافراً و لا إمرأة!
و لعلنا نعرف أن الجلادين في سجون العسكروت الحاكم في مصر يطلبون من ضحاياهم هذا الطلب:
ـ قول أنا مراة!
و ليس بحالٍ من الأحوال:
ـ قول أنا ست!
و السر كامن هنا في حمل الكلمة العربية لمجالها المغناطيسي: إرتباطاتها connotations في الثقافة العربية-السامية، التي تقبل المهانة والمذلة التي يريد جلادو "الانقلاب الأمريكي في مصر" فرضهما على ضحاياهم. فدونية المرأة ركنٌ أساسي من أركان ثقافة الساميين، في حين أن الكلمة المصرية الموازية تأبى ذلك كل الإباء. فلقد كانت المرأة في المجتمع المصري القديم الذي تحكمه ثقافة قومية محددة: ست و ملكة و إلاهة(=إلهة) معبودة، لم تعرف، بطبيعة الحال، لا حجاباً و لا خماراً و لا نقاباً و بكل تأكيد، و لا سدالاً أو "أحزمة عفة"Chastity belts، مثل تلك الأحزمة التي استمرت أوروبا تعرفها حتى غروب العصور الوسيطة. و هذه الثقافة القومية هي التي نقول ـ و لسوء حظنا نكاد ننفرد بهذا القول ـ بأنها لم تنتهي(=تنته) و لا ينبغي لها، حتى اليوم. و إذا سلَّمنا، جدلاً، بصحة القول بأنها انتهت، لتعيَّن علينا أن نعيدها من الموت إلى الحياة أي نبعثها. و لعلنا نذكر، على العكس من اتجاه الثقافة السامية، تعابير مصرية أصيلة من قبيل:
ـ ستك و تاج راسك!
ـ ست الدار
ـ ست ابوها...إلخ
و هنا أتصور أن يتفتق ذهن "متعلم مصري"، غيورٍ على "عروبته"، عن هذا السؤال: و ماذا عن كلمة "سيدة" العربية؟ ألا توازي "ست" المصرية؟
ردي هنا: لا وجود هناك لكلمة "سيدة" في صميم اللغة العربية، فلم ترد هذه الكلمة بمعناها الذي نعرفه لها اليوم في أي نص عربي عصو-وسيطي، سواء أكان مقدساً أو شبه مقدس أو غير مقدس، من "القرءان" إلى "الأحاديث النبوية" إلى "نهج البلاغة" إلى "الشعر الجاهلي". أما إذا كانت قد وردت فلعل نسبة ورودها كانت هزيلة إلى حدٍ مكَّنها من التسرَّب من ثقوب ذاكرتي. فهذه اللغة العربية تعرف كلمات من قبيل: "إمرأة" و "أمة" و "جارية" الخ أما كلمة "سيدة" و هي مؤنث "سيد" فيذهب ظني إلى أنه توليف قياسي حديث، كأن نقول "شخصة" التي لا تعرفها اللغة العربية، حسب معلوماتي و لو أنها هي الأخرى مؤنث "شخص". و أمثال هذه الكلمات المنتحلة على اللغة العربية كثيرة بينها "حسناً" التي يحاول بها المترجمون نقل معنى كلمة:Well الإنجليزية و كلمة "العفو" التي تحاول تترجيم الرد على عبارات الشكر، و لو أنني أعجز عن فهم أي صلة لـ "العفو"سواء بالشكر أو الرد عليه.
و المعروف أن اللهجات العربية الحديثة في المشرق، تلك التي تأخذ في التحرر شيئاً فشيئاً من أطر "الثقافة العربية-السامية" ـ أي تغادر اعتماد علاقة الدم التي تعتمد على التسلسل الأبويpatriarchal line (شجرة الأنساب نموذجاً) إلى اعتماد علاقة الوطن ـ و إلى جانب ذلك تتبنى موقفاً أكثر تقدماً تجاه المرأة تحت تأثير واضح للثقافة الأرقى في المنطقة تجد نفسها و قد استعارت كلمة "ست" من "اللمح" فالغنوة السورية المشهورة تقول:
ـ يا "ست" أديش الساعة؟
لو حامل ساعة ما سألت ك...إلخ
و قليلون، بكل تأكيد، من "المتعلمين المصريين" الذين سيقبلون مني هذا القول: اللغة المصرية، قديمة و حديثة، و بالتالي الثقافة المصرية ليست أرقى في هذه النقطة من الثقافة العربية-السامية و حسب بل و من الثقافة الأنجلو-أمريكية التي تسعى إلى تسيُّد ثقافات العالم بصفتها الثقافة الأرقى. و كثيرون منهم سيرمونني، بشكلٍ شبه مؤكد بالشوفينية لذلك. و أستمد دليلي على رقي الثقافة المصرية هنا من أن الكلمة الموازية لكلمة "الست" المصرية في اللغة الإنجليزية تقبل مثلما تفعل مقابلها المباشر في اللغة العربية-السامية حمل الحططان من الشـأن. و قاموسCollins Cobuild English Dictionary يقول أن تعبير You woman! يُمكن أن يكون جارحاًaggressive.
و هو الأمر الذي يأباه أي تعبير يستخدم كلمة "ست" المناظرة في المعنى في لسان المصريين.
و غني عن الذكر أن كلمة "امرأة" مستعارة إلى "اللمح" من اللغة العربية-السامية. و ليس أدل على ذلك من "قلقها" في "اللمح" حتى هذه اللحظة. و هذا قلق راجع إلى أنها لم تضرب بجذور عميقة في تربة البنية الدلالية لـ "اللمح". فالكلمة لا تعرف لها في "اللمح" لا تذكيراً و لا تصغيراً، و هو الأمر الذي تعرفه في لغتها الأصلية و اللهجات التي تطوَّرت عنها: "أمرؤ" و "مرية"(اللهجة الخليجية) على التوالي، هذا من ناحية أما من الناحية الأخرى فكلمة "ست" كلمة مصرية صميمة و الأدق حامية فهي عبارة عن مؤنث كلمة "سي" بمعنى "رجل/ جدع" بل و تعرفها الطبقات التحتية Substrata للغات الحامية بأسرها، و هذا هو السر في وجود كلمة "سي" في لهجات المغرب، و مصر جزء منه، عرقياً و ثقافياً و لغوياً، دون لهجات المشرق: سي عبد الرحمان، سي محمد إلخ.
أما كلمةLady في اللغة الأنجلو-أمريكية، فليست اسماً عاماً، يُوازي "ست" المصرية، الأصيلة، بل لقب أقتُصر حمله في الأصل على سيدات الطبقات المالكة أو الحاكمة (=الراقية) كالدوقة و الكونتيسة و البارونة إلخ، دون سائر النساء.
عن الكتاب الأمريكاوي:
و لقد نظرت فرأيت أن الكتاب المدرسي في مادة القراءة الذي وضعه الخبراء الأمريكيون بأيديهم، في مركز "تطوير المناهج" ـ و يالا ابتذال المصطلحات ـ دون أن يكتفوا بالإشارة لأتباعهم بوضعه، و يقبله منهم، بامتنان لا زيادة عليه "التربويون المصريون" لتلاميذ الصف الثالث الإعدادي لسنة 2001 أي للأطفال المصريين الذين يتراوح عمرهم بين 13و 14 سنة يتضمن هذا السؤال، ضمن ما يتضمن:
ـ ماهي عقوبة الكافر؟
و بطبيعة الحال لم يتوقع أي "متعلم مصري" بدءاً من حملة شهادة محو الأمية حتى شهادة الدكتوراة جواباً على هذا السؤال "الفائق العلمية" سوى أقصى العقوبات الممكنة: القتل(=الإعدام) أي Capital Punishment. و لكن هل يُدرك أيٌ منهم أن هذا السؤال "الجوهري" الذي لا يعرفه أي منهجٍ دراسي في العالم أجمع، فيما أظن، و لا ينقص تلاميذنا في هذه المرحلة العمرية سوى طرحه عليهم، و تلقينهم الإجابة الحاسمة و الصحيحة عليه يُمكن أن يمتد بقوته الذاتية على استقامته كي يشمل أيضاً الأموات، بمعنى أن يكون "الكافر" قد رحل عن دنيانا، مثل الفرعون العظيم "أحموسي ابن أمون" بطل تحرير مصر من احتلال الهكسوس؟ و بالتالي تسقط المتعة التي كان لواضع الكتاب الأمريكاوي لتلاميذ مصر و صبيه ناقص المصرية الذي يقبله منه دون تعليق عاتب على الأقل، أن يستشعراها نتيجة لإنزال تلك العقوبة التي تتجه البشرية خلال مسيرتها نحو المستقبل الوضاء، إلى نبذها من قاموسها، بالفرعون خالد الإسم طيب الذكر. و هل يبقى لواضع الكتاب و فارضه على العقل المصري منذ نضارته الأولى من عقوبة قُصوى لـ "ابن أمون" سوى أن يعود الهكسوس بعد طرده لهم إلى احتلال مصر؟
ثلث الأصوليين:
و الآن هل يحق لأحد أن يستغرب بعد ذلك هذه الحقيقة: خرج ثلث التنظيمات الإسلامية الراديكالية،(=الأصولية) و عددها 92 تنظيماً من مصر؟، و ذلك وفقاً لما يذكره "آر.إتش. ديكمجيان" في كتابه "تاريخ الحركات الإسلامية"، و نقلاً من جانبي عن مقال لـ "أ. المهدي" نشرته له صحيفة "الحياة" اللندنية ص 21 يوم الأربعاء 22ديسمبر/ كياك 1999.
و هل يحق لأحد أن يستعجب إذا ما اتخذ بنو إسرائيل أهرامات الجيزة الثلاثة شعاراً لإحدى محطاتهم الفضائية، طالما يتخذ "المصريون" شعاراً لهم يتوسط علمهم الرسمي، في ظل "تعليم" فاسد و "إعلام أفسد"، يصممه الأمريكيون لهم، نسر "صلاح الدين الأيوبي" الذي كتب إلى سيده الخليفة العباسي "المستنجد" في "بغداد" عقب النصر الذي أحرزه على "الفاطميين" يقول: "لقد قضيت على الدولة المصرية"؟
و بطبيعة الحال، كان الخبراء الأمريكيون، قد نجحوا في أوقاتٍ سابقة مع مطلع انقلاب يوم الأربعاء الأغبر في مصر، في "تطهير" الكتاب المدرسي لتلاميذ المرحلة الابتدائي (=الابتدائية) من قصص مثل "الإتحاد قوة" التي تحكي عن استعصاء حزمة أعواد القش، مجتمعة، على الكسر، مع قبوله من أعوادها، متى تعرَّضت له عوداً فعوداً. و "الحرية"، التي تحكي عن قطة فضَّلت الحرية على الخبز و أظنها كانت لأستاذنا "مصطفى لطفي المنفلوطي"، إن لم تخوني الذاكرة، و "الكنز" التي تقص عن رجل اقترب منه الأجل، فجمع أولاده و همس إليهم أنه خبأ لهم كنزاً في الغيط، فأخذوا يعزقون الأرض و يقلبون الثرى مرة بعد أخرى، فلم يجدوا شيئاًً، و لكن المحصول زاد في سنتها، فرسوا على أن هذه الزيادة هي الكنز المخبوء. و لست في مجال تقديم دراسة مستفيضة في هذا الشأن، و هو الأمر الذي كان من أوجب الواجبات بالنسبة أكاديميينا و تربويينا الأفاضل، لكنهم غفلوا عنه جميعاً، و دون استثناء و ذلك في نطاق علمي بطبيعة الحال، لأسبابٍ أشك كثيراً في وجاهتها.
إبادة ثقافية:
إذا قفز "متعلم مصري" إلى أنني إنما أدعو إلى نبذ التعليم و احتضان الأمية، كحل بديل لحلول عديدة لما نواجهه نحن المصريين المعاصرين، من كارثة باتت ُمحدقة، فإن سيادته يكون قد جانب الصواب. فالأصح أنني أدعو مع كبار التربويين العالميين، و بينهم العالم الأمريكي "مورين ميرفي" في حديث خاص لها معي، نشرت مجلة "أخبار الأدب" جزءاً منه، و حذفت الجزء الأكبر منه لأسبابٍ تخصها، في الأسبوع الأخير من أبيب/يوليو 1994 ، إلى أن نرسِّخ ما يعرفه الطفل أي ما "يكتسبه" عن ذويه قبل أن "نعلِّمه" ما لا يعرفه، و بعبارة أخرى ينبغي أن "نعلم" التلميذ المصري أن يكتب و أن يقرأ هذه الجملة "أنا مصري". أما إذا "علمناه"، مثلما تفعل الآن برامج محو الأمية في مصر، التي يشرف عليها الخبراء الأمريكيون، أيضاً، أن يكتب و أن يقرأ "أنا عربي"، فإننا لا نكون قد محونا أميته و حسب، بل و محونا شخصيته القومية أيضاً، و لا أعني بطبيعة الحال سوى القومية المصرية، أي أنزلنا به قدر الإبادة الثقافة Cultural genocide .
و إذا كانت تلك الإبادة تجري بأيدي "المتعلمين المصريين" بعد أن سلَّموا عقولهم مفروشة ـ كشقق حي "الزمالك" سواء بسواء ـ لكهنوت قصر همومه كلها على رجم جدودهم فراعنة مصر العظام بأحقر الصفات و أشنع الاتهامات، كي ينفردوا بين المتعلمين في أربعة أركان الدنيا بالترحيب و الانتشاء الدافقين بالاستراتيجيات الأجنبية بدءأ من تلك التي سعى و لا يزال يعمل الساميون عرباً و عبرانيين على تسييدها في مصر، فلن يكون في وسع المؤرخين أي يُشخِّصوا، في المستقبل ما حدث بصورة أسهل من قطع السكين في الزبدة للمصريين المعاصرين، تشخيصاً بعيداً عما يلي: {أمة عريقة أبادها "متعلموها" بدءاً بكهنتها مروراً بقساوستها و شيوخها وصولاً إلى أكاديمييها، و ذلك منذ اللحظة التي انخرطوا فيها في سلك الخدم و الحشم للبلاط الحاكم اعتباراً من الأسرة البطلمية و حتى اليوم. }!
و إيضاحاً للأمر أستعير في هذا الصدد تعبيراً على سبيل المجاز من هندسة البناء: ينبغي علينا أن نتخذ من "أميتنا" أي ما نكتسبه عن هذا الطريق غير الكتابي كـ "ميدة"groundsill نرص عليها مدماكاً فمدماكاً كافة العلوم و المعارف التي يجب أن يتضمنها كتاب مدرسي، يضعه تربويون مصريون كاملو المصرية كي يدرسه تلاميذنا في دور التعليم في بلادنا أما "تعليم" تلاميذنا-ضحايانا عوار الشعر و عقوبة الكفار على أيدي شيوخ الإسلام الجديد من الخبراء الأمريكان و صبيانهم من "الأكاديميين" نصف المصريين و بالتحديد "المصريين-الساميين"، فإنه أمر يصل إلى حد فرض "الانقطاع" على تلاميذنا عن جذورهم أي ثقافتهم القومية المصرية-الأفريقية كي نفرض عليهم الاتصال شبه المستحيل بجذور أخرى أي بالثقافة العربية-السامية، و هي بكل تأكيد ثقافة أدنى، و بالتحديد ثقافة عصو-وسيطية، "يفلفص" أبناؤها أنفسهم في سبيل تجاوزها و ينجح بعضهم في ذلك (الإشكناز الإسرائيليون نموذجاً) و يتابع بعض آخر "فلفصته"(الخليجيات التي تحاول خلع الحجاب/الخمار/النقاب/السدال. و قيادة السيارات إلخ نماذج).
و تأسيساً على حملة "الإبادة الثقافية" الموجهة ضد المصريين المعاصرين بصفتهم هذه أي "مصريين بثقافتهم القومية"، فإنني لا أملك سوى أن أطلب من أبناء أمتي المصرية، نفس ما طلبه المثقفون الألمان من أبناء أمتهم في سبعينات(=سبعينيات) القرن الثامن عشر، أي خلال الفترة التي كانت فيها الأمة الألمانية في طوْر التكوُّن:
ـ كونوا متحدين! Seid eining
و الأولى: اتحدوا بصفتكم مصريين-أفارقة!
و ليس لي في هذا المجال أي هدفٍ أبعد من مقاومة النجاح الساحق الذي حققته و تواصل تحقيقه الولايات المتحدة التي تمكَّنت من تسليط مجموعة من الصبية أو العسكروت، منذ فجر يوم الأربعاء المهبب، أثبتت الأيام اللاحقة أنهم أشد عداء و شراسة و خطورة على أمتهم المصرية، من جحافل الفرس و العرب و الترك و التتر و المغول مجتمعين، بعد أن مكَّنتهم "واشنطون" من عقد تحالف مع الكهنوت، و ساعدتهم على فرض نسقين فعالين في "تا-ميري" هما "التعليم" و "الإعلام"، اللذين يُخرِّجان و "يُنمِّطان" أعداداً هائلة و هائلة بشكلٍ مخيف لا تحتاجهم البلاد قدر ما تحتاج إليهم بإلحاح، الاستراتيجية الأنجلو-أمريكية، من "المصريين" المعادين لمصريتهم الأصيلة، ممن يستبسلون في سبيل تبني هوية مزعومة، هي هوية أعدائهم التاريخيين، كانوا و لا يزالون حتى هذه اللحظة، و الفاقدين لأي قدرة أو حرفة أو مهنة، أو لغة، أو قاعدة معرفية، و ذلك بطبيعة الحال، وفق المعايير المقبولة عالمياً، اللهم سوى مقدرة واحدة و فريدة: تكفير الآخر.
و انطلاقاً من هذه النتائج التي توصلت إليها بشكلٍ منفرد، خرجت منفرداً كي أدعو في سنة 1990 بدعوتي هذه في كتيب صغير حمل نفس عنوان الكتاب الحالي الذي بين يدي القارئ الكريم، دون العنوان الفرعي، و هو الكتيِّب الذي دخل عليه التعديل إثر التعديل و التطوير بعد التطوير و الإضافة عقب الإضافة حتى أصبح على ما هو الآن.
***
حمل الفصل الأول عنوان "إبراهيم سامياً":
و استندت فيه إلى الثقافة السائدة التي ترى أن "إبراهيم" عليه السلام هو أبو الأنبياء العبرانيين و العرب معاً. و أطلقت على "ديانة الساميين" حسب تعبير عالم البشريات "روبرتسون سميث" اسم الديانة الإبراهيمية التي انشعبت في أوقاتٍ لاحقة إلى ثلاث شعب هي الموسوية و المسيحية و المحمدية. و كان موقف هذه الشعب الثلاثة لهذه الديانة من القومية المصرية و كافة رموزها الثقافية و عاداتها و تقاليدها بدءاً من نصب الموالد و التبرك بالأسلاف و زيارة قبورالأحبة العزاز ...إلخ هو دافعي الأول إلى جمعها تحت عنوانٍ واحد.
و شال الفصل الثاني عنوان "موسى منتصراً":
و تناولت فيه شخصية "موسى" عليه السلام كما تلوح في الثقافة السائدة في مصر. و انتهيت فيه إلى أن "موسى" إنما هو رمز قومي لبني إسرائيل، و الرمز القومي هو "الشخصية التي تتجسد فيها القيم الثقافية، أياً كانت، الأكثر أهمية لأي جماعة من الجماعات البشرية"، حسب "آن إيريكسون" في كتابها "تصنيع الأبطال"La fabrique des Heroes. p.150,Paris,1998 و لما كانت الرموز القومية لا تنشأ و لا تترعرع في فراغ، و تحتاج دائماً إلى خصم مناظر، فلقد اختار بنو إسرائيل و من ورائهم كافة الساميين، على وجه الترجيح، "فرعون" عليه الحرب كي يقف رمزاً للمصريين الذين يناصبونهم عداء تاريخياً. و كل ثناء، يصب باتجاه الرمز يصب في نفس الوقت باتجاه المرموز إليه. و على نفس النول نجد أن كل هجاء يستهدف أي رمز يستهدف في نفس الوقت المرموز إليه. فكل ثناء على "موسى" عليه السلام ينتهي عند قدمي العبرانيين بصفة خاصة و الساميين بصفة عامة. و كل هجاء يستهدف "فرعون" عليه الحرب يتدفَّق حمماً نفس الوقت على المصريين-الأفارقة. و لم يكن هماً من همومي هنا أن أبحث في مدى "تاريخية" أي شخصية سامية، طالما تربَّعت على ذلك النحو على قمة الثقافة السائدة في مصر و المنطقة المحيطة.
و ظهر الفصل الثالث تحت عنوان ("الله" -لفظ الجلالة-عربياً):
و خلصت فيه إلى أن "الله" هو لفظ الجلالة الذي تعرفه اللغة العربية "الفصحى" للإله الواحد الأحد الذي تعرفه لغاتٌ أخرى عديدة أي أنه يوازي Dios عند الأسبان و Dieu عند الفرنسيين بل و "خدا" عند الإيرانيين المعاصرين، و هم حسنو الإسلام صحيحوه. و تراهم يترجمون البسملة إلى لغتهم الإيرانية على هذا النحو:
{بنام "خدا"باخشوانده مهربان}
و لا يجرؤ أحد على التشكيك في إيمانهم بالرسالة المحمدية لاستمرارهم على هذا النحو في استخدام اسم الإلاه "الوثني" في لغتهم القومية العريقة نظير اسم الإلاه الواحد الأحد الذي بشّرت به الديانة المحمدية خلال اللغة العربية.
و أذكر أنني أبديت هذه الملاحظة لـ "متعلم مصري" كبير يسبِّق باستمرار اسمه بـ د.، هو "ع. طنطاوي". و "يساري" مخضرم و إخصائي في الصحة النفسية و يملأ إمضاؤه الدوريات في مصر و المنطقة المحيطة:
"بكل فاعل نرفعه و كل مفعول ننصبه و كل مضافٍ نجره نساهم في ترسيخ وجود اسم إلاه العرب-الساميين في مصر، يعني بنمحي سمة من سمات الشخصية القومية للمصريين المعاصرين، و بالتالي نخطِّي بهم خطوة يم العصور الوسيطة"
فما كان من سيادته إلاَّ أن رد ـ يسلم تمه ـ على رأي أبناء العمومة:
ـ "بلاش المبالغات دي اللي بتحاول تفرض تصورات ذاتية على واقع مادي جدلي تحكمه قوانين موضوعية...إلخ"
و كان ما حدث لحظتها أنني بحثت عن لسانٍ لي فلم أجد.
و حضر الفصل الرابع تحت عنوان (مصر رهن الهزيمة):
و في هذا الفصل أشرت إلى أن مصر بدأت تدفع الجزية للأجانب بشكلٍ منتظم للفرس في أعقاب الهزيمة المريرة التي حاقت بها أمام جحافل الفرس، تحت إمرة الفاتح الأسيوي "كمبيز ابن كورش" عليه التحيات الزكيات ـ حتى يبتهج "المتعلمون المصريون" الذين يرفعون اسمه "الغالي" على أحد شوارع عاصمتهم ـ في سنة 525 ق.ع.م. لكن التغير الخطير هو الذي بدأ مع وصول اليونانيين من جنوب أوروبا ثم العرب من غرب آسيا. فعبر اليونانيين، و خلال السيطرة السياسية للرومان، جاءت الشعبة الثانية للديانة الإبراهيمية: المسيحية التي يُجمع علماء المصريات على أنها قضت على الحضارة/الثقافة المصرية. و لكنني رسمت حداً فاصلاً بين الديانة المسيحية و بين المصريين المسيحيين الذين ظلوا، رغم كل شيئ، مصريين. و في عبارة سير "والس بادج"، غير الودودة، ربما بسبب تحيزاته المسيحية المسبقة، فيما يبدو:
" لم يستطع العقل المصري أبداً و المسيحيون المصريون أو الأقباط كما يُعرفون عادة، و هم الأحفاد العرقيون المنحدرون من المصريين القدماء، أن يتخلصوا من الخراريف و المفاهيم الأسطورية الغريبة التي ورثوها عن أسلافهم الوثنيين."
و يُضيف:
"تجدر الإشارة إلى أن مترجمي "العهد الجديد" إلى اللغة القبطية نقلوا كلمة "هاديس"adhz اليونانية إلى Amen]، و هو نفس الإسم الذي كان المصريون القدماء(أي الوثنيون) يُطلقونه على مثوى البشر بعد الموت"
(مقدمة ترجمته لـ "كتاب الموتى" صxviii)
و واضح أن ما يستهجنه فينا السير "بادج" هو "الإتصال" مع جذورنا، و ما كان ليستملحه هو "الإنقطاع" عن هذه الجذور جملة و تفصيلاً.
و جاء الفصل الخامس تحت عنوان("متعلمون مصريون"): و فيه عرضت لما يتلقاه "المتعلمون المصريون" في إطار نسق التعليم في مصر، أو ما يزعم البلاط العسكري الحاكم و أسيادهم أنه كذلك، بدءاً من تبني هذا "التعليم" ـ بقوسين عريضين بهدف التحفظ ـ وصف الغزاة لغزوهم لأرض "إيزيس" بأنه "فتح" و كأن المصريين هم الذين "فتحوا" ـ على حد وصفهم غير الموضوعي ـ أنفسهم بأنفسهم في أواسط القرن السابع من عصرنا المعروف!
و كان الفصل السادس تحت عنوان (مصر رهن الهزيمة):
و في هذا الفصل انتهيت إلى أن الأميين في مصر أكثر "اتصالاً" من "المتعلمين المصريين" عبر التواتر، الذي عمَّق تأثيره "تبجيل الجيل الأصغر للأجيال الأكبر" أي تسلَّم مجمل التراث المصري من جيل أقدم لنقله لجيلٍ أحدث. فالإحترام، و هو جوهر التبجيل، شرط ضروري للتأثر و التعلم و السير على النهج، بإحدى إن لم نقل، أعظم حضارة عرفها الشرق الأوسط القديم، و بتعبيري الأثير: أفريقيا المتوسطية أي الحضارة المصرية القديمة. و هذه بديهية مضطهَدة(بفتح الهاء) من جانب هؤلاء "المتعلمين المصريين" الذين يرسخ في عقلهم المزيف أنهم "أرقى" من أمييهم! و هذا أمر مفهوم و إن لم يكن مقبولاً طالما يفرض عليهم "التعليم" في مصر أن ينقطعوا عن جذورهم أي أن يجهلوها كي يحاولوا تبني جذور أعدائهم التاريخيين. و ضربت مثالاً على ذلك بالتوقيت المصري القديم: التوقيت الشمسي و الأدق النجمي الذي يرتبط بالبنية الزراعية المتقدمة لمصر و يبدأ بشهر "توت". و كان بمثابة إحدى الهدايا التي أهدتها مصر للبشرية جمعاء. و مع ذلك فهو التوقيت الذي يجاهد "التعليم" و من ورائه "الإعلام" في مصر في فرض نسيانه كي يرغم ضحاياه على تبني أحد توقيتين: الإفرنجي أو العربي ـ و لنصمت عما يُسمى بالتوقيت الأبوقطي الآن ـ و كلاهما أجنبيان عن مصر و وادي النيل، و إن امتاز الأول بأنه شمسي/نجمي، أما الآخر فتوقيت قمري شرع أصحابه أنفسهم في التخلي عنه.
و جاء الفصل السابع تحت عنوان (اثريون و لغويون):
و فيه عرضت لموقف شريحتين من "الأكاديميين" في مصر. و الحقيقة أننا نستطيع أن نعرِّف "الأكاديمي" عندنا بأنه ذلك الشخص الذي لا يجهل جهلاً مخجلاً الأسس الأولى لكافة العلوم و الفنون و المعارف العامة التي تقع خارج نطاق تخصصه و حسب، بحيث يصعب على المرء أن يفرِّق بينه و بين أي "سبَّاك" أو "سمَّاك" محترميْن، متى خرج عن نطاق تخصصه، بل و يجهل كذلك أبجديات تخصصه ذاته أو على الأقل هذا ما لمسه "الحر الفقير" فيما يتعلق الأمر بالعلوم الإنسانية التي نتصل بدراستها بعض الاتصال. و مع ذلك يصر هذا الأكاديمي باستمرار على تسبيق اسمه بـ د.، تمهيداً للإفتاء في كافة المجالات باطمئنان راسخ إلى أن جميع مستمعيه و قارئيه، أقل علماً من سيادته. فيكون د.في النقد الأدبي و يُقدِّم كتاباً يزعم كاتبه ـ و هو د. أيضاً و لكن في "تقنيات التغليف" ـ أنه في المصريات. في حين أنه لم يكتب ـ و لم يترجم ـ كتاباً في تخصصه الأصلي أي النقد الأدبي. و بطبيعة الحال لا يملك سوى أن يكتب سيادته بضع عبارات لا تتمتع إلاَّ بالصحة النحوية و البراعة البلاغية في الموضوع الذي يتطرق إليه. و يكون سيادته د. في علم النفس و يصول و يجول في اللغويات في حين أن سيادته لا يفقه إلى البديهيات الأولى في العلمين على حدٍ سواء. و يكون سيادته جراحاً و يفتي في "اللغويات" بأن العالم أجمع انتهى من حدوتة "الفصحى" و "العامية". و بطبيعة الحال هذا ليس صحيحاً و حتى إذا كان صحيحاً فما معناه؟ هل نتناسى أي نقفز على مشكلة عويصة لا تزال آخذة برقابنا حتى نلحق بذلك العالم الذي لا يملك وجوداً إلاَّ في رأس سيادته. و يكون سيادته متخصصاً في الإقتصاد، و ينخرط في النقد الأدبي و يتزى بزي "المعارض" الأشوس، فيصدر الأحكام المجانية على الرواية في مصر منذ سنة 1988 و يوسع اهتماماته حتى تشمل مجالات أوسع فيصف "العلمانيين" في مصر بالتطرف بينما يحتفظ لـ "الأصوليين" بمكانٍ فسيح تحت مظلة حقوق الإنسان، و خصوصاً حق التعبير. أما قراره الأساسي فهو شن الحرب ، غير عابئ بلوم منصف نبيه أو مخلص نزيه، أو "زمزأة" من جانب رؤسائه في "الجامعة الأمريكية" التي يعمل بها ضد ما يُسميه بـ "التغريب".
و على هذا النحو يأتي "جهاد" "الأكاديميين" في مصر في سبيل صوغ الأفكار البالية التي تتمسك(=تستمسك) بها الثقافة السائدة و تتردد حتى على المنابر و خلال برامج الإذاعة و التليفزيون و دردشات القهاوي(=المقاهي) في ألفاظٍ جديدة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
و أذكر في هذا الصدد أنني ألقيت محاضرة عن مقدرة و فصاحة اللغة المصري الحديثة "اللمح" دون عجزها الذي يزعمه عنها "المتعلمون المصريون" ـ و ياللعجب ـ في منتدى ثقافي بمقر حزب سياسي عروبيَّ التوجُّه، يزعم الانتماء إلى اليسار. و لم أكد أفرغ حتى انبرى لي شاب يتدفق حماساً جزء كبير منه ديني، عرفت فيما بعد أنه د.في اللغة العبرية في إحدى الجامعات الاقليمية، كي يقول:
ـ الكلام دا خطير!
و كان أن رددت عليه من فوري:
ـ الكلام بيتحاكم أول ما يتحاكم من زاوية ي خطؤه ي صوابه.
و لكنه واصل حماسه المتدفق من الصالة، دون أن يبدو عليه سماع حرف واحد مني، و دون أن يفطن إلى أنه يُعبِّر عن نفسه، و لا يستطيع إلاَّ أن يُعبِّر عنها، بطلاقة سوى باللغة التي يرمي الحديث عن مقدرتها و فصاحتها بالخطورة كي يقول:
ـ الكلام دا ح يأدي في نهاية المطاف لـ "هدم" اللغة الفصحى!
و هكذا عادت، في تلك الليلة، حكمة التاريخ، تلك التي أفصح عنها العالم العظيم "سيجموند فرويد" كي تُطل برأسها: "الحضارة تجاوز لقاعدة اللذة". و معنى القول أن الجريمة التي ارتكبتها "الثورة البلشفية" في روسيا بالقضاء على أرستقراطية الروس في الربع الأول من القرن العشرين، عاد "انقلاب يوليو الأمريكي"، و هذا تعبير أدق، لارتكابها ضد أرستقراطية المصريين، بتأييد متدفق من قطاعاتٍ واسعة من شتى ألوان الطيف من "المتعلمين المصريين"، أياً كانت الأسماء و الصفات السلبية التي أنزلها بهذه الأرستقراطية، التي لم نكن نملك سواها، أولئك "المتعلمون المصريون" الذي تعجز اللغة عن مدِّي بوصفٍ يستحقونه، بدءاً بما يسمون بالماركسيين. فحجم الهرم الأكبر و الحضارة المصرية القديمة ككل، إنما يتوازى مع حجم الشبع المادي و الروحي الذي توفَّر في تلك العصور في مصر، أي مع الثروة التي استطاع المجتمع المصري الزراعي القديم أن (1) يراكمها و أن (2) يضع مقدراتها في أيدي طبقة مصرية قومية سائدة. فالجياع إلى غريزتيْ حفظ الذات و حفظ النوع، لا يستطيعون أن يبدعوا أعمالاً تتجاوز زمنهم و مكانهم. و يحق لنا نحن المصريين أو "الجالية المصرية" في مصر ـ حالياً ـ أن نندم أشد الندم. فبعد أن قضينا أو سمحنا بالقضاء على أرستقراطيتنا التي كانت قضيتها عقلها و وجدانها، لم يتبقى(=يتبق) سوى "متعلمين" قضيتهم لا تتعدى معدتهم و "يكرم اخواتي"، يقف على رأسهم "أكاديميون" من أمثال ذلك الشاب الذي يتدفق حماساً في دفاعه عن أفكارٍ سائدة أي أنها ليست من صنع سيادته، بل يقف لها سادناً مع رهطٍ كبير من أمثاله و حسب.
و لقد وقفت في هذا الفصل على وجه الخصوص، موقف النقد أمام يقين مدرسي المصريات في جامعات مصر بأن اللغة المصرية القديمة لغة سامية، و إيمان مدرسي اللغويات في نفس الجامعات بأن اللغة التي يتحدثها المصريون اليوم "لهجة" من لهجات العربية "الفصحى" أو "عامية" لها.
و لاح الفصل الثامن تحت عنوان (بين العامية و الفصحى):
و أفردته لمناقشة مقالين أحدهما لـ د.غير متخصص في اللغويات بل في الفلسفة و الآخر لـ د. متخصص في هذا الفرع من فروع العلوم الإنسانية. و الغريب أن كليهما انتهيا إلى نتيجة واحدة، لم تبعد شعرة عن رواسخ الثقافة السائدة. فقال الأول أن "العامية" هي "لغة الظلام" و أكد الآخر أن ("العامية" قاصرة عن التعبير عن الأمور الثقافية و الفكرية و الفلسفية). و أوضحت أن ما ترميه الثقافة السائدة بأنه "عامية" هو في حقيقة الأمر تطوُّر دخل على لغة قديمة حسب القوانين التي تحكم صيرورة اللغات البشرية جمعاء.
و قبل الفصل التاسع عنوان (نحو أبجدية جديدة):
وفيه وجهت نقداً مفصَّلاً لطريقة كتابة "اللمح" بالحروف العربية النبطية الأصل. و هدفت من وراء هذا النقد إلى الدعوة إلى وضع أبجدية جديدة لكتابة اللغة القومية للمصريين المعاصرين، على النقيض مما هدف إليه طه حسين و عبد العزيز فهمي و عثمان صبري و سلامة موسى و غيرهم الذين سعوا إلى وضع أبجدية جديدة لكتابة اللغة العربية "الفصحى".
و أطل الفصل العاشر تحت عنوان (لويس عوض:ننقده لا نصادره):
و في هذا الفصل دافعت دفاعاً حاراً عن حق "لويس عوض" في أن يبحث ما شاء له البحث في كتابه المُصادر ـ وقت ذاك ـ و هو "مقدمة في فقه اللغة العربية". ثم وجهَّت نقداً علمياً لغوياً بدءاً من العنوان و اختتاماً بالنتائج التي انتهى إليها، مروراً بمنهجه ذاته. و لقد رفضت منه على وجه الخصوص، أن يقبل من الثقافة السائدة القول بأن اللغة القومية للمصريين المعاصرين كانت أو أصبحت اللغة العربية.
وارتدى الفصل الحادي عشر هذا العنوان (حول اللغة المصري الحديثة):
و فيه عرضت بتوسع أكبر، ليقين مدرسي الآثار في جامعات مصر بأن اللغة المصرية القديمة تنتمي للفرع السامي من العائلة اللغوية المعروفة باسم "الحامية-السامية" ثم لإيمان مدرسي اللغويات في نفس الجامعات بأن اللغة التي يتحدَّث بها المصريون المعاصرون "لهجة" أو "عامية" في علاقتها مع اللغة العربية-السامية. واستندت إلى أستاذنا "إبراهيم أنيس" في رفض وجود صلة بين اللاحقة "ش" و بين "شيئ" العربية في بناء "النفي" فيما سمَّاه(= أسماه) باللهجة المصرية، و هو الوهم الذي لا يزال "المتعلمون المصريون" يتمسكون به باصرار و يرددونه باستمرار، يبعثان على الحيرة حتى اليوم. و لكنني رفضت منه أن يبحث عن أصل هذا "الشين" في العبرية بعد الفشل في العثور عليه في العربية. و انتهيت إلى أن هذا الأصل موجود و حسب في المرحلة القبطية على الأقل من اللغة المصرية القديمة "اللمق".
و أخذ الفصل الفصل الثاني عشر عنوان (رداً على "جغرافية التوراة"):
و تناولت فيه ما كنت لأهتم له أو أحفل به لو لم يُقدم له أستاذ دكتور في الآثار. و الكتاب و هو "جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة" لم يستند إلاَّ على مراجع عربية من طراز "الطبري" و "المسعودي" و "ابن الجوزي" عن الفراعنة أو المصريين القدماء. و هذه كتابات خطها أصحابها قبل أن تسلِّم الحضارة المصرية القديمة مفاتيح كنوزها للعلماء الغربيين بدءاً من "توماس يونج" و "جان-فرانسوا شامبيليون". لكن سيادته اعتمد عليها وحدها، و كأن العالم الخارجي غير موجود بالنسبة له، في محاولة نفي ما استقر عليه علم المصريات. و استشفع الكاتب في هذا النفي بالهدف "النبيل" الذي توخاه و أقره عليه سيادة الدكتور الأكاديمي الذي قدم للكتاب: إقناع قارئه بأن المصريين عرب ساميون. و بطبيعة الحال توقفت أمام الموضوع و كذلك أمام الهدف "النبيل" ذاك.
أما عنوان الفصل الثالث عشر فلم يخرج عن(المصريون بين الشوفينية و الدونية):
و عرضت فيه لتهمة طالما لوَّح بها في وجهي "متعلمون مصريون" عديدون. و أقمت دليلاً أراه قوياً على أن "المتعلمين المصريين" لا يُعانون من الشوفينية بل على العكس من الدونية. و صككت مصطلحاً جديداً تماماً هو "معاداة-المصرية"Anti-Egyptianism ، و هو مصطلح يتناص مع مصطلح آخر هو "معاداة-السامية"Anti-Semitism. لكن المحزن في الأمر أن العداء للمصرية ينبع من داخل أبناء مصر أنفسهم، و ذلك على النقيض من العداء للساميين و الأدق لليهود، الذي يستهدفهم من خارجهم.
و كان الفصل الرابع عشر(3 دفاعات عن "اللمح"):
و فيه عالجت التهم-البديهيات الثلاثة(=الثلاث) التي يوجهها "المتعلمون المصريون" وراء الخبراء الأنجلو-أمريكيين للغة المصريين المعاصرين:
(1) "اللمح" عامية.
(2) "اللمح" لهجة.
(3) "اللمح" سوف تُؤدي، لا محالة، إلى تمزيق المنطقة التي أطلق عليها الخبراء البريطان "العالم العربي" و ورثها عنهم الخبراء الأمريكان كي يُطلقوا عليها "العالم الإسلامي" بعد توسيعها قليلاً.
و استندت إلى معرفتي المتواضعة باللغويات من ناحية و الأشد تواضعاً بالمصريات من ناحية أخرى، في نفي التهم الثلاثة(=الثلاث) أي تمزيق البديهيات التي تتأسس عليها.
و لم يتردد الفصل الخامس عشر في الظهور تحت عنوان(مأساة اللغة القبطية في مصر):
و فيه توقفت أمام مأساة مضلعة تعيشها المرحلة الثالثة من تطور اللغة المصرية بين "المتعلمين المصريين". فقسم منهم يجهلها حجري الجهل و قسم آخر لا يرى فيها سوى وعاء لشعائره الدينية. و أشرت في طيَّات هذا الفصل إلى أنه مما يُورث الهم و يثقل القلب معاً أن يقوم نظير هذا الجهل و ذلك الفهم السيئ في أرضها التاريخية: مصر، علم و معرفة عميقان و اهتمام و احتفال عظيمان بهذه اللغة ذاتها في سائر أرجاء العالم. و يتضح ذلك أكثر ما يتضح في طبع و نشر قاموس "كرام"Crum الذي يُعد عمدة اللغة القبطية في المدن و العواصم التالية:
"أكسفورد ـ لندن ـ جلاسجو ـ تورونتو ـ ملبورن ـ ويلنجتون ـ كوالالومبور ـ سنغافورة ـ جاكرتا ـ هونج-كونج ـ دلهي ـ بومباي ـ كلكتا ـ مدراس ـ كراتشي ـ نيروبي ـ دار السلام ـ كيب-تاون"
أي دون العاصمة الأم لهذه اللغة!!!
و ختمت بالفصل السادس عشر و هو بعنوان(حفاير لغوية تحت تعابير مصرية):
و فيه استندت إلى قانون أسميه "قانون الإحلال و الإبدال"، في الكشف عما يبدو عربياًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً و هو في حقيقته مصري، مثل تعبير Idiom "بالدراع" في الاستعمال الذي يقول: "عايش بالدراع"، و هو ما يعني "عايش باستخدام قوته". و السؤال الذي يفرض نفسه لماذا اكتسبت كلمة "الدراع" هذا المعنى على ألسنة المصريين، في حين أن المعنى باللغة العربية لا يدل و لا يُمكن أن يدل على "القوة"؟ فإذا قلنا "فلان يعيش بالذراع" لما حصلنا، بالمرة، على المعنى الذي نحصل عليه من التعبير المصري، ونفس الأمر ينطبق على تعبير "قمر 14" إلخ. و هنا لا نجد مهرباً من التوصل إلى أن المصريين، و إن استعاروا هذه الكلمة أو تلك أو هذه العبارة أو تلك من اللغة العربية-السامية الوافدة إلاَّ أنهم أترعوها بمعنى أحلُّوا فيها معانى و ارتباطات و ظلال مصرية، و هذه ليست "إنحرافاتٍ" عن ثقافة/ لغة وافدة من غرب آسيا/بل امتداداً للثقافة/اللغة القومية للمصريين، و هو الأمر الذي أبدلها عن نظيرتها المعروفة في شبه جزيرة العرب.
و لسوف يُلاحظ القارئ الكريم أنني أضع مصطلح "المتعلمين المصريين" بصفة عامة و شبيهاته بين قوسين على امتداد الكتاب، و هو الأمر الذي ألجأ إليه منذ سنة 1990 أي منذ طبعته الأولى، في دلالة واضحة على تحفظي على المصطلح، إذ أن المجتمع المصري بات و أصبح يفتقر أو يكاد إلى "جالية أكاديمية" Academic Community . و حمداً للسماء أننا عشنا حتى صدر تقرير جامعة "شانغهاي" الصينية، و هو التقرير الذي ما كان ليصدر عن أي جامعة غربية، لأسباب ليست خافية تماماً، ذلك التقرير الذي صدر في السنة الماضية و قبل الماضية كي يُخرج جامعات مصر ـ و دع عنك جامعات ما يُسمى بـ "العالم العربي" ـ خارج نطاق الجامعات الخمسمائة الأولى على نطاق جامعات العالم، بل و جاء ترتيب جامعات مصر، رقم خمسة آلاف على هذا النطاق، في حين طلع لإسرائيل سبع جامعات و لـ "موزمببيق" جامعة ضمن الجامعات الخمسمائة الأولى على نطاق جامعات العالم. و لهذا الأمر طعم العلقم، إلاَّ أنه يعزز ما سبق لنا أن زعمناه قبل18سنة.
و في هذه الطبعة و هي الرابعة، أضفت فصلين جديدين، هما:
1 ـ {الفرق/الفروق بين "اللمح" و "اللعق"} و الفصل عبارة عن نص المحاضرة التي ألقيتها أمام "جمعية الحوار الإنساني"، و أعدت إلقاءها بدعوة من أقباط متحدون"Unitedcopts في "برمنجهام" بانجلترا، و فيها توقفت بشكلٍٍ خاص عند فرق جوهري بين اللغتين. فـ"اللمح" تحليلية و "اللعق" تركيبية. و اللغات التحليلية هي التي تعمل بموجب ترتيب الكلمات في سبيل تحديد وظيفة الكلمة في الجملة أو المنطوق، أما اللغات التركيبية فتدخل تغييراً ما على الكلمة، في سبيل نفس الهدف، و هو تحديد وظيفة الكلمة في الجملة/المنطوق.
2 ـ {"اللمح" هي اللغة القومية للمصريين المعاصرين}، و الفصل عبارة عن نص المحاضرة التي ألقيتها أمام جمعية {"تحوتي" للدراسات المصرية} في قصر التذوق بالاسكندرية. و خلال المحاضرة توقفت ما شاء لي الوقت أمام الفرع المعروف باسم "اللغويات السيكولوجي"، و هو الفرع الذي يقع فيه موضوع المحاضرة، التي انتهيت معها إلى أن "الللغة المصري الحديثة" هي اللغة الأم بالنسبة للمصريين المعاصريين بمعنى لغتهم القومية، و ليست "اللعق"(=اللغة العربية القديمة)، كما يزعم ذلك الخبراء الأنجلو-أمريكان، و ورائهم في جوق سعيد، أكاديميونا، و وعاظنا و شيوخنا الأفاضل.
ملحوظة:
اهتديت إلى مصطلح يُحدد موقعنا على خريطة العالم، عوضاً عن المصطلحات الأجنبية، التي نلهث وراءها فور صدورها عنهم، و هو تحديد أدق قليلاً، و أنزه كثيراً أقصد: "أفريقيا المتوسطية"،L'Afrique Mediterranée، إزاء أفريقيا الاستوائية و أفريقيا الجنوبية إلخ. و ها أنا أسوقه في هذا الكتاب على سبيل الاقتراح، ليس إلاَّ.
Bayoumi Kandi
الفصل الأول:
إبراهيم نبياً
الفصل الثاني:
موسى منتصراً
الفصل الثالث:
الله-لفظ الجلالة-عربياً
الفصل الرابع:
مصر رهن الهزيمة
الفصل الخامس:
"متعلمون مصريون"
الفصل السادس:
مصر الأمية
الفصل السابع:
أثريون و لغويون
الفصل الثامن:
حول اللغة المصرية الحديثة: "اللمح"
الفصل التاسع:
حول أبجدية جديدة
الفصل العاشر:
لويس عوض: ننقده لا نصادره
الفصل الحادي عشر
بين ما يُسمى بالعامية و ما يُسمى بالفصحى
الفصل الثاني عشر:
رداً على كتاب "جغرافية التوراة"
الفصل الثالث عشر:
المصريون بين الشوفينية و الدونية
الفصل الرابع عشر:
3 دفاعات عن اللغة المصري الحديثة
الفصل الخامس عشر:
مأساة اللغة القبطية في مصر
الفصل السادس عشر:
حفاير لغوية تحت تعابير مصرية
الفصل السابع عشر:
عن الفرق/الفروق بين "اللمح" و "اللعق"
الفصل الثامن عشر:
"اللمح" هي اللغة القومية للمصريين المعاصرين.
بيان ثقافي
ملاحق
تقديم
نظرت فرأيت، و لما رأيت رصدت، و لما رصدت استنتجت، و لما استنتجت خرجت أدعو بدعوتي، هذه التي غدت وجهتي التي رسيت عليها في نهاية المطاف.
و لم يكن بوسعي أن أنظر فأرى، لولا أنني كنت قد تحررت عقلياً من الخراريف التي تجرعتها في دور التعليم في بلادي.
و لم يكن في طوعي أن أرصد دون أن أتجاوز العوائق التي وضعتها أمام ضميري الحي، قواعد الأخلاق الدينية السائدة.
و كان متعذِّراً، دون استنادٍ إلى منهجٍ علمي صارم تقوده المعلومات الموضوعية الموثقة، أن أستنتج أي نتائج حتمية و أن أتمسَّك بها، مثلما أفعل الآن، مهما مسَّت عواطفي أو عصفت ببديهياتي أو أطاحت بمسلَّماتي.
و كان من رابع المستحيلات أن أخرج بدعوتي التي أدعو بها في الوقت الحاضر دون أن أمتلك قدراً من الجراءة التي وطَّنتني عليها معرفتي. فالجراءة بنت المعرفة و الخوف ابن شرعي للجهالة.
و باختصار لم يكن في استطاعتي أن أقول شيئاً جديداً و رزيناً و عاصفاً، معاً على مثل هذا النحو، أو على الأقل هكذا أتصوَّر، قبل أن أقرر الإقامة الدائمة في قارتي التي اكتشفتها، دون عونٍ من أحد، و بعد رحلة طويلة، كنت خلالها أجدِّف بيدٍ واحدة، إذ كانت الأخرى مشغولة بضمان قوتي، وسط مجتمع صار أشبه بالغابة االبشرية، و الأدق "جنينة حيوان بشرية"Human Zoo و أقصد بتلك القارة: ثقافة الأميين المصريين أي الثقافة القومية المصرية التي يحملها الأميون المصريون بصفة رئيسية.
دنشواي بين ثقافتين:
في البدايات الأولى، نظرت و قرأت بل و درست خلال النسق التعليمي في مصر، ما كتبه "أحمد شوقي" أمير الشعراء(العرب بطبيعة الحال) عن حادثة "دنشواي":
يا "دنشواي" على رباك سلام،
ذهبت بأُنس ربوعك الإيام
شهداء حكمك في البلاد تفرقوا،
هيهات للشمل الشتيت نظامُ.
كيف الأرامل فيك بعد رجالها،
و بأي حالٍ أصبح الأيتامُ...إلخ
و ما كتبه "حافظ إبراهيم" الملقب بشاعر النيل، عن نفس الموضوع:
أيها القائمون بالأمر فينا
هل نسيتم ولاءنا و الودادا
خفضوا جيشكم و ناموا هنيئاً
و ابتغوا صيدكم و جوبوا البلادا،
و إذا أعوزتكم ذات طوقٍ فصيدوا العبادا...إلخ
بل و ما كتبه "صلاح عبد الصبور" الذي يعده نقادٌ كثيرون في مصر و أحياناً فيما يُسمى بـ "العالم العربي"، أحد كبار الشعراء الرواد المجددين المجيدين:
و ثوى في جبين الأرض الضياء،
و مشى الحزن في الأكواخ،
تنينٌ له ألف ذراع،
في كل دهليزٍ ذراع...الخ
و ما كتبه و الأولى ما أنتجه الأميون المصريون أي من أدعوهم بالمصريين-المصريين أي المصريين الحقيقيين عن نفس الموضوع:
يوم شنق زهران كانت صعبة وقفاته،
أمه عليه بتنوح فوق السطوح و اخواته،
و ابوه كما السبـــع يوم الشنق لم فاته...إلخ
و لست غافلاً عن أن الموازنة هنا بين أفراد كلٍ بمفرده و بين جماعة. و لست جاهلاً أن من "سمع عن" الحادث ليس كمن "عاشه". و لست مهملاً الفرق بين المعزين و بين أصحاب المأتم، أي أبناء القرية الواقعة في زمام "منوف". و لكن كل ذلك لا يخدش، من قريبٍ أو من بعيد، الحقيقة الناصعة التي ينساها و يتناساها "المتعلمون المصريون" باستمرار: الصورة التي رسمها ـ و/ الشعر رسم بالكلمات/ كما علَّمنا "أرسطوطاليس" ـ الأميون المصريون، باللغة المصري الحديثة أو "اللمح"، حسب تسميتي الخاصة، أروع، بما لا يُقاس، مما سطَّره "المتعلمون المصريون" باللغة العربية الوافدة إلى مصر و وادي النيل من غرب آسيا، تلك اللغة التي حازت أفعل التفضيل: الفصحى، دون سندٍ من منطق أو مسوِّغ من واقع. فالناطقون الأفراد بهذه اللغة أو تلك، هم الذين نستطيع، في بعض الأحيان، أن نصفهم بهذه الدرجة أو تلك من الفصاحة، دون اللغة التي ينطقون بها على إطلاقها، أياً كانت. فـ "ونستون تشرشل" لا يملك فصاحة "وليم شكسبير" لمجرد أن كليهما تحدث أو كتب بنفس اللغة: الإنجليزية. و نفس الأمر ينطبق إذا تطرقنا للغة الألمانية على "أدولف هتلر" و "هينريش هايني" و إذا رجعنا إلى اللغة العربية على "سحبان" و أي فرد من قبيلته: "وائل" التي عُرف عنها هذا المثل: "أفصح من سحبان وائل".
بل و لا أبالغ إذا قلت أن ما كتبه "المتعلمون المصريون" عن مأساة "دنشواي" لا يرقى إلى العتبات الأولى لما صاغه أولئك "المنبوذون" المصريون الذين لا يزالون يحملون قدراً زاد أو قل من رجس جدودهم الفراعنة، أولئك الذين يسميهم "المتعلمون المصريون"، إذا قرروا، في بعض الأحيان، إسباغ كرمهم عليهم: "البسطاء"، أو "الجهلاء" إذا ارتأوا، و هذا ما يحدث في أغلب الأحيان، حجب ما منحوا من كرم. و دع عنك استهداف الإعلام الزائف المفروض في أرض "إيزيس" لهم في الأعمال التي يزعم أصحابها، هم و البلاط العسكري الحاكم، أنها "فنية" من أفلام و مسلسلات و تمثيليات("الصعايدة وصلوا" نموذج)...إلخ
و أظن أن المرء ليس بحاجة ماسة إلي التعمق في مناهج نقد الشعر، قبل أن يسلِّم بأن "شوقي" ألقى بالمسؤولية، في الشطر الأول من البيت الأول عن فعل بشري محدد على "القدر" أو "الأيام". و ليس معنى ذلك أنني أري أي ضرورة لأن يعلِّق الشاعر هنا بالمسؤولية في رقبة الإنجليز. فهذه ليست في الغالب، هماً من هموم الشعر، لكن العكس ليس هو الآخر صحيحاً، أي أن تقرير الوجه الآخر للأمر خاطئ بنفس الدرجة أو درجة مقاربة. و يستطيع المرء أن يتساءل طويلاً عن مدى أهمية "الربى" و "السلام" بل و عن الروح الغنائية التي يحفُّها الطرب من كل جانب في موقف يتوقع فيه السامع المهموم قدراً من الأسى و قدرين من الحزن.
أما "حافظ إبراهيم" فكان مناسباتياً هنا، و هبط شعره الراقي الذي نعرفه عنه أحياناً ليست قليلة إلى مستوى النظم الذي يوازي "الزجل" الذي لا يهتم إلاَّ بتلبيس المعاني الصريحة ـ و دع عنك حظها من الرجاحة ـ في موازير الوزن و قواعد الروي و القافية. و لقد فقد كاتب القصيدة التي لا أستطيع وصفها إلاَّ بالركاكة، المفروضة من جانب النسق التعليمي الزائف على كافة تلاميذ مصر، حساسية الشاعر تماماً عندما عيَّن المسؤولين عن ذلك الفعل، بل و وجه إليهم خطابه: /أيها القائمون بالأمر فينا/
فإذا جئنا إلى "عبد الصبور" فإننا نفاجأ بمفردة "التنين" التي و إن كانت تشير إلى أسطورة جنوب-شرق أسيوية، بصفة رئيسية، رائعة، إلاَّ أنها أجنبية، و ليس على استدعاء أساطير الأجانب أي مأخذ من جانبي، شرط امتلاك المستدعي للقدرة على استيعابها و دمجها في نسقه هو الخاص، و لكن يبدو أن أجنبيتها هذه أعجزت "عبد الصبور" أي مستدعيها نفسه إلى بنية العقل و الوجدان المصريين، عن توظيفها في قصيدته. فـ "التنين" قد يكون مرعباً برؤوسه المتعددة و جرمه الضخم و لا بشريته...إلخ أما الحزن فقد يكون شديد الوطأة و قد يكون قاهراً و قد يكون فاتاً في العضد مشيعاً للعجز، و الوطةالااااو لكنه على وجه التحديد ليس مرعباً. و ما كان ينبغي أن يغيب عن شاعر في قامة "عبد الصبور" ذلك الفرق بين الرعب و الحزن. فالرعب ينبثق باستمرار رداً عل عنصر مفاجئ مجهول، أما الحزن فيترقرق بصفة شبه دائمة استجابة لعنصر معلوم غير مفاجئ، هو في حالتنا هذه: حادث "شنق زهران"، الذي كان قد مر عليه وقت طويل بالنسبة للمبدع المصري- المصري الذي لم يترك إمضاءه على عمله الفذ، و وقتٍ أطول بالنسبة لنا نحن الذين نضم الشاعر الحديث "عبد الصبور".
و يقف عجز هذا الشاعر المعاصر عن توظيف ما هو أجنبي في قصيدته بمثابة السر وراء استشعار المتأمل لفعل "مشى" في عبارة "مشى التنين" أمام هبوط تعبيري understatement واضح. على أن مفردة "التنين" ليست هي المفردة الوحيدة الأجنبية فـ "الأكواخ" كذلك. و القصيدة كلها، في الحقيقة، مكتوبة بلغة مجهولة تمام الجهل بالنسبة لوجدان أكرر وجدان المصريين.
على الجانب الآخر نجد في موال المصريين-المصريين "جدور" عميقة تربط "زهران" بطلنا بأرضه "دنشواي": أمه و أبوه و اخواته. و نقابل كلماتٍ بسيطة بلا تزويق و لا تلوين، بلا استعارات خلابة و لا تشبيهات تجمع متنافرات شديدة التباعد. و مع ذلك فهي لغة مفعمة بالشعر على نحوٍ معجز، إذ يتعذَّر ـ إن لم نقل يستحيل ـ علينا أن نترجمها إلى لغة بديلة أخرى دون أن تفقد نصف ما تحمل على الأقل، ليس من معاني و حسب، بل و من ارتباطات و إيحاءاتٍ و ظلال. و انظر معي ـ قارئي الكريم ـ على سبيل المثال، إلى حرفيْ "الحاء" المسبوقين بصائتين طويلين في كلمتيْ "بتنوح" و "السطوح"، و كم يشبهان سكينين حاميين يلقيان و الأولى ينزان في الفؤاد جروحاً طويلة الأثر و افتقاداً مبرِّحاً و لوعة شجية. و تطلَّع معي، إلى ذلك "الأب" الذي يشبهه الشاعر العبقري المجهول بـ "السبع"، بما لهذا "الحيوان الممجد على لسان المصريين-المصريين" من ارتباطات تدور حول "العزة و الأنفة و الرفعة" ـ و ليس الأسد الذي يُعد رمزاً قومياً عند العرب ـ و كيف وقف عاجزاً كل العجز عن أن يفعل شيئاً يحول دون ما تفرضه قوة قاهرة على فلذة كبده، سوى أن يتابع ما يدور. أليس يرجِّع هذا السطر الأصداء التي كان السطر الأول قد ألقاها في وجداننا حول "صعوبة" الموقف؟
و لكن ما هي تلك القوة القاهرة؟ يهمل الشاعر الأمي الساكن في أميته و نتيجة مباشرة لها أي بسبب "تلوثه" بأعظم حضارة، على وجه الترجيح، عرفها شمال شرق أفريقيا و جنوب أوروبا، أو الشرق الأوسط القديم، و بتعبيري الأثير "أفريقيا المتوسطية"L'Afrique Mediterranée ، كل ذكر لتلك القوة، سواء بشكلٍ صريح أو ضمني، و ذلك على النقيض من صاحب "القائمون بالأمر فينا"، فيرتفع شعره إلى ذرى تجاوز أعناق السماء، فلقد أدى ذلك الإهمال "الحسيس"sensible بتلك القوة أن تبدأ من المادي و تمضي إلى الميتافزيقي ذاته، أي أن "زهران" الإنسان يقف هنا ليس في مواجهة الإنجليز و حسب، بل القدر نفسه، تماماً كما وقف الإنسان في التراجيديات اليونانية القديمة. فلقد كان "زهران" إنساناً عادياً في ضمير الشاعر المصري-الأمي المجهول، كما كان بطلاً كذلك أي أكبر من البشر، و مثل هذا الإنسان الأكبر من البشر لا يرضى له شاعرنا المصري-المصري أن يوضع في مواجهة الإنجليز-البشر و حسب، و إلاَّ فإنه يكون عندئذِ قد اجترح بطولته و انتقص نبالته و خدش عظمته.
شعر شعبي أم شعر مصري:
قد يكون نقدي موفقاً و قد لا يكون، فلست ناقداً و لا أطمح أن أكون. لكن الحقيقة تظل قائمة، في ظني، أو على الأقل هذا ما يبدو لي: ليس لـ "المتعلمين المصريين" أي حق فيما يستشعرونه من استعلاء أمام شعر الأميين المصريين أي المصريين-المصريين، و هو استعلاء لا يكتفي بأن يجري على ألسنتهم بين الحين و الآخر دعوات من قبيل التطوير، بل و يجعل شريحة من كبار "المتعلمين المصريين" و أقصد هنا "الأكاديميين" من مدرسي "الأدب الشعبي" في مصر يطلقون على مثل هذا الشعر الخالص المصرية مصطلح "الأدب الشعبي"، و هو الأمر الذي يفترض ـ و هذا ما ينسونه أو يتناسوه ـ أن يكون الأدب الرسمى الأرقى شعراً مصرياً أيضاً. و هذا ليس صحيحاً. و إيضاحاً للأمر أسوق هذا المثال: الشعر الهندي الموازي لشعرنا هذا في ولاية "أوتار براديش" شعر شعبي. لماذا؟ لأن الشعر الرسمي في نفس الولاية ناطق أيضاً باللغة الهندية، و ليس بالإيرانية أو المغولية أو غيرهما من لغات أجنبية بالنسبة للهنود، بل و ليس ناطقاً حتى بالسنسيكرتية القديمة المقدسة التي كانت لغة قومية/رسمية في الهند في أزمنةٍ سابقة و لم تعد كذلك مع هنديتها غير المنكورة.
و معنى القول أن الفرق بين ما هو شعبي و ما هو رسمي في الهند هو فرق في المستوى الذي يستخدم عنده الشعراء الشعبيون نفس اللغة الهندية. و نفس الأمر ينطبق على كافة الدول-القومية Ētat-nations في كافة أنحاء العالم أي تلك التي تتخذ لغتها القومية/الأم لغة رسمية لها. أما في مصر فالأمر مختلف، و هو أشبه بالأمر في فنلندا إبان السيادة الثقافية للسويد، و هي السيادة التي أسفرت، ضمن ما أسفرت عنه ـ عن جعل اللغة السويدية لغة رسمية للفنلنديين، و هو ما يشبه إلى حدٍ ليس بالقليل، الوضع في بنجلاديش قبل الإستقلال في مطلع السبعينات، إبان السيادة الثقافية الباكستانية و في قلبها اللغة "الأوردية". فالشعر الفنلندي كان يُوصف ـ بالخطأ ـ بأنه شعر شعبي. و لكن ذلك لم يكن صحيحاً و ظل الأمر كذلك حتى نجح الفنلنديون تحت قيادة مثقفيهم بطبيعة الحال في تصعيد لغتهم "العامية" أي الفنلندية التي كانت تحمله إلى مستوى اللغة الرسمية للبلاد. و في هذا الإطار جمع الشعراء ذلك الشعر الذي ُوصف يوماً بأنه "شعبي" كي ينسجوه في ملحمة "كاليفالا" الرائعة كي يصبح شعراً رسمياً و غدت هذه الملحمة، هي الأخرى فنلندية رسمية. و على نفس النول أو المنوال ـ كيلا يغضب "المتعلمون المصريون" ـ سوف يظل من الخطأ وصف شعرنا المصري بأنه شعبي طالما ظلت اللغة الرسمية للبلاد لغة أخرى بخلاف "اللغة المصري الحديثة"(=اللمح) حسب تسميتي. و مرادي في هذه النقطة لا يعدو الدعوة إلى تدريس هذا الشعر الخالص المصرية لكافة تلاميذ مصر من المالح حتى الشلالات، عوضاً عن الإكتفاء بدرسه في مدرجات قسم يسمى قسم "الأدب الشعبي" في كلية الآداب بجامعة "القاهرة" و الأصح "الكاهرا"، إلى جانب أقسام اللغات الأجنبية كالأسباني و الياباني و الصيني الخ، و بعبارة أخرى: ينبغي أن يعمل التعليم المصري ـ لو كان له وجود ـ على تسييد روح مصر في واديها، بدلاً من حبسها بين أربعة جدران، و هو الحبس الذي يُساهم، دون جدال، في محو الشخصية القومية للمصريين المعاصرين.
ابن عروس مصرياً:
و نفس الأمر يسير على شعر "ابن عروس" الذي تقطع {لغته المصري الحديثة "اللمح"} بنسبته إلى الناطقين بهذه اللغة دون من بنوا له و الأدق لسمِّيه ضريحاً في بلادهم. و انصت معي ـ قارئي الكريم ـ إلى سطرين اثنين من شعر هذا الشاعر المصري الأصيل:
من قدم السبت يلقا الحد قدامه،
من خدم الناسِ صارو الناسِ خدامه!
مدح و ردح:
و قارن بين هذا الشعر الذي قد يرميه هذا الناقد أو ذاك بأنه: مباشر، و بين ما جاء في ديوان الشعر العربي الذي ينقسم أو يكاد إلى نصفين: المدح و الردح أو الهجو/الهجاء، لمن يشاء، مما تفرضه الثقافة المسيِّدة قسراً في أرض "إيزيس"خلال النسق التعليمي في مصر على تلاميذنا من قبيل:
وجهك يا عمرو فيه طول/ وفي وجوه الكلاب طولُ. أو: "قولا لـ "دبسٍ" شر من يطأ التراب و يلمس/إن كان أنفك هكذا فالفيل عندك أفطسُ، أو: "كأنك شمس و الملوك كواكب/إذا طلعت لم يبدُ منهن كوكبُ"، أو، "ما شئت لا ما شاءت الأقدار، فاحكم فأنت الواحد القهار"ُ، الخ و في نهاية المطاف الوقاحة و النفاق. فالثقافة في نهاية الأمر سلوك.
و لسوف أتجاوز هنا صمت أولئك "الأكاديميين المصريين" عن العدوان الذي يتعرض له الإنجاز المصري في مجال ما يُسمونه بـ "الشعر الشعبي" كلما اضطر خدم و حشم البلاط العسكري الحاكم، من بين "المتعلمين المصريين" إلى الإتكاء على هذه "التيمة" أو تلك من "تيمات" ذلك "الأدب الشعبي"(استبدال كلمة "رجلي" في موال: "إتدلع يا رشيدي على وش الماية/سيب رجلي و امسك إيدي على وش الماية" نموذجاً) و هو عدوان طال حتى نشيد "سيد درويش" الخالد الذكر بإقحام عبارة "وي ناصر يا بلادي" في آخر النشيد خلال مصر الناصرية. و لسوف أكتفي بوصف موقف أولئك "السادة الأفاضل" بالصمت بدلاً من الترحيب الذي، أرى فيه، كلما حدث، نتيجة مباشرة لتبني "الثقافة السامية" بوجهها العربي المتدني بمراحل واسعة من ثقافة قطاعات أخرى من الساميين و مراحل أوسع كثيرة من ثقافة المصريين-المصريين. و أرجو أن يتوفر عندي وقت للعودة إلى نفس هذا الموضوع في وقت لاحق و مكانٍ أرحب.
نموذج من شعر الحب:
و إليك سيدي مثالٌ آخر في شعر الحب من ديوان الشعر المصري-المصري، سوف أتركه دون تعليق:
عجبي على بنت دبِّلتني بدي أقابلها،
مكحَّلة العين لكين الكحـل سابلها،
مطرَّزة التوب من ديلها لقابلها،
و نهود البنت يا ناس شايلين التوب،
زغيَّرة في السن داخلة على بلاغ يادوب،
من شافها مرة يدوب يا ناس يا ناس جسمه دوب،
يا بخت مين احتضى في العمر مرة و قابلها،
ترد فيه الروح كنه "طيبة" و زايرها!
لغتان و ثقافتان:
غير أن كل ذلك يفترض التسليم بأن في مصر لغتين و ثقافتين و ليس لغة واحدة و ثقافة واحدة. و ليس هناك من يستطيع نفي موقف الأكاديميين الذين عادوا من عواصم غربية عديدة بشهاداتٍ في هذا التخصص بدءاً بـ د."ع.يونس" و هو الموقف الذي يقوم على الإستعلاء في الوقت الذي يقبل فيه هؤلاء الأكاديميون وصف الخبراء ـ و لا أقول العلماء ـ الأمريكان، بصفة عامة للغة التي تحمل مثل هذا الشعر خاصة و الأدب بصفة عامة، بأنها "عامية"، أي ركيكة. و ليس "لغة العموم"، كما يزعم بعض الأدعياء، و دليلي في هذه النقطة أن مقابلها هو "فُصحى" بأفعل التفضيل المشهورة. و هو قبول يوازي تسليمهم في وقتٍ سابق، لوصف الخبراء البريطان، بصفة عامة، لنفس هذه اللغة بأنها "لهجة"، و القبول و التسليم هنا تامين، حيث أن هؤلاء الأكاديميين لم يسلكوا يوماً إلاَّ بناء عليهما. و هذا واضح سافر في استخدامهم للغة الوافدة من غرب آسيا في أواسط القرن السابع من العصر المعروف(=م.ع.م.) ـ و دع عنك استخدامهم أحياناً للغات الأوروبية بمبررات أقوى ـ في كافة البحوث و الدراسات و الأوراق بل و الشروحات التي يدبجونها بشأن ذلك الأدب المصري الكامل المصرية، و إن لم يفز منهم بهذه الصفة، كما فاز بها الأدب الموازي الذي أنتجه الفنلنديون في بلادهم، بعد أن تحرروا من "فصحاهم" الأجنبية، على سبيل المثال.
لغتان تساويان ثقافتان، سواء في مصر أو أي بقعة أخرى من بقاع العالم. و بخصوص مصر نجد أن اللغة الأولى هي اللغة العربية "الفصحى" الوافدة و الرسمية و المضطهدة(بكسر الهاء) و اللغة الثانية هي اللغة القوميةMuttersprache التي يُعلمنا الفرع النفسي من اللغويات Pycholiguistics أنها اللغة التي "يكتسبها" الطفل خلال طفولته، أي قبل أن يُكمل الخامسة من عمره على وجه التقريب. و ذلك نظير كافة اللغات التي قد "يتعلمها" في أوقاتٍ لاحقة من عمره فكل هذه اللغات تُعد بالنسبة إليه لغاتٍ أجنبية. و في هذا الصدد يقول بعض الأقوام أننا لو كنا نتكلم "الفصحى" أمام أطفالنا لنطقوا هم أيضاً بها، و لكن مثل هذا القول هو قول وعظي، لا يعني العلماء في كثير و لا قليل. و لكنه يشي، مع ذلك، بدرجة مخيفة من اللامنطق، إذ يوهمنا أن بوسع "الكبار" أن يعمدوا إلى النطق بأي لغة خلاف لغتهم الأم أمام أطفالهم!
تصارع أم تعايش:
و اللغتان العربية-السامية و المصرية-الحامية تصطرعان، مثلما تصطرع الثقافتان اللتان تحملانها: الثقافة العربية-السامية و الثقافة المصرية-الأفريقية. و لا تتعايشان، مثلما يدعي قطاعٌ لا يستهان بحجمه من "المتعلمين المصريين"، و يطمئنون إلى إدعائهم. فكل ثقافة من هاتين الثقافتين تقدم وجهة نظر مستقلة عن الأخرى و مغايرة عن بنت عمها للعالم و الإنسان و المرأة و المجتمع و الوطن إلخ. و الثقافة العربية-السامية و في قلبها اللغة العربية تشن الهجوم في حين لا تملك الثقافة القومية المصرية و في قلبها {اللغة المصري الحديثة "اللمح"} سوى المقاومة أي أنها هبطت إلى مستوى الدفاع عن نفسها في أرضها التاريخية!
و لننصت إلى نماذج محدودة لضيق المساحة التي يتيحها هذا التقديم من الأمثال و الأولى من الحكم المصرية التي تنهض بمقاومة الثقافة العربية-السامية الوافدة من غرب آسيا:
العرب جرب
ظلم الغز و لا عدل العرب
الوضو ع الفلاحين و الضراط ع "الهوارة"(=قبيلة عربية وافدة)
كناس الدنيا زبال الأخرة
نوم الظالم عبادة
العمل عبادة
يشخ على كعبه و يقول دا قضا ربه
لولا يغفر جنته تُصفر
الطاعون جالكو السنة دي؟ قالو: جالنا مرتين الطاعون و العرب.
راكب سرجين وقَّاع و راجل مرتين كداب(سوداني)
ربنا عرفوه بالعقل.
و بطبيعة الحال ليست هذه هي الأمثال الأشد مقاومة للثقافة العربية-السامية. فالأمثال الأخرى، و كما لا يجهل كثيرون أفصح و أوضح و "أنقح". و لكنني أحمل، مثل يفعل سائرالكتاب في منطقتنا، عن اضطرار بطبيعة الحال، رقيبي داخلي. أضف إلى ذلك أن الأمثال ليست الشكل الوحيد الذي يحمل ثقافة المصريين-المصريين أي المصريين-الأميين، و كما سبق لي القول، بل و لا الشكل الأهم. فهناك المواويل و الواوات و المربعات و الحواديت و "القوافي" و العديد و "النميم" و النكت إلخ، و بعبارة أخرى منظومة متكاملة لـ "ثقافة قومية".
الأميون المصريون و فاشيتهم:
و أذكر في هذا الصدد أنني التقيت في سنة 1984 ، و خلال مؤتمر صحفيي دول عدم الانحيازالذي انعقد في "بيونج يانج"، عاصمة كوريا الشمالية، بعدد كبير من صحفيي القارتين الأفريقية و الأسيوية و ربما الأمريكية اللاتينية، إن لم تكن الذاكرة قد خانتني، لكنني لن أنسى انطباع أولئك الصحفيين عن النكت التي أنتجها المصريون-المصريون أي المصريون-الأميون، و وجهوها في سبيل مقاومة الدكتاتورية-العسكرية، و خصوصاً نكتة المواطن الصالح الذي توجه إلى صندوق الإقتراع للإدلاء بصوته في أحد الاستفتاءات التي تخيِّر المواطنين بين "نعم" و "لا"، و هي النكتة التي تجري على هذا النحو:
"واحد ابن بلد حب يروح يستفتي. الموظف ناوله البطاقة و هي ع الوش اللي مكتوب عليه: نعم.
صاحبنا ابن البلد قلب البطاقة ع الوش التاني قام لقا مكتوب عليه: نعمين!"
و الحقيقة أن رد فعل زملائنا من صحفيي القارات الثلاث الذين توجهوا إلى "بيونج-يانج" هو الذي أيقظني على أن تلك النكتة العابرة تمثِّل أبرع نقد، استطاع أي شعب من شعوب المعمورة في نطاق معلوماتي أن يوجهه ـ خلال هذا الأسلوب الساخر الذي يرصد الحقيقة عارية، و يُضيف إليها نزف الألم ـ إلى نموذج الاستفتاء الذي يلجأ إليه عسكريون-دكتاتوريون و أصوليون-دكتاتوريون في كثير من أرجاء العالم. و غني عن الذكر أن لغة النكتة حاسمة في نسبتها إلى المصريين-المصريين أي المصريين-الأميين حتى و لو رواها عنهم "متعلمون مصريون" في أوقاتٍ لاحقة.
وضع شاذ:
تقف الثقافة القومية المصرية، كما سبق لي القول، في وضع الدفاع في أرضها التاريخية في الشرق الأوسط الحديث، حسب التسمية السائدة حالياً لمنطقتنا، و بعبارة أخرى يقف "المصريون الأميون" في حالة مقاومة، وحدهم و دون متعلميهم. و هذا وضع شاذ بالغ الشذوذ لا يُعرف له نظير في العالم أجمع شرقيه و غربيه، شماليه و جنوبيه. و الأنكت أن "المتعلمين المصريين" لا يعوون مجرد الوعي بوجود ثقافتين في مصر فضلاً عن وجود صراعٍ بينهما.
و لكن لماذا أنتصر، على هذا النحو، للثقافة المصرية، و في قلبها بطبيعة الحال "اللمح"، حتى إذا سلَّم "المتعلمون المصريون" للحظة واحدة، بما أقول من صراعٍ حاد بينها و بين الثقافة الأخرى و في قلبها اللغة الأخرى؟
جوابي هو أنتصر لهما لسببين:
الأول: أنها الثقافة التي تنحدر إليَّ من جدودي المصريين القدماء، و لا أقول الفراعنة و حسب، أولئك الذين بنوا إحدى أعظم حضارات، إن لم أقل أعظم حضارة في العصرين الحجري الحديثNeolithique و البرونزي في الشرق الأوسط القديم و الأدق في شمال شرق أفريقيا و جنوب أوروبا، و بتعبيري الأثير "أفريقيا المتوسطية" و ذلك عن طريق التواتر، أي ثقافتي القومية، بمعنى الثقافة التي أتقنها تمام الإتقان، دون أدنى معاناة، و ذلك خلال "الاكتساب" و تلمس شغاف وجداني دون قفزٍ على أي حواجز، أي دون حاجةٍ مني إلى تعلُّم أبجدياتها في دور تعليم.
الثاني: أنها الثقافة الأرقى في المنطقة، بمعنى أنها أكثر إنسانية و أكثر تسامحاً و أكثر قبولاً للآخر و أكثر عقلانية و أوسع غنى بالأساطير و أفصح تعبيراً عن الثقافة العربية-السامية التي يريد الخبراء الأنجلو-أمريكيون و متدربوهم من أكاديميينا أن تسود و أن تسيطر و أن تمحو كل أثر لأي ثقافة أخرى أصلية قومية محليةautochtone في مصر كالنوبية و البجاوية و السيوية إلخ.
و معنى القول، بصريح العبارة أن خسارة الثقافة المصرية، و هذا هدف يسعى إليه أعداء تاريخيون للمنطقة في معظم الأوقات سراً و أحياناً علناً، هي خسارة للمصريين، و كذلك لكافة سكان المنطقة من جميع القوميات، بمن فيهم الساميون أنفسهم أي كلٍ من العرب و العبرانيين معاً.
إبادة ذاتية:
و إذا كان المصريون الذين كانوا، حتى يوم الأربعاء الأسود المشهور، قبل أكثر من نصف قرن، أرقي شعوب المنطقة، كما يُؤكد لنا أجانب غير مغرضين (الهنود نموذجاً) يبدون اليوم "أدنى" من العرب-الساميين أنفسهم، فذلك راجع بالتحديد، إلى أن من يُسمون أنفسهم أو يُسميهم الآخرون عرباً يبدون "تعساء" بثقافتهم العربية-السامية (خلع الخليجيات لـ "السدال" في إطار مقاومة "الأصولية الوهابية" نموذجاً). و قد نشرت جريدة "اليوم" التي تصدر في منطقة "الإحساء" الشرقية في أواسط السبعينات من القرن الماضي قصيدة تدعو المرأة هناك إلى خلعه بدأها الشاعر الذي كان يستشرف وقت ذاك الأفق الآتي بهذا السطر: لا تخافي مزقيه.) في حين أن "المصريين-الساميين" أي "المصريين-المتعلمين" يبدون "سعداء" بتبنيهم للثقافة العربية-السامية، مع أنها مفروضة عليهم من جانب "الخبراء" الأمريكيين بصفة خاصة و الغربيين بصفة عامة عبر نسقين يُمليهما على المنطقة هؤلاء "الخبراء" و هما التعليم و الإعلام(إعتزاز و افتخار و ابتهاج المرأة المصرية-العربية/السامية أي "المصريات-المتعلمات" بلبس الحجاب فالخمار فالنقاب فالسدال. هجوم تحالف العسكروت-الكهنوت الحاكم في مصر، تحت رعاية الولايات المتحدة على "الفراعنة و نصب "الموالد"و زيارة القبور، و التبرك بالأضرحة إلخ. نماذج)، و هو الأمر الذي يرقى في رأينا إلى اتخاذ قرارٍ بالإبادة-الذاتيةSelf-genocide و لا نبالغ إلاَّ قليلاً للغاية إذا وصَّفناها بـ "المحرقة-الذاتية"Self-holocaust .
ضرورة القومية:
لست أكشف سراً إذا قلت أن جزءاً من موقفي هذا من قوميني المصرية جاء على سبيل "الانعكاس" للقوميات العديدة التي اتصلت بأبنائها على نحو أو آخر.
زرت ألمانيا "الغربية" في سنة 1982 و كانت العاصمة الألمانية العريقة "برلين" كما نعرف جميعاً خاضعة وقت ذاك لاحتلال رباعي: الإتحاد السوفييتي(الراحل) و الولايات المتحدة و بريطانيا و فرنسا. و أمام متحف الآثار المصرية في مدينة "ميونخ" و قفت أتبادل الحديث مع الحارس العجوز. و كم كانت سعادته عندما بدأت حديثي معه باللغة الألمانية. و لكن هذه السعادة انقلبت إلى غضب قاتم عندما حوَّدت على اللغة الانجليزية كي أستخدم مصطلحاً في علم المصريات. أخذ خطوتين إلى الوراء كي يلقي عليَّ محاضرة باللغة الألمانية عن وطنه ألمانيا "المحتلة" بدأها هكذا:
ـ ألمانيا دولة عظمى و ينبغي على جميع زائريها أن يتقنوا اللغة الألمانية، لغة "جوته" و "شيللر" و "بريخت" و هاينى"...
و عقب المحاضرة التي سمَّعني (=أسمعني) إياها هذا الحارس الألماني المجيد أخذت أتأمل موقف المصريين المعاصرين من مصرييتهم و لغتهم "اللمح"، تلك التي لا يُدركون أصلاً أن لها وجوداً. و إذا أشار شخصٌ ما إليها، إندفعوا لمن لدغه دكر عقرب يافع، كي يرددوا أفكاراً بالية، شديدة الخطأ بالغة الضرر معاً. و فوق ذلك ليست أفكارهم الخاصة، بل الأفكار الذي فُرضت عليهم فرضاً خلال النسقين الزائفين في مصر: "التعليم" أو ما يبدو أنه كذلك و "الإعلام" المتوحش، الذي بلغت ساعات إرساله المسموع و المرئي خلال العهد الناصري، ما وضع مصر في مرتبة الدولة الثانية على نطاق العالم بعد الإتحاد السوفييتي(الراحل) الذي كان يضم 15 قومية/لغة مختلفة!
و الغريب في الأمر أنهم يرددون تلك الأفكار و كأنها أفكارهم هم التي أنتجوها و تشكل جزءاً لا يتجزَّأ من كرامتهم الشخصية التي ينبغي أن يدافعوا عنها حتى الموت و الاستشهاد، موت مخالفيهم و استشهادهم بطبيعة الحال.
و يومها تذكرت موقف أستاذنا "بيتر فولف" الذي كان يُدرِّس لنا اللغة الألمانية في أواخر الستينات في "أسوان" عندما مرت على لساني أثناء الدرس عبارة "ألمانيا الشرقية"، و كيف انفجر داخله بركان ثائر، بذل قصارى جهده كي يسيطر عليه بأسنانه المجزوزة و قبضتيه اللتين أخذتا ترتجفان على جانبي أذنيه، و كأن ثعبان كوبرا قد عضه، و هو يشرح:
ـ لا يوجد شيئ إسمه "ألمانيا الشرقية"، بل يُوجد شرق ألمانيا و هو "بولندا".
و ذات يوم و خلال زيارتي التي أشرت إليها قبل قليل لألمانيا، سألت عن الطريق لأحد الألمان باللغة الفرنسية في مدينة "هانوفر". فما كان منه إلا أن رد باللغة الفرنسية ذاتها:
Ah! Vous parlez le français que je ne l’aime pas de tout!
و اكتفى بذلك. و لم يرد على سؤالي، أي أنه أفهمني أنه يعرف الفرنسية، لغة الفرنسيين الذين يحتلون عاصمة بلاده العريقة "برلين" في إطار الإحتلال الرباعي لها. لكنه لن يستخدمها حتى في الرد على سؤالٍ من عابر طريق.
و قد يقول قائل أنهم الألمان الذي انبثقت بينهم "النازية". و لكنه الاعتزاز القومي، و هو الأمر الذي يُعد بمثابة الخبز الروحي الذي يقتات عليه كل البشر في كافة البلدان التي زرتها من كوريا شرقاً إلى "ويلز" غرباً. و إن كنت أنسى فلن أنسى موقف صديقي المستشرق السويدي "إنجفار ريدبيرج" الذي ذكرت أمامه خلال زيارته لمصر في شتاء 2001دولة "فنلندا"، فإذا به يصحح لي معلوماتي ـ بهدوء بالغ ـ بأن ما أشير إليه باسم دولة فنلندا ليس سوى مقاطعة "متمردة" من السويد.
و بطبيعة الحال لأستاذي الألماني و صديقي السويدي آراؤهما. و لكنني أود هنا أن أشير إلى إعتزازهما القومي. فلكل قومية أساطيرها، التي تتفق أو تختلف عن الواقع إلى هذا الحد أو ذاك، لكنها في الحالتين تشكِّل جزءاً لا يتجزَّأ من تاريخها الخاص، فيما عدا قومية واحدة، مع أنها أقدم قومية عرفها التاريخ.
دفاعاً عن اللغة الأم:
و نعرف أو ينبغي علينا، أن الضحايا الذين سقطوا خلال المظاهرات الضخمة التي نظَّمها البنغاليون يوم 21 أمشير/فبراير سنة 1952، فيما كان يُسمى وقت ذاك بـ "باكستان الشرقية"، دفاعاً عن حقهم في استخدام لغتهم البنغالية "العامية" كلغة رسمية للبلاد أي في "باكستان" التي كانت قائمة وقت ذاك، إلى جانب اللغة الرسمية "الفصحى": الأوردية، كانوا بمثابة المبشرين بفجر الاستقلال الذي تحقق لهم في سنة 1972، تحت اسم "بنجلاديش" أي بلاد البنغاليين. و على أي حال تلك هي الذكرى العطرة التي يحتفل بها أبناء "بنجلاديش" بصفة سنوية الآن أمام النصب الذي أقاموه تخليداً للضحايا العزاز، و فضلاً عن ذلك هو اليوم الذي ارتأت الأمم المتحدة أن تفرده للاحتفال العالمي باللغات القومية.
قل هي القومية:
و لقد شاهدت، مثلما شاهد كثيرون منا عبر شاشات التليفزيون صورة تلك السيدة الكورية الجنوبية العجوزة (=العجوز) تندفع نحو ضابط كوري جنوبي شاب يرتدي الزي الرسمي و مدجج بالسلاح خلال المظاهرات التي بلغ قوامها 200 ألف نفس، تلك التي حاصرت مبنى المحكمة التي مثل أمامها الجنرالان اللذان قادا انقلاباً عسكرياً وحشياً في "سول" في بداية تسعينات القرن العشرين: "بارك-تشونج-هي"Park Chung Hee ، و "تشون-دوو-هوان"Chun Doo Hwan ، و كيف رفعت ذراعها الأيمن(و ليس اليمنى) و صفعته على وجهه، ليس بأصابعها و ليس بيدها بل بكامل ذراعها. و كيف تجمَّدت اللحظة التالية مباشرة كي تشهد الضابط الكوري الشاب، و قد سقطت رأسه على صدره كي يتلقي الصفعة التالية، هذه المرة بظهر يد ذراع السيدة العجوزة نفسها. غير أن السؤال الذي لم يسأله أحد من "المتعلمين المصريين" من زملائي الذين كانوا يقفون بجواري يتطلَّعون إلى نفس المشهد بل و تعذَّر عليهم أن يستوعبوه عندما وجد من يسأله هو:
ـ لماذا جاء رد فعل هذا الضابط الكوري المفتول العضلات، المدجج بالسلاح و ربما المسنود أيضاً بالتعليمات على هذا النحو، مع أنه كان يستطيع لو سمح له ضميره الوطني، أن يصرع بحركة واحدة، تلك السيدة العجوزة التي صفعته؟
و بالتالي فإن مثل هذا الجواب لم يكن و لا يُمكن أن يكون جوابهم و لا تفسيرهم بحالٍ من الأحوال لما حدث:
ـ قل هي القومية الكورية العميقة، التي وضعت في ذراع هذه السيدة العجوزة كل ما تستطيع حمله من القوة التي يملكها الكوريون جميعاً، بما فيها قوة هذا الضابط نفسه، بصفته إبناً باراً لكوريا المقدسة، يستحق شخصه من كل الكوريين لموقفه هذا كل إكبار و كل إجلال، فلقد أدرك في لمح البصر أن هذه السيدة تضربه ليس لأنها تكرهه، بل لأنها تحبه، كما تعاقب أي أم كورية إبنها عندما تضبطه في موقفٍ لا يليق بأي كوري أن يضع نفسه فيه: أن يقف حارساً لعدو الكوريين، حتى و لو كان من أبناء جلدتهم، و بعبارة أخرى يحاول صد غضب الكوريين المتفجر ضد هذا العدو. فمثل هذا الضابط لم يتعرَّض يوماً، و لا يُمكن أن يكون قد تعرَّض حتى في أشد الكوابيس إزعاجاً لمن يوسوس في أذنيه بأن البوذي الياباني ـ مثلاً ـ أقرب إليه من الكوري المسيحي، مثلما يتعرض المصري في ظل الثقافة السائدة في الوطن الوحيد الذي لم يعُد، دون كل الأوطان، مقدَّساً، و ذلك بعد غروب شمس الفراعنة العظام. و لعلنا نعرف أو ينبغي علينا أن الإيطاليين يقولون عن وطنهم Italia Sacra و الفرنسيين France Sacrée و الأسبان España Sagrada و أعرف عن الروس أنهم يقولون عن بلادهم "تسفتايا راسيا " أي "روسيا المقدسة"...إلخ.
و في "روسيا المقدسة" هذه مثل كافة الأوطان فيما عدا وطن، لم يُوقف انحدار صخرة الانهيار التي اندفعت من قمة جبل غير منظور، تساعدها الرياح الغربية، عقب رحيل الإتحاد السوفييتي، سواها: القومية الروسية. و أختار عفو الخاطر موقف البرلمان الروسي أو "الدوما" من مشروع القانون المسمى بقانون "حرية الأديان" الذي رفعه إليه الرئيس السابق "بوريس يلتسين"، و هو القانون الذي كان ليسمح لو مر بحرية الكنيسة الأمريكية: كنيسة السينتولوجي Church of Scientology في التبشير في الأراضي الروسية. و هنا انتفضت الكنيسة الروسية القومية "الأرثوذوكسية" ضد المشروع، و إلى جانبها "الدوما"، الذي انتهى بعد جدل ساخن إلى رفضه، و حظر أي تبشير في "روسيا المقدسة" إلاَّ تحت إشراف الكنيسة الروسية. و على أي حال صادفت هذه الكنيسة الأمريكية المشبوهة نفس المصير بالتقريب في بلدان أوروبية أخرى بعضها حليف وثيق للولايات المتحدة بينها ألمانيا بل و بريطانيا ذاتها.
و لعلنا نذكر قائد قوات "الكومنتانج" الجنرال "تشانج-هسو-ليانج" أو "زهانج شيلوانج" كما كان يُعرف في الصين الأم، الذي اختطف "تشانج-كاي-شيك" رئيسه و رئيس الصين في سنة 1936 كي يُجبره على وقف الحرب التي يخوضها ضد الشيوعيين و الانضمام إليهم عوضاً عن محاربتهم في تصديهم للغزاة اليابانيين، مع أن "شويلياخ" لم يكن شيوعياً و لا متعاطفاً مع الشيوعيين بل يقود قوات حكومة الحزب الوطني الحاكم: "الكومنتانج" ضدهم.
مجتمع قبل- قومي:
وقعت عيناي خلال إقامتي في أواسط السبعينات في عاصمة خليجية للعمل على6 فرداً من البوليس الديني، و هم يُعطون سيدة شابة "طريحة" ساخنة بعد أن فرشوها على أسفلت الشارع، إذ وقفوا كل ثلاثة على جانب و نزلوا يرصون ضرباتهم بالعصي الخيرزان التي لا يقل طولها عن مترين، و يُمسك كلٌ منهم عصاه بيديه الإثنين كفلاح يعزق أرضاً. و كانت ضرباتهم تنزل ضربة في ريح ضربة، كي تمزِّق ثوبها فجلدها فلحمها، بدقة لا يملكها بعض من يُمسكون بالقلم، و رهافة لا نقابلها إلاَّ في الأعمال الفنية الراقية. و السؤال الذي طرأ على ذهني وقتها:
ـ لماذا جاء رد فعل الرجال من مواطني و الأولى من رعايا تلك البلاد على ذلك النحو: مضوا في طريقهم بعد أن شمَّروا أذيال جلابيبهم كيلا تعوصها الدماء التي نتجت عن العقاب الذي نزل في ساعته بسيدة ترتدي "السدال"، دون الإكتفاء بـ "الحجاب" أو "الخمار" أو "النقاب". و كل جريمتها أن "سنيحاً" من كعبها الذي تخضبه الحناء كان يظهر ـ و ياللهول ـ للأجانب، كلما مدَّت قدمها أثناء سيرها في الطريق العام!
و كان أن تساءلت في ذلك الوقت مرة أخرى:
ـ هل يستطيع هذا المشهد أن يتكرر حتى الآن ـ و رغم كل ما حدث في أرض "إيزيس"ـ في أي بقعة في مصر ضد أي سيدة مصرية أو غير مصرية مهما كانت جريمتها؟
و عودٌ على بدء رأيت في تلك البلاد، السواقين(=السائقين) و هم "بيدوسو بنزين" حتى يلحقوا قطة يتصادف عبورها للطريق كي يسووها بالأرض، و هم يتضاحكون و يتعابثون و يشاركهم الركاب من مواطنيهم صخبهم عند سماعهم و الأدق تخيُّلهم سماع صوت إنفجار جسم القطة تحت عجلات السيارة. و عندما أعلنت استيائي ذات مرة متسائلاً:
ـ دا موش حرام؟
رد أحدهم رداً ساحقاً ماحقاً لا يستطيع أي "متعلم مصري" عادي أن يرى له أي دفع:
ـ ما في نص!
و تطلَّعوا نحوي جميعاً كمن يتحدث الهيروغليفية. و حقيقة الأمر أنني كنت أفعل ذلك بمعنى من المعاني، و إلاّ فما هو التفسير الذي يهدينا إلى السبب الذي يجعل السوَّاقين المصريين يحرصون كل الحرص، و على النقيض من أولئك "البُعدا" على ألاَّ يدوسوا القطط في طريقهم. و قد يغامرون بإحداث إنقلابٍ لسيارتهم عندما يفرملون فجأة عوضاً عن إلحاق كل ذلك الألم بحيوان بريء أليف يعبر الطريق أمام سياراتهم.
تراني هل أبالغ إذا قلت أن السر وراء سلوك المصريين-المصريين أي المصريين الأميين أو الورثة الحقيقيين للمصريين القدماء على هذا النحو هو أنهم قدسوا يوماً ما "المرأة" و كذلك "القطة"، باعتبارهما تجسيداً رمزياً لإلاهتهم العظمى "إيزيس" و كذلك الإلاهة "باست"؟ و أن هذا التقديس، و لو أنه انتهى عقلياً في مصر، إلاَّ أنه لا يزال يُفعم وجدان هؤلاء المصريين-المصريين أو المصريين الذين طالتهم و قل "عاصتهم" ـ كي يبتهج "المتعلمون المصريون" ـ و لا تزال "تعوصهم" ثقافة/حضارة الفراعنة، و تتناسب زيادة و نقصان هذا التقديس عند المصريين المعاصرين مع مدى تغلغل ثقافة غرب آسيا في أعماقهم. و هذا القول الذي أُرسله الآن يقوم على أن الثقافة، مرة أخرى، سلوك في نهاية المطاف.
دون أبطالٍ قوميين:
و رصدت أن الأمة المصرية تقف، و الحال هكذا، دون أبطال قوميين، سواء على مستوى التاريخ أو الأساطير. و بطبيعة الحال لست أجهل وجود فرعون مصر بطل و شهيد حرب التحرير من "الهكسوس" أو "الحكام الأجانب": "سقن-ن-رع" في العصور القديمة و لا بطل "بشمور" بشمال الدلتا: "مينا ابن بقيرة" في العصور الوسيطة الذي قاد ثورة طويلة الأمد ضد الاحتلال العربي لمصر، و لا "أدهم الشرقاوي" بطل المقاومة ضد الإنجليز. و لكن هؤلاء و أمثالهم، ممن لا يتسع المجال لذكرهم جميعاً، لا يُشكِّلون بصورتهم الراهنة عند "المتعلمين المصريين" أكثر من مشاريع موؤودة لأبطال قوميين من وزن "جان دارك" الفرنسية، بطل تحرير فرنسا من الإحتلال الإنجليزي و "أنا" النرويجية بطل إلحاق الهزيمة بالغزاة السويديين، تلك التي توصف بـ "السيدة المسترجلة" و بقليل من التجاوز "السيدة-الرجل" La Femme virile de Norderhov و "جويوم دي أورانج" الأيرلندي بطل المقاومة الباسلة ضد الإنجليز أو "إسكندربيه" بطل المقاومة البطولية للألبان ضد الأتراك أو "الجريرو ديل أنتيفاس"El guerro del Antifaz بطل سلسلة قصص الأطفال الأسبان الذي قاوم الإحتلال العربي لشبه جزيرة أيبريا أو حتى "موسى" عند بني إسرائيل، و هو بطل قومي-ديني، كما هو جلي للعيان، أو "يوسف" البطل القومي-العلماني المعاصر الذي يحج الإسرائيليون إلى ضريحه في "تل هاي" اليوم. و واضح أو أرجو أن يكون واضحاً أنني لا أقارن بين أبطالنا و بين أبطالهم، بل بين إهمالنا لأبطالنا و احتفالهم بأبطالهم. و لقد طرحت في أكثر من منتدى ثقافي في مصر على "متعلمين مصريين" كبار هذا السؤال:
ـ مين هو "سقن-ن-رع"؟
فلم يكن هناك من يرد، و عوضاً عن ذلك كانوا يستطلعون رأي أصدقائهم في السماء الزرقاء!
و لست بغافلٍ عن النقد الذي يوجهه عديدون لمفهوم "البطولة" ذاته: "لا تُعد البطولة بالنموذج الأمثل لتأكيد القيم الثقافية لأي جماعة من الجماعات. و إذا احتاج شعب ما إلى "بطلٍ قومي" من هذا النوع فإن معنى ذلك أن هذا الشعب يجد نفسه في وضعٍ حرج، دون أن يمتلك على المستوى الجمعي بأكمله، القوة الروحية التي تمكنه من تجاوز وضعه ذاك". و "تُعد البطولة بمثابة عدوانٍ سافر على القيم الديمقراطية" و قول "هيجل" في هذا الصدد: "سحقاً لشعبٍ يحتاج إلى بطل". غير أن كل هذا النقد الذي لا أنكر وجاهته، لا يفرض من وجهة نظري سوى إعادة تعريف مفهوم "البطولة" فضلاً عن شروطها.
و إلى جانب افتقار المصريين المعاصرين إلى أبطال قوميين و الأدق افتقارهم إلى الاحتفال بأبطالهم القوميين، تراهم يفتقرون كذلك إلى ملاحم قومية مثل "الفردوس المفقود" عند الانجليز و "الشاهنامة" عند الإيرانيين و "مدار الدنيا"Heimskringla عند أبناء "النرويج".
و على نحو ما يفتقر المصريون المعاصرون تحت قيادة "متعلميهم" إلى أبطالٍ قوميين فإنهم يفتقرون بالمثل إلى رموز قومية عديدة . فالمصريون المعاصرون لا يعرفون لهم طائراً قومياً و لا زهرة قومية و لا حيواناً قومياً، ولا رقصة قومية/جماعية(كالدبكة الشامية) و لا مشروباً قومياً (كالساكي عند اليابانيين)، و هو الأمر الذي تعرفه لنفسها سائر القوميات، في شتى ربوع المعمورة، مع أنها أحدث كثيراً من القومية المصرية، أي أنهم يفتقرون، على النقيض من تلك القوميات إلى تلك الخيوط غير المنظورة التي تشد وحدتهم الداخلية. و لعل ذلك هو السبب الأعمق في إنتاج مصر المعاصرة لأكبر عدد من "أفضل" الأصوليين الإسلاميين، أي الأعلى قدرة على نفي ذواتهم القومية، و ليس هناك، في نطاق علمي من يستطيع بين أشد المتشددين من الأصوليين الإسلاميين في مشارق الأرض و مغاربها أن يفوه بمثل ما صدر عن السيد "م.عاكف" المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر أي أن "يُطزز" في وطنه "مصر" وفي شعبه "المصريين"، مثلما حدث في الربع الثاني من سنة 2006. و على هذا النحو نجد أن مصر أصبحت تنتج "أحسن" المتخلفين أي أشدهم تخلفاً (أصوليين، عملاء، ضباط تعذيب، منافقين إلخ) و الوجه الآخر لذلك هو إنتاجها لأسوأ "التقدميين" أي أقلهم تقدماً، من كافة الأطياف(ماركسيين، علمانيين، دعاة حقوق إنسانية و حقوق نسوية إلخ) و المعروف تاريخياً أن انحسار المد القومي يُؤدي إلى رجحان كفة المتخلفين على كفة المتقدمين، و العكس أيضاً صحيح.
مرجعية ثقافية مختلفة:
و ليس تحت يدي تفسير أعمق يقف وراء رقي الأجيال الأقدم من "الأزهريين" بصفة عامة، وهو الرقي الذي يتبدى في درجة نسبية من العقلانية و الإنسانية و الرحمة و التيسير على البشر سوى وجود مرجعية ثقافية أخرى، خلاف المرجعية الثقافية العربية-السامية، انحدرت إليهم من "أميتهم" أي ثقافتهم القومية المصرية التي وصلت إليهم خلال التواتر(د.ع.بيومي نموذجاً). و لعلنا نلاحظ مدى تخلُّف الأجيال الأحدث من خريجي الأزهر، الذين يُقصرون مرجعيتهم على الثقافة العربية-السامية، و هو التخلف الذي ينعكس تزمتاً و تشدداً و تعصباً، و في عبارة واحدة عداءاً (=عداءً) أكثر حدة تجاه الثقافة القومية للمصريين-المصريين، أحفاد الفراعنة العظام الذين "سجد العالم المأهول في العصور القديمة، و بالتحديد خلال الأسرة الثامنة عشرة من المملكة الحديثة عند أقدامهم"، حسب عالم المصريات الكبير "دونالد ريدفورد".
لـ "نيبال" زهرة قومية:
و لقد أسعدني و أتعسني في وقت واحد أن أعرف من أحد الأصدقاء الأمريكيين، في الآونة الأخيرة و بالتحديد في شتاء 2002 أن "النيباليين" التي تقع بلادهم بين عملاقين ضخمين هما الصين و الهند يعرفون لهم طائراً قومياً هو "الطاووس" و زهرة قومية هي الـ "رودوديندرون"Rhododendron . و ترجع سعادتي إلى أنني كنت أسير في الطريق الصحيح عندما نقَّبت في محاضرتي أمام جمعية "تحوتي" للدراسات المصرية بقصر الثقافة بالإسكندرية يوم 29أبيب/يوليو سنة 1999التي حملت عنوان "الجمل رمز قومي للمصريين المعاصرين" وانتهيت فيها، و كانت بـ "اللمح" إلى أن الجمل هو ذلك الحيوان القومي بالنسبة لنا، نظير "الأسد" عند العرب. أما حزني فأعتقد أن أسبابه صارت واضحة الآن بما لا يحتاج إلى التكرار.
مين هو الأمي و مين هو المتعلم؟
و في هذا المجال أذكر أن د."ف. العرارجي" رئيس تلك الجمعية سألتني خلال المحاضرة أي منذ أكثر 18 سنة:
ـ مين هم الأميين و مين هم المتعلمين؟
و لست أذكر بالتحديد نص ردي على سيادتها. و لكنه لم يخرج في ظني عن:
ـ الفرق بين الأميين و المتعلمين موش بس بين ناس ما اتعلموش القراية و الكتابة و ناس اتعلموهم هم الاتنين: القراية و الكتابة في دور تعليم. فداخل كل "متعلم مصري" مننا أمي، اللي هو اللاوعي بتاعه، اللي للساه مصري و داخل كل أمي متعلم اللي هو عقله اللي اتلقنه خلال الإعلام و مواعظ و خطب المعابد، الموسوية المسيحية و المحمدية. و بالتالي فكل نقد من ناحيتي لـ "المتعلمين المصريين" هو في حقيقته نقد لنوع "التعليم" اللي استراتيجيات أجنبية مغرضة بتفرضه فرض في مصر. و إذا كانت الإستراتيجيات دي قدرت تخسِّرنا "عقلنا" فهي للساع بتحاول تخسرنا "وجداننا" و أعظم حاجة في الوجدان دا هو "اللغة المصري الحديثة"(=اللمح). فدي اللي تقدر توصَّلنا من يمة بماضينا الروعة، بكل تأكيد و من يمة تانية بمستقبلنا الأروع، بالتمني، في ضي: حضارة إنسانية واحدة و ثقافات متعددة. و في طوعنا أن نصوغ الأمر على النحو التالي:
إذا كان "الأمي" أعرج، أي فاقد لرجلٍ واحدة، فإن "التعليم" في مصر ُيحوِّله إلى "كسيح" أي يُفقده الرجل الأخرى.
أسئلة بسيطة:
و بالتالي استنتجت أنه لكل ذلك لم يسأل أي "متعلم مصري" سؤالاً بسيطاً من هذا النوع:
ـ لماذا لم يُطالب المصريون المعاصرون بعودة رفات العبدة المصرية ـ و دع عنك أقوال الكتبة الكذبة ـ "ماريا القبطية" من "البقيع" في "أثريب"(=المدينة المنورة) كي نعيد دفنها في جنازة مهيبة بعد أن يُصلي وراء جثمانها الطاهر حشد من المصريين المؤمنين، و ليس رجلاً واحداً، مثل الخليفة الثاني "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه، كما حدث في دفنها الأول، فيما نعرف من "ابن عبد الحكم" ص 45أي أن نعيد تسليم رفاتها لتراب وطنها، بجلال و إجلال لم تحظى(=تحظ) بهما هدية حاكم مصر البيزنطي-المسيحي التي بعث بها إلى شبه جزيرة العرب. و يكون دفنها تحت قبة ضريح، أسوة بباقي أمهات المؤمنين ـ طالما كانت زوجة للرسول حسب الكتبة السابق وصفهم ـ في قريتها التي لا تزال تحمل إسمها العريق على لسان المصريين-المصريين أي المصريين-الأميين: "حفن" على الضفة الشرقية لنيل "ملوي" بمحافظة "المنيا"، فيما يُسميها أنصاف المصريين أو المصريين-الساميين أي "المتعلمين المصريين" بـ "الشيخ عبادة"، سيراً على نهج الساميين عرباً و عبرانيين في نسبة المكان إلى الشخص لا العكس؟
ـ كيف نُطلق إسم الخليفة العباسي "المأمون" ـ غفر الله له ـ الذي قدم إلى مصر على رأس جيش قوامه مائة ألف عسكري خلال القرن العاشر من عصرنا المعروف(م.ع.م.) فيما نعرف من شيخ المؤرخين العرب "المقريزي" كي يُنزل بأمر الله قدر الإبادة البشرية على "البشارمة"(=البشموريين) سكان شمال الدلتا بعدما فشل قواده، و خاصة التركي "الأفشين"، الذين أرسلهم سيادته لإنفاذ هذا الأمر ذاته، على شارعٍ يمتد من ميدان "العباسية" كي يصب في ميدان "روكسي" بقلب "مصر الجديدة"؟ و إلى متى نظل نجهل اسم و سيرة "مينا ابن بقيرة" أحد أعظم أبطال المقاومة المصرية ضد الإحتلال العربي لمصر، كي نردد خراريف "التعليم" الزائف في مصر حول ترحيب المصريين، دون سائر البشر، بجميع غزاتهم و محتليهم و مستوطني بلادهم و خصوصاً العرب منهم؟
ـ كيف نتجاهل المصير الذي آلت إليه "طبقة الصنَّاع" الذين رحَّلهم الغازي الأسيوي "سليم" الأول في إطارٍ يوازي اليوم نزع سلاح الدول التي تحيق بها الهزيمة، و هل ذابوا فيما حولهم من سكان دون أن يتركوا وراءهم أثر، أم قتلهم آسروهم بعدما أنجزوا المهام الموكولة إليهم، فيما تقول إحدى الروايات؟ و إذا صحت هذه الرواية، فهل تستطيع، بحد ذاتها إسدال ستار نهائي على القضية، أم يتعيَّن علينا تحويل الإعتمادات التي نكاد أن ننفرد بين كافة الأمم برصدها، للاحتفالات المخزية بذكرى غزو الأجانب لبلادنا، سواء قدموا من غرب أسيا أو جنوب أوروبا، إلى بند إعادة رفات أبناء هذه الطبقة، فرداً فرداً، و دون استثناء، إلى مسقط رأسهم، كما تفعل إسرائيل مع رفات قتلاها، بمن فيهم من حوكموا و أعدموا في بلادٍ أجنبية بتهمة التجسس؟
ـ لماذا لم يخطر على بال أي "متعلم مصري" أن يُطالب أياً من المستعمرين الذين "نهبوا" مصر و "أذلوا" شعبها بالاعتذار، مثلما استمر المتعلمون الهنود ـ دون تحفظ ـ يُطالبون بريطانيا و يلحون في طلبهم، حتى حصلوا على مثل ذلك الاعتذار لبلادهم من الملكة "إليزابث" الثانية ملكة بريطانيا خلال العقد الأخير من القرن العشرين؟ أم أن "المتعلمين المصريين" ينتظرون رحيل أحدث استعمار حتى يُطالبوا كل مستعمري مصر دفعة واحدة بدل المطالبة القطاعي؟ أم أنهم يرون أن هذا عمل تافه، طالما لا ينبع من الغريزة و لا يصب فيها، لا يُفكر فيه سوى هنودٍ لا يملكون سوى سادس أكبر إقتصادٍ على نطاق العالم، و لا يستوردون من العالم الخارجي حبة قمح واحدة ـ و بطبيعة الحال و لا حبة رز واحدة ـ لإطعام أكثر من مليار نفس، هم سكان شبه القارة الهندية بل يُصدرون فائضهم من القمح الذي أصبح سلعة استراتيجية إلى الخارج، و يرفضون بشموخ قومي لا تُخطئه عين و لا تصم نفسها عنه أذن، أي مساعدات خارجية يُلوِّح بها الأجانب وقتما تواجه الهند أي كارثة من الكوارث مثل كارثة "بهوبال" المشهورة؟
ـ لماذا لم يتبنى (=يتبن) الأزهر الذي يعيش بصفة أساسية، على عرق المصريين المنتجين، أي دافعي مختلف أشكال و أنواع و ألوان الضرائب التي لا يدخَّر جهداً في اختراعها بصفة تكاد أن تكون يومية، وزراء البلاط العسكري الحاكم ـ و دع عنك المائتي مليون دولار التي تخصصها الولايات المتحدة سنوياً، مما يسميه الإعلام الغربي و وراءه الإعلام الزائف في بلادنا بـ "معونة أمريكية" لمصر ـ الصيغة و الأدق القراءة الشافعية للديانة المحمدية، مثلما تتبنى مدرسة "قم" الصيغة (=القراءة) الشيعية و الأدق الإثنى عشرية لنفس الديانة؟ و هل يكفي أن نترك نحن المصريين المعاصرين، أمر التراث الشافعي الذي ينطوي على صيغة مصرية تقوم أكثر على حس العدالة و التسامح و التواؤم مع مقتضيات الحال في أيدي "أكاديميين" ناقصي الكفاءة مهزوزي الهوية من أمثال "ح.ن. أبو زيد"، ممن يتصدون للكتابة عن "قاضي الشريعة" في الوقت الذي لا يُلمون فيه بالمعلومات الأولية عنه من ناحية و خصومهم الشخصيين (ع.شاهين نموذجاً)من ناحية أخرى؟ و في نفس الوقت نترك "أزهرنا" أي الذي يعيش على عرقنا، نحن المصريين المعاصريين، ينحدر إلى النطق بلسان الوهابية الصحرواية الغازية؟
ـ لماذا لم تحتج مصر، فور إبرام معاهدة السلام مع إسرائيل عند حكومة "تل أبيب" لسماحها بتدريس نصوص "التوراة"، بصرف النظر عن تقديس أتباع الديانتين الموسوية و المسيحية لها أو قول أتباع الديانة الثالثة: المحمدية بأنها "محرفة" ـ و هذا هو الأنكى ـ قصد الانتقاص من أقدار أنبياء بني إسرائيل، في معاهد تتلقى دعماً مالياً حكومياً، مع أن هذه النصوص تقول، و قولها لا يأتيه الباطل بطبيعة الحال، عند المؤمنين منهم أن إلاههم "يهوه" أعطى مصر إرثاً لهم، أي أنها تتنافى مع الحدود الدولية المنصوص عليها في المعاهدة التي أرست السلام بين البلدين؟ و مثل هذا الاحتجاج لا يزيد، و إن قل بكل تأكيد، عن احتجاج الكوريين و الصينيين، على سبيل المثال، على الكتب المدرسية أي الأدنى درجة أو درجتين عن المقدسة، في اليابان إذا غفلت عن ذكر الفظائع التي ارتكبتها العسكرية اليابانية في جنوب شرق آسيا خلال الحرب العالمية الثانية؟
ـ لماذا لم يخطر على دماغ أي "متعلم مصري" بدءاً من حملة شهادة محو الأمية حتى شهادةDSC أن يتساءل عن السبب/الأسباب التي أدت بكافة الديانات و الفلسفات و الاختراعات و التكنولوجيات التي دخلت مصر إلى إلحاق ضرر/أضرارٍ فادحة بها، فيما أفادت هي نفسها، كافة الدول/القومية التي وصلت إليها. و لنا أن نقارن بيننا و بين تركيا، على سبيل المثال، دون الحصر. فبينما صارت تركيا إمبروطورية و أقصد بطبيعة الحال ما يُعرف تاريخياً بالإمبراطورية البيزنظية أو الرومانية الشرقية في ظل الديانة المسيحية، تدفع لها الجزية كل الأقطار الداخلة في نطاقها، بما فيها مصر، ثم أصبحت مرة أخرى إمبراطورية هي المعروفة باسم "العثمانية" عقب دخولها رحاب الديانة المحمدية ترفع إليها نفس الأقطار، على وجه التقريب، الجزية و بالتالي استمر الأتراك أسياداً داخل بلادهم و خارجها في ظل الديانتين، فإننا نتلفت إلى أصحاب أعظم و أقدم دولة/قومية عرفها العالم القديم و أطولها استمراراً وأغناها ترفيداً لمجرى الحضارة الإنسانية، كي لا نجد في مآقينا دموعاً تكفي لرثاء الذي ظلوا عبيداً يؤدون الجزية للأجانب في ظل الديانتين، بدءاً من الرومان في عاصمتهم الإمبراطورية "روما،" مروراً بالبدو الرحل بعد صفعهم لقفاهم، بل و أدنى مستوى من بعض العبيد، منذ فقدانهم لدولتهم القومية تحت ظل الفراعنة العظام، رغم كل شئ. و ينطبق نفس الأمر على الفلسفات(الماركسية نموذجاً) و الاختراعات (الكهرباء نموذجاً) و التكنولوجيات(الفضائيات نموذجاً)
ـ لماذا عجز "المتعلمون المصريون" عن توجيه نقد موضوعي، يبدأ برصد المعطيات و تمحيص المعلومات و رؤية الأبعاد المحددة للحضارة المصرية القديمة، نقد موضوعي كان ليستطيع أن يكشف عن السبب/الأسباب التي أدت إلى هزيمة المصريين هزيمة مضلَّعة أي على كافة المستويات أمام الأقل منهم حضارة، و إن كانوا أعلى منهم تسليحاً و دربة و اعتزازاً بدياناتهم و عاداتهم و رموزهم و جدودهم و في كلمة واحدة بأنفسهم، و هو الأمر لم يحدث لليونانيين الأحرارعلى سبيل المثال أمام حجافل العبيد من الفرس؟ و لماذا اكتفى"المتعلمون المصريون" بكافة أطيافهم، إذا كان المقام مقام نقد لماضيهم، برجم جدودهم المصريين القدماء، ممثلين في رمزهم الفرعون، بخراريف و أكاذيب و ادعاءات "بني اسرائيل"؟ و بعبارة أخرى لماذا ينتصر "المتعلمون المصريون" بصفة تكاد أن تكون دائمة لأعدائهم التاريخيين ضد أنفسهم؟ و إلى متى سيستمر تغلغل الدونية القومية في أعماق هؤلاء "المتعلمين المصريين" أمام القسم الأشد تخلُّفاً من الساميين أنفسهم، و كل ما ينتمي إليهم بدءاً من لغتهم؟ و مثل هذا النقد هو وحده الكفيل بتجاوز تلك الهزيمة المضلعة التي لا تزال آخذة في التغلغل في عقولنا و وجداننا.
وبطبيعة الحال تستطيع مثل هذه الأسئلة أن تنتج أسئلة أخرى تمتد إلى ما لا نهاية، إذ أنها تتأسس على سؤال محوري: هل يحق لنا نحن المصريين المعاصرين أن يكون لنا رأيٌ، في السياسات التي تتبناها مؤسستا العسكروت و الكهنوت، في بلادنا، أي الأكاديميات العسكرية، بكافة أشكالها، و كذلك معاهد و جامعات الأزهر (و سائر المؤسسات الدينية الأخرى) بكافة درجاتها، بما في ذلك المناهج التعليمية التي تدرِّسها لتلاميذها و طلابها؟
جوابي:
ـ بل يجب أن يكون رأينا هو الرأي الأخير، الذي لا مُعقِّب عليه، طالما كنا نموِّل، من عرقنا، نحن دافعي الضرائب، كافة أنشطة هاتين المؤسستين اللتين يتعيَّن أن نراقب باستمرار أداءهما في خدمة المصالح القومية لمصر.
و عدت أستنتج و أسوق استناجي على هيئة تساؤلات:
هل المصريون عرب؟
و قلت رداً على هذا التساؤل أن الثقافة السائدة في مصر، و بالتحديد تلك التي سعى الاستعمار القديم بقيادة بريطانيا إلى تسييدها في مصر و المنطقة التي تمتد من الخليج إلى المحيط، و سمَّاها (=أسماها) "العالم العربي" تتناقض مع الحقائق اللغوية و الأنثروبولوجية و الجيو-سياسية و التاريخية و التفاوت الملحوظ بين درجة التطور الاقتصادي-الاجتماعي في كل بلدٍ من بلدان المنطقة، و بعبارة أخرى مع مجمل الحقائق النابعة من وجود ثقافاتٍ محلية مضطهدة(بفتح الهاء)، بينها إن لم نقل على رأسها ثقافة المصريين. و معنى القول أن الطابع الرئيسي للثقافة السائدة في مصر و ربما المنطقة بأسرها هو طابعٌ أجنبي، و ليس طابعاً طبقياً، كما يذهب الدعاة الماركسيون، أي أن الصراع الرئيسي في المنطقة قومي. و يكفي في هذا المجال أن نعيد إلى الأذهان ما كتبه المؤرخ "محمد بن أحمد ابن إياس" في بدائع الزهور في وقائع الدهور" ج 5 ص 207 عن الخليفة العثماني السلطان سليم سنة 1517 م.ع.م:
"خرج بن عثمان من مصر و صحبته ألف جمل محملة ما بين ذهبٍ و فضة، هذا خارجاً عما غنمه من التحف و السلاح و الصيني و النحاس المكفَّت و الخيول و البغال و الحمير و غير ذلك حتى نقل منها الرخام الفاخر و أخذ منها من كل شيئٍ أحسنه، ما فرح به آباؤه و لا أجداده من قبله أبداً و كذلك ما غنمه وزراؤه من الأموال الجزيلة و كذلك عسكره، فإنه غنم من النهب ما لا يُحصى ... "
و بطبيعة الحال هذا لا ينفي وجود طابعٍ طبقي لهذه الثقافة، و لكن الخلاف هنا هو حول ما إذا كان ذلك الطابع الطبقي ثانوي أم رئيسي.
و قدَّرت أن العرب هم أشقاء العبرانيين على المستوى المعرفي و الثقافي و اللغوي و الديني فهؤلاء و أولئك ساميون، و هم يُشكلون الجزء الأكبر من سكان آسيا الغربية.
أما لماذا قرر الاستعمار القديم أن يمشي بخط حدود الثقافات القومية بشكلٍ يتناقض مع مجمل الحقائق الأساسية في المنطقة كي يضع المصريين مع العرب أي مع غزاتهم و محتليهم و مستوطني بلادهم الذين فرضوا عليهم الجزية و الخراج و كافة ألوان التسخير و العبودية و الإذلال، و لا يزالون يفرضون عليهم، إذا سافروا إلى بلادهم للعمل و الإنتاج ما يُسمى بنظام "الكفالة"، و هو نظام يُعد، في جوهره، استمراراً للعبودية القديمة في ظروف جديدة، فهذا ما لم يكشف عنه الاستعمار القديم، و بالتالي تركه لقدراتنا على الاستنتاج تماماً مثلما ضن بالكشف عن هدفه من وراء سائر الحدود التي خلَّفها وراءه. و لكننا نستطيع أن نرى أن هذه الحدود التي رسمها لا تزال تلقى بثمار يانعة، ليس في حجر بريطانيا بصفة خاصة، بل و في حجر الغرب بصفة عامة.
بريطانيا و تعريب مصر:
نستطيع، بقدرٍ بسيطٍ من سعة الخيال أن نقول أن ذلك يسير على أيضاً على خطة الاستعمار القديم في تعريب مصر، أي نزع "أرض إيزيس" (=كيميت) من شمال شرق أفريقيا و جنوب أوروبا و في عبارة أخرى: "أفريقيا المتوسطية" و ضمها إلى غرب آسيا، و بالتحديد حشرها في قلب شبه جزيرة العرب/العصو-وسيطية، و هذا ما يُعد في نظري الغزو العربي الثاني و الأخير لمصر. و هو السر في سعي الاستعمار القديم الدؤوب في سبيل هذا الهدف الاستراتيجي الذي يرى "المتعلمون المصريون" خيراً سابغاً في نفيه أحياناً أو تبنيه في غالب الأحيان كهدفٍ منشودٍ لهم، هم أيضاً. و هو الأمر الذي أعجز عن مشاركتهم في رؤيته أو حتى فهمه.
و في هذا الصدد يجدر بنا أن نُعيد إلى الأذهان ما ذكره المؤرخ "عبد الرحمن الرافعي" في كتابه "مصر بين ثورة 1919 و ثورة 1952" سلسلة دراسات قومية العدد 7 مطابع الشروق ص 53عند الإشارة إلى توقيع بروتوكول تأسيس جامعة الدول العربية يوم 7بابة/أكتوبر 1944 بمدينة الاسكندرية:
"و كان إنشاء هذه الجامعة(...) بإيعازٍ من بريطانيا"
و هنا يحق لنا ـ أليس كذلك ـ أن نسأل هذا السؤال:
إلى أي حد ذهب استبسال الاستعمار البريطاني في سبيل نشر الدعوة إلى القومية العربية في مصر؟ و هل دفع الرشاوى في سبيل ذلك؟
الجواب بالفم المليان: نعم.
و لننصت إلى ما كتبه أحد أكبر، إن لم نقل أكبر دعاة القومية العربية في صيغتها الناصرية، و ارتباطاته الأمريكية مشهورة، أي شاهد من أهلها هو "م.ح.هيكل" في كتابه "الاتصالات السرية بين العرب و إسرائيل" و نقلاً من جانبه عن أوراق وزارة الخارجية البريطانية:
"...و رد وزير الخارجية البريطاني السير "إدوارد جراي" على ذلك ببرقية منه إلى المعتمد البريطاني في مصر السير "هنري ماكماهون"، و هو المسؤول عن المكتب العربي ( للمخابرات البريطانية) جاء فيها:
"تستطيع أن تقدِّم أي تأكيداتٍ لعزيز المصري باسم الحكومة البريطانية بأن الحركة العربية يجب تشجيعها بكل وسيلة ممكنة. و يُمكن لعزيز المصري أن يبدأ في تنظيم القوة التي يريدها و تستطيع أن تضع تحت تصرفه 2000 جنيهاً استرليني إذا كنت ترى ذلك مفيداً. و لك أن تطلب منه أن يظل على اتصالٍ بمكتب القاهرة(للمخابرات البريطانية) و بالمعتمد البريطاني و أن تتعهد له بأننا على استعداد لأن نساعد الحركة القومية العربية بمقدار ما يبدو من تأثيرها" جريدة "العربي" العدد 153 يوم 18أمشير/مارس 1996
و إذا رجعنا إلى سؤالنا حول هدف الاستعمار القديم فإن أصحابه كانوا يضعون في رؤوسهم هدفاً محدداً على أساس أن سلوكهم كان منطقياً صادراً عن عقلٍ منظم لا ينقصه التخطيط البعيد المدى و لا التفاني في خدمة مصالحهم القومية العليا. و أعتقد أننا لسنا بحاجة إلى أن نُعيد و نزيد في هذه البديهية: كانت مصلحة مصر تتماس أحياناً مع مصلحة بريطانيا(ضد النازي و مع الزراعة المصرية مثلاً) لكن المصلحتين كانتا متعارضتين بصورة رئيسية.
و جواباً على ذلك السؤال نستطيع أن نقول، بعد النتائج التي نلمسها لمس اليد و نراها رأي العين، التي أسفرت عنها تلك الدرجة العالية من النجاح الذي أرجو أن يكون مؤقتاً، تلك التي حققها الاستعمار القديم في هذا السبيل، أن الهدف الرئيسي كان محو القومية المصرية عن طريق فصل المصريين المعاصرين عن جذورهم في أرضهم التاريخية. أما إذا تساءل أحد عن السبب الذي يدفعني إلى القول بدرجة عالية من النجاح للاستعمار القديم، فجوابي هو: لولا تلك الدرجة من النجاح ما كانت مصر التي ضمت أقدم دولة قومية بنت أقدم إمبراطورية في التاريخ امتدت في القرن الخامس قبل عصرنا المعروف(=ق.ع.م) من قرن أفريقيا حتى الشواطئ الشرقية لنهر الفرات، و أطول الإمبراطوريات القديمة في منطقتنا استمراراً قد عانت كل ذلك التراجع خلال الآونة الأخيرة، و بالتحديد منذ يوم الأربعاء الأسود،23يوليو/أبيب 1952 و هو التراجع الذي أدى إلى حدوث فراغٍ في منطقة الشرق الأوسط الحديث، و هو فراغٌ لم تترد إسرائيل لحظة واحدة في التقدم لملئه.
و تصف "كارين فارينجتون" في "أطلس تاريخي للإمبراطوريات"
“Historical Atlas of Empires From 4000BC to the the 21th Century”,Karen Farrington,Mercury Books,London.2003
هذا الإستمرار الذي بلغ ثلاثة آلاف سنة على الأقل من نحو 3000ق.م. حتى 30ق.م.بأنه "استمرار لا نظير له" و بعبارتها هي:
“This continuity is unparalleled”p 16.
و غني عن الذكر أن مصر استمرت، بعد غروب استقلالها السياسي إمبراطورية، كذلك، حتى داخل الإمبراطوريات التي دانت لها بالولاء من الرومانية إلى الأموية إلى العباسية إلى العثمانية إلى البريطانية على التوالي.
لغة مستحيلة:
و لما كانت اللغة هي أهم سمة من سمات الثقافة القومية، فلقد تأسس على فرض الدعوة إلى القومية العربية على المصريين المعاصرين فرض اللغة العربية التي اكتسبت كما سبق لنا القول صفة "الفصحى" عليهم بصفتها لغتهم القومية. و كان ذلك متمشياً مع المنطق المغلوط، طالما لم يعد المصريون مصريين بل عرباً، و طالما يصف الخطاب الرسمي العرب بأنهم "أشقاء"blood-brothers في عبارة حاسمة، و يصف بعض المصريين أنفسهم بأنهم "إخوة" في العبارة المناسباتية المشهورة "الإخوة الأقباط أي المصريين المسيحيين" ـ وفق المظنون ـ في عبارة مترددة، فالأخ قد لا يكون شقيقاً، فلقد تأسس على ذلك أن تكون لغتهم القومية ليست مصرية بل عربية. و الأغرب أن هذه اللغة العربية "الفصحى" لم تعُد لغة قومية حتى للعرب المعاصرين أنفسهم في شبه جزيرتهم، تماماً مثلما لم تعُد اللاتينية كذلك بالنسبة لأحفاد اللاتين/الرومان في شبه جزيرتهم الإيطالية، و عاصمتهم "روما". و ليس أدل على ذلك من استقدام هؤلاء العرب الأقحاح لـ "أجانب"، و بتعبيرهم هم "أجناب" من مصر كي يعلموها لأبنائهم. فاللغة القومية هي ما "نكتسبه" عن طريق تقليدنا لمربياتنا دون أن نلتزم ، بصورة واعية، بأي قاعدة نحوية"، كما علَّمنا قبل سبعة قرون، صاحب "الكوميديا الإلهية" في دراسته الموجزة و القيمة "عن فصاحة العامية"De Vulgari eloquentia
أما في مصر فهذه اللغة العربية "الفصحى" التي يصل عدد قواعد نحوها و صرفها و إملائها إلى ما يزيد على 12 ألف قاعدة رياضية، مقابل ألف واحد للغة الإنجليزية، حسب د. "عبد الوهاب مسعود" أي نسبة 12: 1 ليست صعبة التعلم على كل مصري و حسب، بل و أكاد أقول أنها "مستحيلة" أكرر "مستحيلة". و أدلتي في هذا الشأن لا تُعد و لا تُحصى، ليس أولها "الأخطاء" الفادحة التي يقع فيها ـ و أرجو ألاَّ يندهش أحد ـ المصححون أنفسهم، بل عجز د. "ن.ف.واصل" مفتي الديار المصرية السابق، و هو الرجل الفاضل الذي قضى عمره كله في درسها في الأزهر، عن قراءتها بصورة صحيحة من ورقة في يده في حفل أقيم بمناسبة رؤية هلال شهر رمضان. و قد كتب د. "مصطفى عبد الواحد" من جامعة "أم القرى" ـ أحد أسماء "مكة" ـ مقالاً حاداً ينتقد فيه سيادة المفتي المصري في صحيفة "الأخبار" المصرية يوم 3 أمشير/ فبراير 1997 بعنوان "الصمت أولى يا فضيلة المفتي" جاء فيه ضمن ما جاء:
"... و إليك نماذج من هذا اللحن الصادر عن دار الإفتاء: إسم "إن" منصوب دائماً، لكن فضيلة المفتي جعله مرفوعاً عدة مرات، فقال مثلاً: إن سعادتنا بضم "التاء" و الصواب فتحها. و خبر "كان" منصوبٌ دائماً لكن فضيلة المفتي جعله مرفوعاً، و الفعل منصوب بعد "أن" المصدرية لكن الشيخ "ن.ف.واصل" جعله مرفوعاً عدة مرات، فقال مثلاً أن نعمرها بضم "الراء" ثم كرر هذا اللحن..."
و إذا نسب شخص ما، مثلما فعل دكتور جامعة "أم القرى"، الذي عرفته كاتباً على هذا النحو و لم أسمعه و لا مرة متحدثاً بهذه اللغة العربية "الفصحى"، ذلك العجز إلى أسباب ذاتية خاصة بفضيلة المفتي المصري السابق ـ و هذا ما أتحفَّظ إزاءه ـ دون الأسباب الموضوعية الكامنة في صلب اللغة ذاتها، فإنني أعيد إلى ذهنه و ذهن القارئ الكريم التعليق الذي نشرته بـ "اللمح" ـ كما سيتضح حالاً للقارئ الكريم ـ في جريدة "أخبار الأدب" العدد 37بؤونة/يوليو 2000 تعليقاً على نص التوصيات التي خرجت عن الدورة السادسة و الستين للمجمع اللغوي"، و هو النص الذي لا أزال أحتفظ به تحت يدي حتى الآن:
"باب النجار مخلَّع"
{ "وقفت حيران و جايز أوي حيرتي دي تستمر وياي الأسبوع الجاي بطوله قدام نص التوصيات اللي صدرت عن "مؤتمر المجمع اللغوي في دورته السادسة و الستين"، و خرجت ممهورة بإمضة أستاذ دكتور جليل هو "شوقي ضيف" لعدد م الوزرا على راسهم وزير التعليم العالي، ع شان يحطوها محط التنفيذ.
و حيرتي راجعة في حقيقتها لسبب متحدد: النص كشف عن عجز واضح في الالتزام باللي المجمع نفسه طالب غيره بالالتزام به: الصحة اللغوية, و نتيجة لديق المساحة ح اكتفي بتصنيف أغلاط النص تحت اربع عناوين لأربع مجالات و ح اضرب أمثلة محدودةعلى كل واحد:
(1) رسم الأسامي الأجنبي:
النص طالب الحكومات العربية بـ "إصدار تشريع يحرَّم كتابة الأسماء الأجنبية بحروف عربية (بند 1) بس النص كتب و ع شان أكون سادق أكتر اضطر يكتب تلات أسامي م النوع دا بالحروف دي، و دا خلال صفحتين اتنين يا دوب، و هي: "تليفزيون"(يوناني-لاتيني) و "تكنولوجيا"(يوناني) و "إلكترونيات"(لاتيني-شمالي).
(2) النحــــو:
النص طالب بـ"إستحداث لجنة للغة و الإعلام لمتابعة ما يُذاع من البرامج و المسلسلات و النشرات و تسجيل أخطائها و تصحيحها و التعليق عليها حفاظاً على الفصحى"(بند رقم 10). بس النص ما نسي ش يرتكب ذات نفس "الأغلاط" دي. فالنص بيقول بالحرف الواحد:
"و يُلحق بها(يعني باللجنة بتاع الترجمة) معهد لتدريب طبقة من المترجمين "يُختاروا"من أقسام اللغات الأجنبية "المتفوقون" ...(بند رقم 5).
و صحة الكلمة الأولانية هي "يُختارون" ع شان الفعل المبني للمجهول دا ما سبق هوش لا أداة جزم و لا نصب. و صحة الكلمة التانية هي "المتفوقين" باعتبارها صفة لكلمة "المترجمين" و الصفة أظن للساع بتتبع الموصوف في حالات الإعراب الرفع و النصب و الجر اللي لغويين عرب بيسموه الخفض.
(3) الأسلــــوب:
النص اللي طالع يدافع باستئساد عن الفصاحة ما غفل ش عن ارتكاب أغلاط نزلت به، لدرجة تحزِّن م الركاكة فـ "الدورات" ما بتتهيَّأش. لاكن بـ "تتنظم"، و معاهد التدريب ما بيلتحق ش بها "طبقات" لاكن مجموعات و الأفصح "أطقم" م المترجمين، و الحكومات ما بـ"تصدرش" تشريعات، لاكن بتستصدرها من مجالس نيابية. و دا هو المعنى المقصود، يعني اللي السياق بيحتمه، موش المكتوب اللي بيشكِّل إدانة للحكومات دي بـ "دمج السلطات". و مافي ش "كليات علمية" ع شان كل الكليات كدا، يعني بتتبع منهج علمي في درس الظاهرة و لاَّ الموضوع اللي بتخضعه لتخصصها حتى و لو كان التاريخ و لاَّ النقد الأدبي. و باين كاتب التوصيات كان يقصد "الكليات العملية" بس التعبير الصح ما سعف هوش.
(4) الموضـــــوع:
النص وقع في أغلاط موضوعية، أخطرها في تصوري لما قال:
"حتى يتخّلص شباب الأمة من التبعية العلمية كما تخلَّصت من التبعية السياسية"(بند رقم 4)
و بخصوص التبعية السياسية اللي النص بيقول عليها اللي قاله، أعترف ـ من غير أسف ـ إن معلومات المجمع المتوقر سابقة معلوماتي بسنة ضووي ع الأقل، فأنا لغاية دا الوقت، ما اعرف ش إمتى بالتحديد، اتخلَّصنا ـ اسم اللاه علينا ـ م التبعية السياسية دي. لاكن اللي يهمنا أكتر هو تعبير "التبعية العلمية". فالأصح إن التلميذ المصري لما يعرف نظرية النسبية العامة، مثل ن لـ "ألبرت أينشتاين" ما بيبقاش تابع لا لـ "أينشتاين" و لا لـ "النمسا" و لا لـ "ألمانيا" و لا للولايات المتحدة و لا حتى للغرب. ليه؟ ع شان يعرف يعني يتحرر. فالمعرفة حرية. و العلم ما لهوش وطن. يعني نظرية "أينشتاين": الطاقة= الكتلة X مربع سرعة الضو" ما خدمت ش الولايات المتحدة على إيدين "أوبنهايمر"، و زرجنت ما رضيت ش تخدم عدوتها روسيا، اللي كانت تاني دولة طوَّالي بعد الولايات المتحدة تصنع القنبلة الذرية. و دي كانت واحدة م التطبيقات العملية لنظريات العالم الفيزيائي العظيم. و كذلك الأمر وي الإنجليز و الصينيين و الهنود إلخ. و الغلطة دي كانت تستوجب سحب أعلى شهادة حاصل عليها كاتب التوصيات و أظنها ما تزيدش عن محو الأمية.
نتيجة حتمي:
التوصيات دي بتقدم دليل جديد و ساطع على صحة فرضيتي "اللغة المصري الحديثة" اللي الثقافة السايدة في مصر بتوصمها بـ "العامية" هي في حقيقة الأمر: اللغة القومية للمصريين المعاصرين، بمعنى لغتهم الأمMuttersprache ، يعني اللي ما بيغلطوش فيها أبدن، لا في نحوها و لا صرفها و لا نطقها، و بيتكلموها لبلب من غير ما "يتعلموها". و آن الأوان للاعتراف بوجود الشمس الساطعة في العلالي. و دا هو التحرر- التحرر"}
و بطبيعة الحال لزم المجمع المتوقر، إزاء هذا التعليق العلني صمتاً مطبقاً و لا يزال يلزمه حتى كتابة هذه السطور.
هــــراء مبرمج:
إلاّ أنني صادفت خلال محاضرة دعاني بعد نشري للتعليق لإلقائها قصر ثقافة طنطا، بين "المتعلمين المصريين" من يصرخ:
ـ يعني عايز تقول إن الدكتور "شوقي ضيف" ما بيعرف ش عربي؟
و خلال برنامج بالقناة الفضائية المصرية المسماة بـ "الثقافية" اعترض السيد العائد من ألمانيا بشهادة الدكتوراة في اللغة العربية، بشدة، على وصفي لهذه اللغة "الفُصحى" بأنها تصل في الصعوبة حداً يستحيل معه على أي من كان أن يتقنها مهما أنفق من عمر و جهد.
و على هذا النحو أجمع السيدان على إهمال الحجج العلمية التي يسوقها الحر الفقير لصالح ترديد و الأدق "ترتيل" الأهازيج الشائعة على الألسنة التي تنطق بما يملأ و يترعم عقولهم بصفتهم "متعلمين مصريين" من هراء مبرمج.
***
و الآن هل عندنا مشكلة لغوية أم أن الأمر يسير على خير ما يُرام؟
و إذا اتفقنا على أن عندنا مشكلة من هذا النوع، فما هو جوهرها؟
و هل يكون من باب العبث أو المزاح أن نقرر أن اللغة المفروضة على المصريين المعاصرين من جانب الخبراء الأمريكيين الذين يضعون الكتاب المدرسي لتلاميذ مصر:
(1) لغة أجنبية يحتاج الطفل المصري أن "يتعلَّم" كافة مهاراتها الأربعة: الفهم و النطق و بطبيعة الحال الكتابة و القراءة في دور تعليم مختلفة.
(2) لغة بالغة الصعوبة لا يستطيع أحد، مهما أنفق من سنوات عمره أن يقول بالفم المليان أنه يستطيع التعبير عن نفسه خلالها، دون أن يقع في الخطأ تلو الخطأ، سواء أكان هذا التعبير شفاهة أو حتى كتابة.
مصريون مسلمون أم مسلمون يعيشون في مصر:
و أعود كي أتساءل:
هل سكان مصر مسلمون أم يدينون و الأدق يدين معظمهم بالديانة المحمدية أي الإسلام؟
و هذا هو السؤال يقتضي طرح سؤالٍ آخر قبله: هل الإنتماء الديني جزء من الانتماء الثقافي أم العكس؟
تقول الموسوعة البريطانية في تعريفها لـ "الثقافة" بالحرف الواحد:
"نستطيع أن نعرِّف "الثقافة" بأنها السلوك الإنساني، أي السلوك الذي ينفرد به الإنسان العاقل Homo Sapiens دون غيره من الكائنات الحية، بالإضافة للأشياء المادية التي يستخدمها حيث تُشكِّل هذه الأشياء جزءاً لا يتجزَّأ من هذا السلوك. و "الثقافة" تتكون بشكلٍ محدد من اللغة و الأفكار و المعتقدات و العادات و الشرائع و الأعراف و المؤسسات و التكنيكات و الأعمال الفنية و الشعائر و الطقوس و الأعياد و الإحتفالات...إلخBritannica,V.17,p.874
و معنى القول أن "الثقافة" تشمل الديانة و ليس العكس. و إذا ما استعرضنا كافة علماء البشريات أو الأنثروبولوجيا من التطوريين الكبار في القرن التاسع عشر، قرن الأنوار و التنوير، مثل "إدوارد بيرنت تايلور" و "لويس هنري مورجان" إلى أصحاب مدرسة الإنتشار مثل "فريدز جرابنر" و "إليوت سميث" فإننا لا نعثر، و لو بالصدفة، على من يقول منهم بأن الديانة تشمل "الثقافة". و أعتقد أنه ما من أحد نسب حتى تاريخه أي دولة أوروبية أو أمريكية في إطار الخطاب العام إلى ديانتها على هذا النحو: فرنسا المسيحية أو الكاثولوكية، الولايات المتحدة المسيحية أو البروتستانتينية، و ذلك في نطاق علمي بطبيعة الحال.
هذه هي خبرة البشرية في "الغرب". أما في الشرق فيكفي أن نُعيد إلى الأذهان في هذا التقديم السريع، كتاب "الديانة في الثقافة اليابانية"
Religion in Japanese Culture,edited by Noriyshi Tamaru&David Reid,Kodansha International,Tokyo,New York,1996.
ففي ص 14 من الكتاب نقرأ:
"تعدد و تراكب الظواهر الدينية في اليابان يرتبط بميلٍ استيعابي في الثقافة اليابانية"
و معنى القول، كم هو واضح، أن الثقافة اليابانية أكبر و أشمل من كافة الظواهر الدينية. فالأكبر هو القادر على استيعاب الأصغر و ليس العكس. و تأسيساً على ذلك لم يسمع أحد قولاً مثل هذا القول: اليابان البوذية أو اليابان الشنتوية!
أسوق هذا الحديث كي أنتهي إلى طرح هذا السؤال:
لماذا يصر الخبراء الأمريكيون على رأس الخبراء الغربيين في الخطاب العام على نسبة مصر إلى "ديانتها" ـ بقوسين عريضين ـ على هذا النحو:
Egypt as a moslem country is so and so .. …”
و السر وراء القوسين اللذين حرصت على وضعهما حول "ديانتها" راجع، إلى أن المصريين المعاصرين لا يدينون جميعاً بالديانة المحمدية(=الإسلام)
كما ألَّف البريطانيون لحن منظمة "الجامعة العربية" التي تضم دولاً موصوفة كلها في الخطاب الغربي بصفة عامة بأنها دول "عربية" ألَّف الخبراء الأمريكيون و وزَّعوا لحن منظمة "المؤتمر الإسلامي" التي تضم دولاً موصوفة في الخطاب الغربي بصفة عامة و الأمريكي بصفة خاصة، بأنها "دولٌ إسلامية". و السؤال هنا بالتالي هو: لماذا ينسب هؤلاء الخبراء الغربيون هويتنا القومية، و دون سائر الهويات القومية في الغرب و الشرق على حدٍ سواء إلى الديانة عوضاً عن الثقافة و في قلبها اللغة؟
كما ترك لنا الاستعمار القديم بقيادة بريطانيا حرية تخمين هدفه من تعريب مصر، ترك لنا الاستعمار الجديد بزعامة الولايات المتحدة نفس الدرجة من الحرية في تخمين هدفه من "أسلمة" مصر. و أعتقد، و لو أنني أرجو أن أكون مخطئاً، أن نقل انتماءنا من القومي {المصري بطبيعة الحال} إلى الديني، أي من إنتماء نسبي مفتوح لانتماء مطلق مقفول، لا يرمي إلى أي هدفٍ أهم في ضوء وجهة النظر الاستراتيجية الأمريكية من تمزيق وحدتنا كمصريين، فلقد ظلت مصر طوال تاريخها و حتى "ثورة يوليو الأمريكية"، حسب التعبير البارع لـ "جلال كشك"، بصرف النظر عمن يكون هو، "بودقة صهارة"، و بتعبير آخر، "وطن كل من يأوي إليها" سيان أكان أرمللياً أو كريتلياً، يونانياً أو إيطالياً أو عبرانياً. لكن مع الانتماء الديني سوف نبدأ بحكم كونه مطلقاً مغلقاً من فورنا في الانقسام إلى مسلمين و مسيحيين و موسويين و بهائيين، ثم إلى سنة و شيعة، أرثوذكس و كاثوليك و بروتستانت ثم إلى شوافع و أحناف ثم إلى إثني-عشريين ...إلخ. و معنى القول أن تحويل إنتمائنا من القومي إلى الديني و الأدق الطائفي هو أول طلقة يُطلقها الأمريكيون و من ورائهم الغربيون، في حرب طائفية تبدأ كيلا تنتهي وسط أكثر أمم الأرض تجانساً و انفتاحاً و تسامحاً، و أقدم أمة متحدة أي تتكلم لغة واحدة، أسست لنفسها أول دولة/أمة في تاريخ بني الإنسان و أطول أمم المعمورة استمراراً بهذه الصفة ذاتها.
و بناء عليه فإذا كانت بريطانيا قد هدفت إلى تذويب مصر في الخارج، أي فيما يُسمى بـ "العالم العربي"، فإن الولايات المتحدة تهدف إلى تمزيق المصريين في الداخل على أسس طائفية أي دينية ثم مذهبية ثم مذهبية فرعية. و واضح لكل من يستطيع أن يفتح عينيه و يرى أن كلا الهدفين يتكاملان و لا يتعارضان حيث أنهما يستهدفان خطراً واحداً على المصالح الغربية في المنطقة: القومية المصرية التي تحمل في رحمها المحكوم عليه بالعقم دولة عظمى إقليمية على الأقل، في وزن تركيا أو إيران.
حزمة ضوء:
و لا أريد أن أترك هذه النقطة دون حزمة الضوء التي تستطيع هذه التجربة التي ترويها ـ كتابة ـ زميلة فلسطينية في مجال العمل هي "ف.أبو خضرا"، حول دخول يهود مصريين و الأدق مصريين يدينون بالديانة الموسوية بيتهم لتفتيشه عند الاجتياح الإسرائيلي لبلدها "غزة" في سنة 1956، و دخول عراقيين موسويين لبيت جارهم. و كيف لم يتورع العراقيون الموسويون(=اليهود) عن ارتكاب كافة الجرائم التي ينزلها، في العادة، الغالبون بالمغلوبين، مما كان يقف في حلقها و هي تروي ما حدث أمامي، و لكنه يُندي جفونها في نفس الوقت. في حين أن المصريين-الموسويين لم يمسوا شعرة واحدة في رأسها و لا قشة واحدة في البيت. و لقد طمأنها أحدهم و هدَّأ آخر روع جدة عجوزة ضريرة همت بالوقوف عند دخولهم، و هو يقول بلغته التي لا تخطئها أذن في المنطقة التي تمتد من الخليج إلى المحيط:
ـ ما تخافي ش يا أمي، خلِّي كي زي ما انتي!
و زاد هؤلاء المصريون الذين تصادف أن دانوا بالديانة الموسوية على ذلك بأن رسموا على باب البيت العلامة التي تُفيد خضوعه للتفتيش، و هو الأمر الذي "نسي" العراقيون اليهود أن يفعلوه على باب الجار السيئ الحظ فعرضوه لتفتيش مماثل مرة واحدة على الأقل.
هؤلاء و أولئك يدينون بنفس الديانة و لكن سلوكهم اختلف كل ذلك الاختلاف لسبب أرجو أن يكون قد صار واضحاً الآن.
إنتماءات ثانوية:
و بطبيعة الحال لا يقود هذا الحديث الذي أسوقه الآن حول الثقافة السائدة في مصر، و لا ينبغي له، إلى رفض وجود أي انتماء من تلك الانتماءات الدينية أو المذهبية. فلكل هذه الانتماءات حق الاستمرار على أرض مصر، بشرطٍ واحد: أن تظل، مثلما هو الحال في الغرب و الشرق انتماء ثانوياً، أي تالياً للانتماء الأول القومي بمعنى القومي المصري.
تدهــور إلاه:
و هنا أتذكر بشيئ غير قليل من الحزن و الأسى تبني "المتعلمين المصريين" لموقف "العرب-الساميين" المتأخرين زمنياً، من حيوانٍ يتمتع بالصبر و الجلد و تحمل المشاق و الجوع أقصد "الحمار" الذي كان إلاهاً معبوداً عند الساميين الجنوبيين ثم انتقل معهم بهجرتهم إلى شمال شبه جزيرتهم، بصفته هذه، أي ظل يُعبد عند الساميين الشماليين. و يتضح ذلك من اسم الملك السادس من الأسرة الأمورية الأولى "حمورابي" الذي حكم "بابل" في الفترة من 1792 حتى 1750ق.ع.م. و يعني اسمه "الحمار أبي"{حمور=حمار بعد دخول قاعدة التمييل "=الإمالة"}. و لكن الأيام أدارت له ظهرها، و صار هدفاً للسخرية، أبرز مظاهرها الادعاء الذي انبثق في ظل الصراع بين الآلهة القديمة بغبائه. و هذا إدعاء غير صحيح. و لكن "المتعلمين المصريين" تبنُّوه دون "إحم و لا دستور" عن العرب-الساميين بعد نبذهم لآلهتهم القديمة. و لقد ألقى رئيس وزراء "مصري" سابق ممن عملوا في جناح الخدم و الحشم بالبلاط العسكري الحاكم في سبعينات القرن العشرين هو د."ع.عبد المجيد" بالمسؤولية عليه في نقص إنتاج مصر من القمح! لماذا؟ لأن الفلاحين ـ و للفظ عند "المتعلمين المصريين" ارتباطات تحط بالِشأن ـ يزرعون من أجل غذائه مساحات شاسعة من البرسيم على حساب المساحة التي كان يتعيَّن تخصيصها لزراعة القمح. في حين يعرف المصريون-المصريون أي المصريون-الأميون لهذا الحيوان الذي استأنسه بنو الإنسان، لأسباب كانت و لا تزال قوية، فيما نظن، كي يستخدموه كوسيلة من وسائل الحمل و الجر قبل عصرنا المعروف بنحو أربعة آلاف سنة، عوضاً عن الغباء صفة الذكاء، و خصوصاً فيما يتعلق بذاكرته المكانية الحادة. و يعرف الريفيون من أمثالنا أن "الحمار" لا ينسى مكاناً زاره و لو مرة واحدة. و كان يقودنا عبر الطرق المختلفة ركوباً على ظهره، و نحن صغار لا نعرف بعد النطق بأسمائنا إلى آخر مكان ذهب إليه، بشرط واحد: ألاَّ نتدخل فيما يعنيه. كما نعرف، نحن الريفيين، أن الحمير تملك درجة عالية من الوفاء، الذي قد يفتقر إليه بعض الذين ينسبون أنفسهم، بضمير مستريح، إلى بني الإنسان، تجعلها تصوم حزناً على صاحبها المتوفي، حتى تلحق به!
أما "البرسيم" بالنسبة للحمير، فيوازي "الكافيار" بالنسبة لغالبية المصريين يسمعون عنه و قد يرونه في الأحلام أو الأفلام و لكنهم لا يذوقونه. فالفلاحون لا يفتقرون، مهما "تتركنا" إزاءهم أي صيَّرنا أنفسنا أتراكاً عليهم، ذلك القدر من الذكاء الذي يمكنهم من قصر التغذي بالبرسيم، في ظل ندرته النسبية، على حيواناتهم الحلوبة كالبقر و الجاموس، فيما لا يملكون لحميرهم سوى التقوت على النجيل بصفة خاصة و الأعشاب الشيطانية بصفة عامة.
ثقافة مخترعة للمصريين المعاصرين:
و بناء على كل ما سبق فإن القول الذي يردده "المتعلمون المصريون" و خصوصاً "الأكاديميون" منهم وراء الخبراء الأمريكيين بأن الثقافة الإسلامية هي الثقافة القومية للمصريين المعاصرين هو قول فاسد و بالتحديد غير علمي و غير دقيق و غير نزيه في آنٍ واحد. و ذلك لأنه يحذف ديانتين و الأولى شُعبتين من الديانة الإبراهيمية هما الموسوية و المسيحية اللتين يدين بهما مصريون ـ و لنصمت الآن عن الديانة البهائية ـ و في نفس الوقت يضم ثقافات متعددة أخرى، لا تشكِّل الديانة المحمدية (=الإسلام)سوى جزء من ثقافتها كالثقافة الإيرانية و الأفغانية و الكشميرية على سبيل المثال، في آسيا و البربرية و النيجيرية-الهاوسية على سبيل المثال في أفريقيا أي أنه مصطلح ضيق للغايةexclusive too من جانب و فضفاض للغاية too inclusive من جانب آخر، و فضلاً عن فساده ضار بحاضر مصر و مستقبلها و كذلك بماضيها على حدٍ سواء، و بالتالي بالمنطقة المحيطة بأسرها. أما عدم نزاهته فكامن في خدمته لأهدافٍ أجنبية معادية لمصر و المنطقة بأسرها.
عن نظرية المؤامرة:
و هنا يحق للقارئ الكريم أن يسأل: كيف أنسب للعوامل الخارجية كل هذا التأثير على العوامل الداخلية، و ألاَ يهدد ذلك بالانزلاق نحو نظرية المؤامرة؟ و السؤال بعبارة أخرى: ألا يُبدي المصريون المعاصرون معارضة من أي نوع لما يُريده أولئك الخبراء؟
ردي هنا هو ما يلي:
(1) يتناسب حجم التأثير الذي تُحدثه العوامل الخارجية في أي صيرورة بصورة عكسية مع مدى ضعف أو قوة العوامل الداخلية.
(2) يصل تأثير هذه العوامل أو تلك مداه الأعلى بتوظيفها للعوامل المناقضة كي تعمل لصالحها، و بعبارة أخرى، عندما تكون العوامل الداخلية قوية فإنها تنجح في توظيف العوامل الخارجية لصالحها، أما إذا قويت العوامل الخارجية، أمام تلك المناقضة أي الداخلية، و ذلك في حالات استثنائية، مثلما هو الحال، مع مصر منذ فجر يوم الأربعاء الأسود، و المشؤوم في آنٍ واحد، فإنها توظف العوامل الداخلية لصالحها. و معنى القول أن هناك مؤامرة بل و مؤامرات تحدق بنا، لكنه من الخطل أن نعتمد المؤامرة نظرية تصلح لتفسير أي شيء و كل شيء. فالعامل المرجح كامن و حسب في الداخل.
فإذا ما انتقلنا من النظر إلى الواقع، فإننا نلمس أن هناك معارضة ملحوظة، و ربما بليغة أيضاً للإرادة الأمريكية. و لكن السؤال الأهم هو: إلى أين يتجه رأس سهم تلك المعارضة؟
أمركة التعليم:
تنصب المعارضة الرئيسية، إن لم نقل، كل ما يصدر عن "المتعلمين المصريين"، دون استثناء واحد، من معارضة للإرادة أو الإستراتيجية الأمريكية في مصر، على أن الخبراء الأمريكيين يسعون إلى "أمركة التعليم المصري"، و على الأقل، كان هذا عنواناً رئيسياً لتحقيق صحفي نشرته دورية أسبوعية هي "الأهرام العربي" التي تصدرها كبرى الصحف القومية و الأدق الحكومية في مصر يوم 22أبيب/يوليو سنة 2000، و جاء هذا العنوان انعكاساً دقيقاً لجوهر الآراء التي أفصح عنها "التربويون المصريون" الذين تصادف أن كانوا يحملون شهادات الدكتوراة أو يُحِّضرون لحملها، ممن يتصلون بصورة أو بأخرى بما يُسمى "مركز تطوير المناهج" التابع لـ "وزارة التربية و التعليم" و الأدق الذي تتبعه هذه الوزارة، و استنطقهم التحقيق، و هو التحقيق الذي شكا فيه بعضهم من دفعه ثمناً غالياً لـ "معارضته"!
عقل بائس:
و هكذا نجد أنفسنا أمام عقل ميكانيكي بائس: ما دام المستعمرون أمريكان، فلن يفرضوا على مستعمريهم (بكسرالراء) سوى "الأمركة" و كفى الله "الأكاديميين" شر التفكير و أهواله و أخذه المتغيرات في الحسبان. و هنا يتعيَّن علينا أن نعود بعقلٍ مستقل، إلى التاريخ قليلاً كي نرى ما حدث من متغيرات:
ظل المستعمرون الأجانب يلجأون، في سبيل نزع مقاومة الشعوب التي يُخضعونها لسيطرتهم، إلى فرض ثقافتهم القومية بما تنطوي عليه من لغتهم و آلهتهم و دياناتهم و مختلف أنماط حياتهم على هذه الشعوب. هكذا فعل الشطر الأعظم من أكبر المستعمرين في التاريخ كالفرس و الأشوريين و اليونانيين و الرومان و الأسبان و البرتغاليين و الفرنسيين و الإنجليز. غير أن المستر "جوني" فطن إلى درس ذهبي في أواخر حقبة السلام البريطاني Pax Britannica: هناك عوامل محلية عند هذه الشعوب المقهورة، متخلِّفة عند الشعب المصري عن مرحلة استعمارية سابقة في سبيل هذا الهدف الاستعماري ذاته، خصوصاً و أن فرض الثقافة القومية للمستعمرين لم ينجح باستمرار في تحقيق الهدف الذي ينشده. و ليس أدل على ذلك من أن ثواراً كباراً فيما يسميه الغرب بـ"العالم الثالث" درسوا في سني تكوينهم الأولى في عواصم غربية و أتقنوا لغة و ثقافة مستعمريهم("المهاتما غاندي" و "هوشي منه" نموذجان). و نلاحظ في هذا الصدد أن بريطانيا التي كانت تبذل جهوداً مكثفة في أوائل القرن العشرين لفرض اللغة الإنجليزية كلغة للتعليم في مصر، تخطط قبيل انتصافه بدأبٍ و استبسال في سبيل إنشاء ما يُسمى بـ "الجامعة العربية" في المنطقة و مصر على وجه الخصوص، أي فرض تعريب المصريين، و بعبارة أخرى انتقلت بريطانيا من فرض ثقافتها هي إلى فرض ثقافة أخرى، خلاف ثقافتها، على المصريين المعاصرين. و غني عن الذكر أن الثقافتين، البريطانية و تلك الأخرى تشتركان في أجنبيتهما عن مصر و وادي النيل، و تختلف الواحدة عن الأخرى في أن إحداهما راقية و الأخرى أدنى رقياً. و هذا هو الدرس الذهبي الذي استوعبه المستعمرون الجدد الذين أزاحوا الإنجليز كي يحلوا محلَّهم، و تبنوا تطبيقه ببراعة لا مفر من التسليم بأنها فائقة.
صحيح أن الحركة الوطنية المصرية "العرجاء" تبنت تجاه قضية التعليم باللغة الإنجليزية موقف الرفض، و هو الموقف الذي يتناقض مع موقف الحركة الوطنية (و الأدق القومية) الهندية و لكن لذلك قصة طويلة.
و في سائر الأحوال سار "الانقلاب العسكري الأمريكي"، و هذا توصيف أدق، في مصر على هدي الحركة المصرية التي وصفناها قبل قليل بصفة لا أراها تستحق أقل منها و لا أزيد، و خصوصاً بعد أن سلَّمته رقاب المصريين المعاصرين. بل و بالغ في "مقاومته" للإستعمار القديم فأصدر وزير تعليمه و تربيته "الصاغ الملهم"، هو أيضاً، و لكن بدرجة أقل إلهاماً من "البكباشي المُلهم"، "ك.حسين" قراره قبيل ستينات القرن العشرين بأن الطالب الذي يحصل على 40% في مادتيْ اللغتين الإنجليزية و الفرنسية ينجح فيهما و يُنقل إلى الصف الدراسي اللاحق!
معارضة لكن لذيذة:
يحدد "المعارضون" من "التربويين المصريين" هدف "الأعداء" الذي يوجهون إليه سهامهم على هذا النحو:
"الأمريكيون يسعون إلى فرض ثقافتهم الأمريكية علينا نحن "العرب-المسلمين" و هو الأمر الذي يترتب عليه أن تكون الوطنية المتوقدة في أن نعارض تلكؤ أو تردد الخبراء الأمريكيين في بث "ثقافتنا العربية-الإسلامية" في مناهجنا التعليمية"!!!
و معنى هذا القول أن هذه الشريحة من "المتعلمين المصريين" لا يفعلون بمعارضتهم تلك سوى استنهاض الخبراء الأمريكيين كي يضعوا موضع التنفيذ استراتيجيتهم التي لا تقوم على فرض الثقافة الأمريكية بصفة رئيسية على تلاميذ مصر، بل على فرض الثقافة العربية-الإسلامية عليهم. و يتبدى موقف "المتعلمين المصريين" أكثر ما يتبدى في المقالات الأسبوعية التي تكتبها ببلاغة محزنة د."ن.أ. فؤاد" في كبرى الجرائد المصرية، و هي الجريدة التي تُعد في تصوري أشد فعالية من "لاظوغلي" في خدمة الإستراتيجية الأنجلو-الأمريكية، فبينما لا تطول "الداخلية" سوى شواشي الشرود عن "القطيع"، تستطيع صحيفة كـ "الأهرام" أن تقتل براعيم أي تمرد على اللامنطق و اللاقومية في المهد. فسيادة د. "ن.أ.فؤاد" تجهر بمعارضتها "الشرسة" للخبراء الأمريكيين و تنعي تدخلهم في الشؤون الداخلية لمصر بمعاونة "البنك الدولي". و لكنها تمضي فتتبنى أكرر "تتبنى" موقف د."جوديث كوكران" في كتابها "التربية في مصر"، مع أن سيادتها، و ليس أي شخصٍ آخر، هي التي عرَّفتها لقارئها على هذا النحو:
"الخبيرة الأمريكية التي اشتركت مع الأجهزة الأمريكية في "تطوير" ـ و القوسان من عند د."ن.أ. فؤاد" ـ مناهج التعليم في مصر"
إذ أن د. "ن.أ. فؤاد" تقول بالحرف الواحد عقب هذا التعريف، نقلاً عن الخبيرة الأمريكية هذا القول "البليغ":
"كان تلاميذ الكتاتيب الممتازون يستطيعون أن يُنمُّوا معرفتهم بالإسلام و أن يُصبحوا أرفع المصريين علماً" ص 8 من كتاب الخبيرة.
و تمضي د."ن.أ. فؤاد" كي تبيع لنا هذا القول الذي صدر عن خبير أمريكي ـ و انس تاء التأنيث لحظة ـ كي تبيعه لنا باعتباره "شهادة من أهلها"!!!
بل و تؤسس "الدكتورة المصرية" المعارضة على هذه الشهادة في السطر التالي مباشرة ما يلي:
"إذا فشل الفاشلين لا دخل للكتاتيب فيه فقد فشلوا في جميع الوظائف التي تقلدوها لأسبابٍ هابطة" (ماهي؟لا أحد يعلم)(صحيفة "الأهرام" 11مسرى/أغسطس 1999ص 30)
و قد ينبري شخص ما كي يقول: إن د."ن.أ. فؤاد" ليست "تربوية" في سائر الأحوال. و رسالتها لنيل شهادة الدكتوراة كانت عن "أم كلثوم". و هذا صحيح. و لكنه قول لا ينفي شيئاً و لا يُثبت آخر. إذ أن ذلك هو موقف "الثقافة السائدة" في مصر، تلك التي يقف منها "الأكاديميون المصريون" ضمن مختلف "المتعلمين المصريين" موقف الحراس الأوفياء، و بعبارة أدق: موقف الكهنوت السادن. و إليكم موقف د."ح.عمار" الذي يلقبه تلاميذه النجباء ـ و هم "أكاديميون" بطبيعة الحال بـ "شيخ التربويين" في مصر ـ و هو الموقف الذي أفصح عنه سيادته في مقال "بليغ" بلاغة محزنة هو الآخر نشره في جريدة "القاهرة" بعنوان: "الدور المشبوه للجامعات الأجنبية في مصر"، و خصصه "التربوي المصري" العتيد لشن هجوم حاد، قد نتفق معه و قد نختلف، ضد استخدام الجامعات الأجنبية للغاتها الأجنبية في التدريس، و هو الأمر الذي يتساءل د."ح. عمار" حوله على هذا النحو المؤثر: "هل نحن مع بدايات حدوث انقلاب للإنسلاخ من هويتنا الثقافية العربية".
و يتأسس على هذا التساؤل، بحكم طبيعة الأمور أن يكون البديل عند سيادته هو التفاني في الدعوة إلى استخدام "اللغة العربية"، على نحو ما تدعو إليه "الجامعة الأمريكية" و "الثقافة السائدة"، و كذلك د. "ن.أ. فؤاد"، فلقد وصف سيادته: "مصر"، في الفقرة التالية مباشرة بأنها:
"أم الدنيا العربية-الإسلامية منذ الفتح العربي، مروراً بقادة نهضتها الحديثة منذ "رفاعة الطهطاوي" و ما بذل من سعي و تطوير و إثراء لثقافتنا العربية. نذكر من الأعلام طه حسين و سلامة موسى و أحمد أمين و زكي نجيب محمود و نجيب محفوظ و فاروق شوشة و جابر عصفور و غيرهم و غيرهم...إلى جانب علمائها...إلخ".(صحيفة "القاهرة" العدد 289 ص 9 يوم 25 بابة/اكتوبر 2005)
و لكن الملاحظ أن شهادة د."جوديث كوكران" الخبيرة الأمريكية، لا تتفق و حسب مع موقفيْ د."ن.أ. فؤاد" و د"ح.عمار"، في اعتماد "الثقافة العربية-الإسلامية" و في قلبها بطبيعة الحال اللغة العربية "الفصحى" كثقافة قومية للمصريين المعاصرين، بل و مع ما كتبه الخبيران الأمريكيان "لوزر جيوليك" و "جيمس بولوك" اللذان استدعهاهما العسكروت الحاكم في مصر في ستينات القرن الماضي و بالتحديد في سنة 1960 لتنظيم الإدارة المصرية في تقريرهما:
"الثقافة الإسلامية من أصلح الأسس للحكم في العصر الحديث، و ليس هذا فحسب بل إنها تقدم للشعب المصري المبادئ يمكن للمصريين أن يُقيموا عليها ديموقراطيتهم الجديدة" (نقلاً من جانبي عن د.عبد الرشيد صقر. جريدة "الوفد" عدد 53 يوم برمهات/مارس 1985)
و لهذا السبب أو لهذه الأسباب لم يتوقف أحد من كبار أو صغار "التربويين المصريين" أمام "التطوير" الذي أدخله الخبراء الأمريكيون على الكتاب المدرسي للمرحلة الإبتدائية، خلال ولاية د. "ف. سرور"، المتخصص في القانون، لوزارة التربية و التعليم في أواسط ثمانينات القرن العشرين، بتغيير عبارة "عادل يأكل الفول" إلى "عمر يأكل الفول". و لم يفطن أحد منهم، في نطاق علمي، بطبيعة الحال، إلى أن اسم "عادل" يخاطب جميع الأطفال أو التلاميذ المصريين، بينما يُخاطب إسم "عمر" قطاعاً من هؤلاء التلاميذ و يترك قطاعاً آخر، أي ينفيه إلى كتابٍ آخر يخاطبه باسمٍ ديني بارز آخر يوازي "عمر" مثل "متى" أو "بولس"، و بعبارة أخرى يمزق الأمة المصرية أي وحدة المصريين المعاصرين إلى أمتين على الأقل. كما لم يتوقف أحد من أولئك "التربويين المصريين" أمام إلقاء الخبراء الأمريكيين و متدربيهمtrainees بكل ما يملكون من ثقل وراء "تعريب" تدريس العلوم الطبيعية في جامعات مصر، كما سبقت الإشارة.
عن النموذج الأمريكي:
و عندما يكتب د."ف.زكريا" كتاباً بعنوان "العرب و النموذج الأمريكي"، كي يرفض فيه صلاحية النموذج الأمريكي كأساسٍ يستطيع العرب أن يبنوا عليه نهضتهم في العصر الحديث، فإن سيادته يكون قد سدد سهماً بارعاً حقاً، و لكن على هدفٍ غير قائم في الواقع. لماذا؟
لأن موقف الخبراء الأمريكيين يقوم على عدم طرح النموذج الأمريكي سواء لنهضة العرب أو غير العرب، ليس لعدم صلاحيته أو صلاحيته، بل لامتلاكهم لنموذجٍ آخر أكثر فعالية في خدمة مصالحهم في منطقتنا السعيدة. و ليس أدل على ذلك من إعلان دكاترة "الجامعة الأمريكية" ـ و القوسان بهدف التحفُّظ ـ في مصر أنفسهم رفضهم القاطع للتغريب، و تأكيدهم على فشل التجارب الديمقراطية و العلمانية و بطبيعة الحال، الاشتراكية قبل و بعد "انقلاب يوليو الأمريكي"، الذي قاد و يقود مصر على المستوى الثقافي من العصور الحديثة التي شارفت حدودها هي و سائر بلدان المنطقة بأسرها، التي لم تكن قد اقتربت من تخوم هذه العصور بعد، إلى "العصور الوسيطة"، دون أن يخشوا لومة لائم أو "لفت نظر" من جانب رؤسائهم، و دون أي شعور بالتناقض بين عملهم في مؤسسة أمريكية و "عدائهم" الذي لا فصال فيه، للتغريب، و ذلك لأن النموذج الذي يطرحه الخبراء الأمريكيون و أتباعهم هو النموذج "العربي-السامي"، و بتعبير الثقافة السائدة في مصر و المنطقة المحيطة: "العربي-الإسلامي".
و لست أريد أن أترك عند القارئ الكريم انطباعاً بأنني أعادي "الأمريكيين" أو "العرب-الساميين". فموقفي، باختصار يفرضه مثل هذا التقديم السريع، يقوم، ليس على رفض ما يُسميه دكاترة "الجامعة الأمريكية" بـ "التغريب" أي الغرب كله، على غرار ما يفعل الأصوليون الدينيون أنفسهم، بل على رفض السياسة الأمريكية و حسب و احترام الثقافة الأمريكية، و خصوصاً وجهها الديمقراطي العلماني الإنساني، و ممثلي هذا الوجه من أمثال "توم بين" و "وليم فوكنر" و "آرثر ميللر" و "روبرت فروست" و "وولت ويتمان" و "إميلي ديكنسون" و "نعوم تشومسكي" و مئات آخرين أضعهم ضمن أصدق أصدقائي. و كذلك العالم التربوي "مورين ميرفي" التي تروي في حديث لها مع مجلة "أخبار الأدب" الأسبوعية يوم 25برمهات/مارس 2001 ما يلي:
"في ندوة بجامعة "عين شمس" كنت أتحدث عن الأدب المصري، فقام أحد الحضور و قال لي:
"يجب ألاَّ تتحدثي عن الأدب المصري و إنما عن الأدب العربي كله. و لكنني أعتقد أن أول انفجارٍ معرفي على نحوٍ عالمي لكل طلاب التاريخ و الحضارة في أمريكا هو مصر. و في متحف "المتروبوليتان" مجموعة كبيرة من الآثار المصرية. و قد استغل الكثيرون حب الأطفال للحضارة الفرعونية فقاموا بتصميم عرائس فرعونية و قوالب سكر على هيئة أهرامات، فالكنوز الفرعونية تثير خيال الأطفال في كل أنحاء العالم."
و السؤال هنا أيهم أكثر مصرية: أطفال مصر "هذه" أم أطفال "هذا" العالم؟
و معنى القول أن الفرق بيني و بين ما أسمِّيه بـ "اللوبي الأمريكي في مصر" في عبارة واحدة هو:
يسعى الحر الفقير إلى أن تصبح مصر مثل الولايات المتحدة، و غير الولايات المتحدة من دول العالم أجمع ـ باستثناء عالمنا ـ أي دولة قومية ديموقراطية علمانية منتجة و ذلك على النقيض مما يعمل "اللوبي الأمريكي" في مصر بدأبٍ لا يُحسد عليه، كي يجعل مصر كما تريد الولايات المتحدة، و الأدق السياسات الأمريكية لها أن تكون: دولة غير قومية(=عربية-إسلامية) غير ديمقراطية غير علمانية غير منتجة، تعمل حكوماتها "الأمريكاوية" المتعاقبة، على قصر منتجاتها على خام البترول و الغاز الطبيعي حتى و لو أدى ذلك إلى إنهاء وجود مصر ذاتها كأكبر واحة منقولة في العالم. و لا أستطيع أن أتخيَّل لنا نحن "القوميين المصريين" نجاحاً، إلاّ إذا تمكَّنا من كسب تأييد العدو الأول للإستراتيجية الأمريكية الرسمية، و هو أوسع القطاعات من الشعب الأمريكي، بتراثه الإنساني و الديمقراطي و العلماني، أي النابذ للظلم الرافض للإستعباد، تماماً مثلما فعل و نجح الفيتناميون خلال النصف الثاني من القرن العشرين. على أن فشلنا في ذلك حتى الآن إنما يرجع بالدرجة الأولى إلى دور "الأصوليين الدينيين"، و أشباههم الذين يعملون بدأبٍ لا يُحسدون عليه في سبيل إبعاد هذا الهدف عن متناول أيدينا، عن طريق دفع "أصدقائنا" المحتملين بين الأمريكيين إلى الالتفاف حول قيادتهم المعادية لنا و لهم، و ذلك برفع رايات العداوة المُفرطة لما لا يتورعون عن رجمه جهراً و التمرغ في نعيمه سراً. و في خطٍ موازي(موازٍ)، و على نحو ما يلحق الأصوليون الدينيون الضرر الفادح بنا، فإنهم يُلحقون ضرراً مماثلاً بالشعب الأمريكي الذي تواجهه إدراته، و الحال هكذا، برفع بيارق ضرورة الحفاظ على"الأمن القومي" فوق "الحريات المدنية" المقررة سلفاً في إطار دستور ديمقراطي علماني انساني، تأسس على أفكار التنوير التي دعا إليها آباء الثورة الأمريكية المجيدة. و أظن أن دراستي لتاريخ الولايات المتحدة تمكنني من الحكم باطمئنان بأن ما يُسمى بـ "قسم الولاء"Pledge of Allegience، الصادر في سنة 1954 ، إنما جاء رداً على، لا استمراراً و لا تطويراً للدستور الأمريكي العظيم الصادر في 1778
أما إذا كنت أتفق أو أختلف كثيراً أو قليلاً مع من يرى في الولايات المتحدة: "أغنى و أقوى و أجرم دولة في العالم و التاريخ"، فإن أسبابي، في الحالتين مختلفة إلى هذا الحد أو ذاك عن الأسباب التي يسوقها "الأصوليون الدينيون" الذين يدمغونها بـ "الشيطان الرجيم". فبينما يبكي أولئك، على سبيل المثال، على "إسقاط" هذا "الشيطان" لنظام حكم "طالبان" أي تلاميذ معاهد "بيشاور" الدينية الإسلامية، و هو النظام الذي سيطر على الحكم في "كابول" لثلاث سنوات طويلة و مريرة، فإنني لا أنعي على "واشنطون" إسقاطها لهذا النظام العصو-وسيطي، بل تنظيرها و تدريبها و تمويلها و تسليحها سواء بصورة مباشرة أو عن طريق "أصدقائها" المحليين، لهؤلاء "الصبية المتحجرين" و اتخاذها سفارة عند حركتهم "طالبان" وهي لا تزال خارج نطاق الحكم في إقليم "بيشاور" الباكستاني المتاخم لأفغانستان، في سابقة لم تتكرر في تاريخ الدبلوماسية الدولية، و تنصيبها في نهاية المطاف لهؤلاء "الصبية المتوحشين" مطرح نظام الحكم "الأصولي الإسلامي"، هو الآخر، بقيادة "برهان الدين رباني"، و على نطاقٍ أوسع تبدأ جرائم الولايات المتحدة في رأيي من حرصها على تنصيب حكوماتٍ أقوى من شعوبها، و هو الأمر الشاذ البالغ الشذوذ، في علاقة الحكومات التاريخية مع شعوبها. و لعل شذوذه ذاك هو الذي يُفسِّر فشله الذريع في قارات كاملة، من بينها أوروبا(سقوط فاشيي "أتينا" في السبعينات نموذجاً) و أمريكا اللاتينية(سقوط ديكتاتورياتها العسكرية نماذج) و آسيا(سقوط فاشيي "سول" نموذجاً) و مع ذلك حقق نجاحاً هائلاً في حالاتٍ استثنائية على رأسها حالة مصر، و يبدو أن حجم ذلك النجاح تناسب بصورة مطردة، مع انهيار دولتها القومية.
أما موقفي من العرب فيقوم على الوقوف مع العرب ضد عروبتهم، و هذا نفس موقفي من سائر الساميين: معهم ضد ساميتهم، أي ضد شكلٍ محدد من أشكال وجودهم في سبيل هذا الوجود ذاته. و لعل هذا هو نفس الموقف الذي يتخذه أنبل أبناء أولئك الأقوام. و شرح ذلك موجود في طيات الكتاب الذي بين القارئ الكريم.
كارثة التعليم:
و هكذا انتهيت إلى هذه النتيجة: كارثة مصر في الوقت الحاضر ليست في أميتها، كما يزعم الخبراء الأمريكيون و من ورائهم في جوق مخزي(=مخزٍ) "المتعلمون المصريون" و بعبارة أخرى كارثة مصر ليست في "إتصالها" مع ثقافتها القومية، التي حملها التواتر جيلاً بعد جيل، منذ ما قبل التاريخ و حتى اليوم، بل في "تعليمها" أي في "إنقطاعها" عن هذه الثقافة القومية. و بمعنى آخر في "تعليم" أبناء مصر ثقافة عربية-سامية، و هو "تعليم" يضعه ـ حباً في سواد عيونهم ـ الخبراء الأمريكيون أنفسهم و ليس مجرد متدربيهم من "الأكاديميين" الذين يعودون إلينا سعداء، بشهادات الدكتوراة من الجامعات الأمريكية بصفة خاصة و الغربية بصفة عامة.
و إيضاحاً للأمر أقول أن التلميذة المصرية التي "تتعلَّم" في مدارس مصر، سواء المدنية أو الأزهرية، و على سبيل المثال، أن شعرها "عورة"، و يلزم أن تغطيه بـ "حجاب" ثم تتوغل في هذا "التعليم" و الأدق يتوغل هذا "التعليم" في عقلها و تقتنع بأن شعرها يقوم على نفس المستوى مع "يكرم اخواتي" و يلزم أن تحجبه بـ "حجاب" فـ "نقاب" فـ "سدال" ثم تتوغل أكثر و أكثر في هذا "التعليم" و توقن أن صوتها "عورة" ثم ظلها، فإذا وقع هذا الظل، صُدفة، على أحد المُصليين، بطُلت صلاته، هل تكون بتلك الانتقالات تغادر جهلاً كان كامناً في أميتها و ترتقي إلى مراتب أعلى من العلم خلال "تعليمها" أم أنها تفقد شيئاً فشيئاً في حقيقة الأمر درجة أو درجتين من "علمٍ" كانت قد اكتسبته من أميتها أي ثقافتها القومية التي وصلت إليها عن طريق التواتر أي شفهياً.
بنـت=ولــد:
و غني عن الذكر أن البنت في المجتمع المصري-المصري في الشمال و الجنوب و ما وراء الجنوب أي في سائر أرجاء "مصرودان"(=مصر+السودان)، و في عبارة أخرى في المجتمع الريفي الذي يكتسب علمه و معرفته عن العالم شفهياً، لا كتابياً، لا يزال يرى ـ رغم كل ما حدث من "تعليم" و الأدق من تخريب للثقافة القومية المصرية ـ في البنت إنساناً مثلها مثل الولد سواء بسواء و أمام العمل "إيد" تماماً كشقيقها، أي أن البنت في ثقافة المصريين-المصريين أي المصريين-الأفارقة ليست موضوعاً جنسياً و حسب، كما يريد لها "التعليم" الأمريكاني و الأدق "الأمريكاوي" أي الذي يستزرعه الخبراء الأمريكيون في مصر، دون الولايات المتحدة، أن تكون. و عندما يقول الفلاح المصري-المصري أي المصري-الأمي من المالح إلى الشلال و ما وراء الشلال لخولي الأنفار:
ـ عايزين عشرين "إيد" من صبحية ربنا لجني القطن ولاَّ شتل البطاطا و لاَّ زرع القصب إلخ
هنا لا يقصد هذا الفلاح غير المتعلم تعليماً من ذلك النوع الأمريكاوي من التعليم أن يكون العشرون "نفر"(=نفراً) ذكوراً أو إناثاً.
صحيح هناك تخصص في العمل في ريف مصر على أساس الجنوسةgender و لكن لا يوجد هناك حاجز فاصل بين الجنسين على هذا الأساس. فالسيدة المصرية تستطيع، إلى جانب الطبيخ و الخبيز، أن تحرث و أن تقصِّب و أن تبتن أي أن تقوم، إذا اقتضى الأمر، بكافة الأعمال التي يعتادها الرجال، دون أي استنكار، بل على العكس أي بدرجة عالية من الإكبار. و بالتالي فإنها تستطيع و الأدق "كانت" تستطيع أن تُغني و أن ترقص و أن تفكِّر بصورة مستقلة.
مصر بين ثقافتين:
و هذا في تصوري، هو الفرق أو المسافة بين الثقافة الرعوية-البدوية، سواء أكانت عربية أم عبرانية، و بين الثقافة الزراعية-المصرية الأرقى، و بعبارة أخرى نفس المسافة بين الإرتباطات التي تحملها كلمة "حرمة" أو "إمرأة" في اللغة العربية و "جيفرت" في اللغة العبرية من ناحية و بين كلمة "الست" في اللغة المصرية سواء القديمة أو الحديثة، من ناحية أخرى. فـ "الست" كانت في مصر إلهة معبودة و لم تنزل تماماً حتى الآن عن العرش الذي رفعتها إليه ثقافة المصريين.
و غني عن الذكر أن العبراني-السامي، الذي حسُنت ساميته يُصلي لإلهه على هذا النحو:
ـ أحمدك ربي لأنك لم تخلقني كافراً و لا إمرأة!
و لعلنا نعرف أن الجلادين في سجون العسكروت الحاكم في مصر يطلبون من ضحاياهم هذا الطلب:
ـ قول أنا مراة!
و ليس بحالٍ من الأحوال:
ـ قول أنا ست!
و السر كامن هنا في حمل الكلمة العربية لمجالها المغناطيسي: إرتباطاتها connotations في الثقافة العربية-السامية، التي تقبل المهانة والمذلة التي يريد جلادو "الانقلاب الأمريكي في مصر" فرضهما على ضحاياهم. فدونية المرأة ركنٌ أساسي من أركان ثقافة الساميين، في حين أن الكلمة المصرية الموازية تأبى ذلك كل الإباء. فلقد كانت المرأة في المجتمع المصري القديم الذي تحكمه ثقافة قومية محددة: ست و ملكة و إلاهة(=إلهة) معبودة، لم تعرف، بطبيعة الحال، لا حجاباً و لا خماراً و لا نقاباً و بكل تأكيد، و لا سدالاً أو "أحزمة عفة"Chastity belts، مثل تلك الأحزمة التي استمرت أوروبا تعرفها حتى غروب العصور الوسيطة. و هذه الثقافة القومية هي التي نقول ـ و لسوء حظنا نكاد ننفرد بهذا القول ـ بأنها لم تنتهي(=تنته) و لا ينبغي لها، حتى اليوم. و إذا سلَّمنا، جدلاً، بصحة القول بأنها انتهت، لتعيَّن علينا أن نعيدها من الموت إلى الحياة أي نبعثها. و لعلنا نذكر، على العكس من اتجاه الثقافة السامية، تعابير مصرية أصيلة من قبيل:
ـ ستك و تاج راسك!
ـ ست الدار
ـ ست ابوها...إلخ
و هنا أتصور أن يتفتق ذهن "متعلم مصري"، غيورٍ على "عروبته"، عن هذا السؤال: و ماذا عن كلمة "سيدة" العربية؟ ألا توازي "ست" المصرية؟
ردي هنا: لا وجود هناك لكلمة "سيدة" في صميم اللغة العربية، فلم ترد هذه الكلمة بمعناها الذي نعرفه لها اليوم في أي نص عربي عصو-وسيطي، سواء أكان مقدساً أو شبه مقدس أو غير مقدس، من "القرءان" إلى "الأحاديث النبوية" إلى "نهج البلاغة" إلى "الشعر الجاهلي". أما إذا كانت قد وردت فلعل نسبة ورودها كانت هزيلة إلى حدٍ مكَّنها من التسرَّب من ثقوب ذاكرتي. فهذه اللغة العربية تعرف كلمات من قبيل: "إمرأة" و "أمة" و "جارية" الخ أما كلمة "سيدة" و هي مؤنث "سيد" فيذهب ظني إلى أنه توليف قياسي حديث، كأن نقول "شخصة" التي لا تعرفها اللغة العربية، حسب معلوماتي و لو أنها هي الأخرى مؤنث "شخص". و أمثال هذه الكلمات المنتحلة على اللغة العربية كثيرة بينها "حسناً" التي يحاول بها المترجمون نقل معنى كلمة:Well الإنجليزية و كلمة "العفو" التي تحاول تترجيم الرد على عبارات الشكر، و لو أنني أعجز عن فهم أي صلة لـ "العفو"سواء بالشكر أو الرد عليه.
و المعروف أن اللهجات العربية الحديثة في المشرق، تلك التي تأخذ في التحرر شيئاً فشيئاً من أطر "الثقافة العربية-السامية" ـ أي تغادر اعتماد علاقة الدم التي تعتمد على التسلسل الأبويpatriarchal line (شجرة الأنساب نموذجاً) إلى اعتماد علاقة الوطن ـ و إلى جانب ذلك تتبنى موقفاً أكثر تقدماً تجاه المرأة تحت تأثير واضح للثقافة الأرقى في المنطقة تجد نفسها و قد استعارت كلمة "ست" من "اللمح" فالغنوة السورية المشهورة تقول:
ـ يا "ست" أديش الساعة؟
لو حامل ساعة ما سألت ك...إلخ
و قليلون، بكل تأكيد، من "المتعلمين المصريين" الذين سيقبلون مني هذا القول: اللغة المصرية، قديمة و حديثة، و بالتالي الثقافة المصرية ليست أرقى في هذه النقطة من الثقافة العربية-السامية و حسب بل و من الثقافة الأنجلو-أمريكية التي تسعى إلى تسيُّد ثقافات العالم بصفتها الثقافة الأرقى. و كثيرون منهم سيرمونني، بشكلٍ شبه مؤكد بالشوفينية لذلك. و أستمد دليلي على رقي الثقافة المصرية هنا من أن الكلمة الموازية لكلمة "الست" المصرية في اللغة الإنجليزية تقبل مثلما تفعل مقابلها المباشر في اللغة العربية-السامية حمل الحططان من الشـأن. و قاموسCollins Cobuild English Dictionary يقول أن تعبير You woman! يُمكن أن يكون جارحاًaggressive.
و هو الأمر الذي يأباه أي تعبير يستخدم كلمة "ست" المناظرة في المعنى في لسان المصريين.
و غني عن الذكر أن كلمة "امرأة" مستعارة إلى "اللمح" من اللغة العربية-السامية. و ليس أدل على ذلك من "قلقها" في "اللمح" حتى هذه اللحظة. و هذا قلق راجع إلى أنها لم تضرب بجذور عميقة في تربة البنية الدلالية لـ "اللمح". فالكلمة لا تعرف لها في "اللمح" لا تذكيراً و لا تصغيراً، و هو الأمر الذي تعرفه في لغتها الأصلية و اللهجات التي تطوَّرت عنها: "أمرؤ" و "مرية"(اللهجة الخليجية) على التوالي، هذا من ناحية أما من الناحية الأخرى فكلمة "ست" كلمة مصرية صميمة و الأدق حامية فهي عبارة عن مؤنث كلمة "سي" بمعنى "رجل/ جدع" بل و تعرفها الطبقات التحتية Substrata للغات الحامية بأسرها، و هذا هو السر في وجود كلمة "سي" في لهجات المغرب، و مصر جزء منه، عرقياً و ثقافياً و لغوياً، دون لهجات المشرق: سي عبد الرحمان، سي محمد إلخ.
أما كلمةLady في اللغة الأنجلو-أمريكية، فليست اسماً عاماً، يُوازي "ست" المصرية، الأصيلة، بل لقب أقتُصر حمله في الأصل على سيدات الطبقات المالكة أو الحاكمة (=الراقية) كالدوقة و الكونتيسة و البارونة إلخ، دون سائر النساء.
عن الكتاب الأمريكاوي:
و لقد نظرت فرأيت أن الكتاب المدرسي في مادة القراءة الذي وضعه الخبراء الأمريكيون بأيديهم، في مركز "تطوير المناهج" ـ و يالا ابتذال المصطلحات ـ دون أن يكتفوا بالإشارة لأتباعهم بوضعه، و يقبله منهم، بامتنان لا زيادة عليه "التربويون المصريون" لتلاميذ الصف الثالث الإعدادي لسنة 2001 أي للأطفال المصريين الذين يتراوح عمرهم بين 13و 14 سنة يتضمن هذا السؤال، ضمن ما يتضمن:
ـ ماهي عقوبة الكافر؟
و بطبيعة الحال لم يتوقع أي "متعلم مصري" بدءاً من حملة شهادة محو الأمية حتى شهادة الدكتوراة جواباً على هذا السؤال "الفائق العلمية" سوى أقصى العقوبات الممكنة: القتل(=الإعدام) أي Capital Punishment. و لكن هل يُدرك أيٌ منهم أن هذا السؤال "الجوهري" الذي لا يعرفه أي منهجٍ دراسي في العالم أجمع، فيما أظن، و لا ينقص تلاميذنا في هذه المرحلة العمرية سوى طرحه عليهم، و تلقينهم الإجابة الحاسمة و الصحيحة عليه يُمكن أن يمتد بقوته الذاتية على استقامته كي يشمل أيضاً الأموات، بمعنى أن يكون "الكافر" قد رحل عن دنيانا، مثل الفرعون العظيم "أحموسي ابن أمون" بطل تحرير مصر من احتلال الهكسوس؟ و بالتالي تسقط المتعة التي كان لواضع الكتاب الأمريكاوي لتلاميذ مصر و صبيه ناقص المصرية الذي يقبله منه دون تعليق عاتب على الأقل، أن يستشعراها نتيجة لإنزال تلك العقوبة التي تتجه البشرية خلال مسيرتها نحو المستقبل الوضاء، إلى نبذها من قاموسها، بالفرعون خالد الإسم طيب الذكر. و هل يبقى لواضع الكتاب و فارضه على العقل المصري منذ نضارته الأولى من عقوبة قُصوى لـ "ابن أمون" سوى أن يعود الهكسوس بعد طرده لهم إلى احتلال مصر؟
ثلث الأصوليين:
و الآن هل يحق لأحد أن يستغرب بعد ذلك هذه الحقيقة: خرج ثلث التنظيمات الإسلامية الراديكالية،(=الأصولية) و عددها 92 تنظيماً من مصر؟، و ذلك وفقاً لما يذكره "آر.إتش. ديكمجيان" في كتابه "تاريخ الحركات الإسلامية"، و نقلاً من جانبي عن مقال لـ "أ. المهدي" نشرته له صحيفة "الحياة" اللندنية ص 21 يوم الأربعاء 22ديسمبر/ كياك 1999.
و هل يحق لأحد أن يستعجب إذا ما اتخذ بنو إسرائيل أهرامات الجيزة الثلاثة شعاراً لإحدى محطاتهم الفضائية، طالما يتخذ "المصريون" شعاراً لهم يتوسط علمهم الرسمي، في ظل "تعليم" فاسد و "إعلام أفسد"، يصممه الأمريكيون لهم، نسر "صلاح الدين الأيوبي" الذي كتب إلى سيده الخليفة العباسي "المستنجد" في "بغداد" عقب النصر الذي أحرزه على "الفاطميين" يقول: "لقد قضيت على الدولة المصرية"؟
و بطبيعة الحال، كان الخبراء الأمريكيون، قد نجحوا في أوقاتٍ سابقة مع مطلع انقلاب يوم الأربعاء الأغبر في مصر، في "تطهير" الكتاب المدرسي لتلاميذ المرحلة الابتدائي (=الابتدائية) من قصص مثل "الإتحاد قوة" التي تحكي عن استعصاء حزمة أعواد القش، مجتمعة، على الكسر، مع قبوله من أعوادها، متى تعرَّضت له عوداً فعوداً. و "الحرية"، التي تحكي عن قطة فضَّلت الحرية على الخبز و أظنها كانت لأستاذنا "مصطفى لطفي المنفلوطي"، إن لم تخوني الذاكرة، و "الكنز" التي تقص عن رجل اقترب منه الأجل، فجمع أولاده و همس إليهم أنه خبأ لهم كنزاً في الغيط، فأخذوا يعزقون الأرض و يقلبون الثرى مرة بعد أخرى، فلم يجدوا شيئاًً، و لكن المحصول زاد في سنتها، فرسوا على أن هذه الزيادة هي الكنز المخبوء. و لست في مجال تقديم دراسة مستفيضة في هذا الشأن، و هو الأمر الذي كان من أوجب الواجبات بالنسبة أكاديميينا و تربويينا الأفاضل، لكنهم غفلوا عنه جميعاً، و دون استثناء و ذلك في نطاق علمي بطبيعة الحال، لأسبابٍ أشك كثيراً في وجاهتها.
إبادة ثقافية:
إذا قفز "متعلم مصري" إلى أنني إنما أدعو إلى نبذ التعليم و احتضان الأمية، كحل بديل لحلول عديدة لما نواجهه نحن المصريين المعاصرين، من كارثة باتت ُمحدقة، فإن سيادته يكون قد جانب الصواب. فالأصح أنني أدعو مع كبار التربويين العالميين، و بينهم العالم الأمريكي "مورين ميرفي" في حديث خاص لها معي، نشرت مجلة "أخبار الأدب" جزءاً منه، و حذفت الجزء الأكبر منه لأسبابٍ تخصها، في الأسبوع الأخير من أبيب/يوليو 1994 ، إلى أن نرسِّخ ما يعرفه الطفل أي ما "يكتسبه" عن ذويه قبل أن "نعلِّمه" ما لا يعرفه، و بعبارة أخرى ينبغي أن "نعلم" التلميذ المصري أن يكتب و أن يقرأ هذه الجملة "أنا مصري". أما إذا "علمناه"، مثلما تفعل الآن برامج محو الأمية في مصر، التي يشرف عليها الخبراء الأمريكيون، أيضاً، أن يكتب و أن يقرأ "أنا عربي"، فإننا لا نكون قد محونا أميته و حسب، بل و محونا شخصيته القومية أيضاً، و لا أعني بطبيعة الحال سوى القومية المصرية، أي أنزلنا به قدر الإبادة الثقافة Cultural genocide .
و إذا كانت تلك الإبادة تجري بأيدي "المتعلمين المصريين" بعد أن سلَّموا عقولهم مفروشة ـ كشقق حي "الزمالك" سواء بسواء ـ لكهنوت قصر همومه كلها على رجم جدودهم فراعنة مصر العظام بأحقر الصفات و أشنع الاتهامات، كي ينفردوا بين المتعلمين في أربعة أركان الدنيا بالترحيب و الانتشاء الدافقين بالاستراتيجيات الأجنبية بدءأ من تلك التي سعى و لا يزال يعمل الساميون عرباً و عبرانيين على تسييدها في مصر، فلن يكون في وسع المؤرخين أي يُشخِّصوا، في المستقبل ما حدث بصورة أسهل من قطع السكين في الزبدة للمصريين المعاصرين، تشخيصاً بعيداً عما يلي: {أمة عريقة أبادها "متعلموها" بدءاً بكهنتها مروراً بقساوستها و شيوخها وصولاً إلى أكاديمييها، و ذلك منذ اللحظة التي انخرطوا فيها في سلك الخدم و الحشم للبلاط الحاكم اعتباراً من الأسرة البطلمية و حتى اليوم. }!
و إيضاحاً للأمر أستعير في هذا الصدد تعبيراً على سبيل المجاز من هندسة البناء: ينبغي علينا أن نتخذ من "أميتنا" أي ما نكتسبه عن هذا الطريق غير الكتابي كـ "ميدة"groundsill نرص عليها مدماكاً فمدماكاً كافة العلوم و المعارف التي يجب أن يتضمنها كتاب مدرسي، يضعه تربويون مصريون كاملو المصرية كي يدرسه تلاميذنا في دور التعليم في بلادنا أما "تعليم" تلاميذنا-ضحايانا عوار الشعر و عقوبة الكفار على أيدي شيوخ الإسلام الجديد من الخبراء الأمريكان و صبيانهم من "الأكاديميين" نصف المصريين و بالتحديد "المصريين-الساميين"، فإنه أمر يصل إلى حد فرض "الانقطاع" على تلاميذنا عن جذورهم أي ثقافتهم القومية المصرية-الأفريقية كي نفرض عليهم الاتصال شبه المستحيل بجذور أخرى أي بالثقافة العربية-السامية، و هي بكل تأكيد ثقافة أدنى، و بالتحديد ثقافة عصو-وسيطية، "يفلفص" أبناؤها أنفسهم في سبيل تجاوزها و ينجح بعضهم في ذلك (الإشكناز الإسرائيليون نموذجاً) و يتابع بعض آخر "فلفصته"(الخليجيات التي تحاول خلع الحجاب/الخمار/النقاب/السدال. و قيادة السيارات إلخ نماذج).
و تأسيساً على حملة "الإبادة الثقافية" الموجهة ضد المصريين المعاصرين بصفتهم هذه أي "مصريين بثقافتهم القومية"، فإنني لا أملك سوى أن أطلب من أبناء أمتي المصرية، نفس ما طلبه المثقفون الألمان من أبناء أمتهم في سبعينات(=سبعينيات) القرن الثامن عشر، أي خلال الفترة التي كانت فيها الأمة الألمانية في طوْر التكوُّن:
ـ كونوا متحدين! Seid eining
و الأولى: اتحدوا بصفتكم مصريين-أفارقة!
و ليس لي في هذا المجال أي هدفٍ أبعد من مقاومة النجاح الساحق الذي حققته و تواصل تحقيقه الولايات المتحدة التي تمكَّنت من تسليط مجموعة من الصبية أو العسكروت، منذ فجر يوم الأربعاء المهبب، أثبتت الأيام اللاحقة أنهم أشد عداء و شراسة و خطورة على أمتهم المصرية، من جحافل الفرس و العرب و الترك و التتر و المغول مجتمعين، بعد أن مكَّنتهم "واشنطون" من عقد تحالف مع الكهنوت، و ساعدتهم على فرض نسقين فعالين في "تا-ميري" هما "التعليم" و "الإعلام"، اللذين يُخرِّجان و "يُنمِّطان" أعداداً هائلة و هائلة بشكلٍ مخيف لا تحتاجهم البلاد قدر ما تحتاج إليهم بإلحاح، الاستراتيجية الأنجلو-أمريكية، من "المصريين" المعادين لمصريتهم الأصيلة، ممن يستبسلون في سبيل تبني هوية مزعومة، هي هوية أعدائهم التاريخيين، كانوا و لا يزالون حتى هذه اللحظة، و الفاقدين لأي قدرة أو حرفة أو مهنة، أو لغة، أو قاعدة معرفية، و ذلك بطبيعة الحال، وفق المعايير المقبولة عالمياً، اللهم سوى مقدرة واحدة و فريدة: تكفير الآخر.
و انطلاقاً من هذه النتائج التي توصلت إليها بشكلٍ منفرد، خرجت منفرداً كي أدعو في سنة 1990 بدعوتي هذه في كتيب صغير حمل نفس عنوان الكتاب الحالي الذي بين يدي القارئ الكريم، دون العنوان الفرعي، و هو الكتيِّب الذي دخل عليه التعديل إثر التعديل و التطوير بعد التطوير و الإضافة عقب الإضافة حتى أصبح على ما هو الآن.
***
حمل الفصل الأول عنوان "إبراهيم سامياً":
و استندت فيه إلى الثقافة السائدة التي ترى أن "إبراهيم" عليه السلام هو أبو الأنبياء العبرانيين و العرب معاً. و أطلقت على "ديانة الساميين" حسب تعبير عالم البشريات "روبرتسون سميث" اسم الديانة الإبراهيمية التي انشعبت في أوقاتٍ لاحقة إلى ثلاث شعب هي الموسوية و المسيحية و المحمدية. و كان موقف هذه الشعب الثلاثة لهذه الديانة من القومية المصرية و كافة رموزها الثقافية و عاداتها و تقاليدها بدءاً من نصب الموالد و التبرك بالأسلاف و زيارة قبورالأحبة العزاز ...إلخ هو دافعي الأول إلى جمعها تحت عنوانٍ واحد.
و شال الفصل الثاني عنوان "موسى منتصراً":
و تناولت فيه شخصية "موسى" عليه السلام كما تلوح في الثقافة السائدة في مصر. و انتهيت فيه إلى أن "موسى" إنما هو رمز قومي لبني إسرائيل، و الرمز القومي هو "الشخصية التي تتجسد فيها القيم الثقافية، أياً كانت، الأكثر أهمية لأي جماعة من الجماعات البشرية"، حسب "آن إيريكسون" في كتابها "تصنيع الأبطال"La fabrique des Heroes. p.150,Paris,1998 و لما كانت الرموز القومية لا تنشأ و لا تترعرع في فراغ، و تحتاج دائماً إلى خصم مناظر، فلقد اختار بنو إسرائيل و من ورائهم كافة الساميين، على وجه الترجيح، "فرعون" عليه الحرب كي يقف رمزاً للمصريين الذين يناصبونهم عداء تاريخياً. و كل ثناء، يصب باتجاه الرمز يصب في نفس الوقت باتجاه المرموز إليه. و على نفس النول نجد أن كل هجاء يستهدف أي رمز يستهدف في نفس الوقت المرموز إليه. فكل ثناء على "موسى" عليه السلام ينتهي عند قدمي العبرانيين بصفة خاصة و الساميين بصفة عامة. و كل هجاء يستهدف "فرعون" عليه الحرب يتدفَّق حمماً نفس الوقت على المصريين-الأفارقة. و لم يكن هماً من همومي هنا أن أبحث في مدى "تاريخية" أي شخصية سامية، طالما تربَّعت على ذلك النحو على قمة الثقافة السائدة في مصر و المنطقة المحيطة.
و ظهر الفصل الثالث تحت عنوان ("الله" -لفظ الجلالة-عربياً):
و خلصت فيه إلى أن "الله" هو لفظ الجلالة الذي تعرفه اللغة العربية "الفصحى" للإله الواحد الأحد الذي تعرفه لغاتٌ أخرى عديدة أي أنه يوازي Dios عند الأسبان و Dieu عند الفرنسيين بل و "خدا" عند الإيرانيين المعاصرين، و هم حسنو الإسلام صحيحوه. و تراهم يترجمون البسملة إلى لغتهم الإيرانية على هذا النحو:
{بنام "خدا"باخشوانده مهربان}
و لا يجرؤ أحد على التشكيك في إيمانهم بالرسالة المحمدية لاستمرارهم على هذا النحو في استخدام اسم الإلاه "الوثني" في لغتهم القومية العريقة نظير اسم الإلاه الواحد الأحد الذي بشّرت به الديانة المحمدية خلال اللغة العربية.
و أذكر أنني أبديت هذه الملاحظة لـ "متعلم مصري" كبير يسبِّق باستمرار اسمه بـ د.، هو "ع. طنطاوي". و "يساري" مخضرم و إخصائي في الصحة النفسية و يملأ إمضاؤه الدوريات في مصر و المنطقة المحيطة:
"بكل فاعل نرفعه و كل مفعول ننصبه و كل مضافٍ نجره نساهم في ترسيخ وجود اسم إلاه العرب-الساميين في مصر، يعني بنمحي سمة من سمات الشخصية القومية للمصريين المعاصرين، و بالتالي نخطِّي بهم خطوة يم العصور الوسيطة"
فما كان من سيادته إلاَّ أن رد ـ يسلم تمه ـ على رأي أبناء العمومة:
ـ "بلاش المبالغات دي اللي بتحاول تفرض تصورات ذاتية على واقع مادي جدلي تحكمه قوانين موضوعية...إلخ"
و كان ما حدث لحظتها أنني بحثت عن لسانٍ لي فلم أجد.
و حضر الفصل الرابع تحت عنوان (مصر رهن الهزيمة):
و في هذا الفصل أشرت إلى أن مصر بدأت تدفع الجزية للأجانب بشكلٍ منتظم للفرس في أعقاب الهزيمة المريرة التي حاقت بها أمام جحافل الفرس، تحت إمرة الفاتح الأسيوي "كمبيز ابن كورش" عليه التحيات الزكيات ـ حتى يبتهج "المتعلمون المصريون" الذين يرفعون اسمه "الغالي" على أحد شوارع عاصمتهم ـ في سنة 525 ق.ع.م. لكن التغير الخطير هو الذي بدأ مع وصول اليونانيين من جنوب أوروبا ثم العرب من غرب آسيا. فعبر اليونانيين، و خلال السيطرة السياسية للرومان، جاءت الشعبة الثانية للديانة الإبراهيمية: المسيحية التي يُجمع علماء المصريات على أنها قضت على الحضارة/الثقافة المصرية. و لكنني رسمت حداً فاصلاً بين الديانة المسيحية و بين المصريين المسيحيين الذين ظلوا، رغم كل شيئ، مصريين. و في عبارة سير "والس بادج"، غير الودودة، ربما بسبب تحيزاته المسيحية المسبقة، فيما يبدو:
" لم يستطع العقل المصري أبداً و المسيحيون المصريون أو الأقباط كما يُعرفون عادة، و هم الأحفاد العرقيون المنحدرون من المصريين القدماء، أن يتخلصوا من الخراريف و المفاهيم الأسطورية الغريبة التي ورثوها عن أسلافهم الوثنيين."
و يُضيف:
"تجدر الإشارة إلى أن مترجمي "العهد الجديد" إلى اللغة القبطية نقلوا كلمة "هاديس"adhz اليونانية إلى Amen]، و هو نفس الإسم الذي كان المصريون القدماء(أي الوثنيون) يُطلقونه على مثوى البشر بعد الموت"
(مقدمة ترجمته لـ "كتاب الموتى" صxviii)
و واضح أن ما يستهجنه فينا السير "بادج" هو "الإتصال" مع جذورنا، و ما كان ليستملحه هو "الإنقطاع" عن هذه الجذور جملة و تفصيلاً.
و جاء الفصل الخامس تحت عنوان("متعلمون مصريون"): و فيه عرضت لما يتلقاه "المتعلمون المصريون" في إطار نسق التعليم في مصر، أو ما يزعم البلاط العسكري الحاكم و أسيادهم أنه كذلك، بدءاً من تبني هذا "التعليم" ـ بقوسين عريضين بهدف التحفظ ـ وصف الغزاة لغزوهم لأرض "إيزيس" بأنه "فتح" و كأن المصريين هم الذين "فتحوا" ـ على حد وصفهم غير الموضوعي ـ أنفسهم بأنفسهم في أواسط القرن السابع من عصرنا المعروف!
و كان الفصل السادس تحت عنوان (مصر رهن الهزيمة):
و في هذا الفصل انتهيت إلى أن الأميين في مصر أكثر "اتصالاً" من "المتعلمين المصريين" عبر التواتر، الذي عمَّق تأثيره "تبجيل الجيل الأصغر للأجيال الأكبر" أي تسلَّم مجمل التراث المصري من جيل أقدم لنقله لجيلٍ أحدث. فالإحترام، و هو جوهر التبجيل، شرط ضروري للتأثر و التعلم و السير على النهج، بإحدى إن لم نقل، أعظم حضارة عرفها الشرق الأوسط القديم، و بتعبيري الأثير: أفريقيا المتوسطية أي الحضارة المصرية القديمة. و هذه بديهية مضطهَدة(بفتح الهاء) من جانب هؤلاء "المتعلمين المصريين" الذين يرسخ في عقلهم المزيف أنهم "أرقى" من أمييهم! و هذا أمر مفهوم و إن لم يكن مقبولاً طالما يفرض عليهم "التعليم" في مصر أن ينقطعوا عن جذورهم أي أن يجهلوها كي يحاولوا تبني جذور أعدائهم التاريخيين. و ضربت مثالاً على ذلك بالتوقيت المصري القديم: التوقيت الشمسي و الأدق النجمي الذي يرتبط بالبنية الزراعية المتقدمة لمصر و يبدأ بشهر "توت". و كان بمثابة إحدى الهدايا التي أهدتها مصر للبشرية جمعاء. و مع ذلك فهو التوقيت الذي يجاهد "التعليم" و من ورائه "الإعلام" في مصر في فرض نسيانه كي يرغم ضحاياه على تبني أحد توقيتين: الإفرنجي أو العربي ـ و لنصمت عما يُسمى بالتوقيت الأبوقطي الآن ـ و كلاهما أجنبيان عن مصر و وادي النيل، و إن امتاز الأول بأنه شمسي/نجمي، أما الآخر فتوقيت قمري شرع أصحابه أنفسهم في التخلي عنه.
و جاء الفصل السابع تحت عنوان (اثريون و لغويون):
و فيه عرضت لموقف شريحتين من "الأكاديميين" في مصر. و الحقيقة أننا نستطيع أن نعرِّف "الأكاديمي" عندنا بأنه ذلك الشخص الذي لا يجهل جهلاً مخجلاً الأسس الأولى لكافة العلوم و الفنون و المعارف العامة التي تقع خارج نطاق تخصصه و حسب، بحيث يصعب على المرء أن يفرِّق بينه و بين أي "سبَّاك" أو "سمَّاك" محترميْن، متى خرج عن نطاق تخصصه، بل و يجهل كذلك أبجديات تخصصه ذاته أو على الأقل هذا ما لمسه "الحر الفقير" فيما يتعلق الأمر بالعلوم الإنسانية التي نتصل بدراستها بعض الاتصال. و مع ذلك يصر هذا الأكاديمي باستمرار على تسبيق اسمه بـ د.، تمهيداً للإفتاء في كافة المجالات باطمئنان راسخ إلى أن جميع مستمعيه و قارئيه، أقل علماً من سيادته. فيكون د.في النقد الأدبي و يُقدِّم كتاباً يزعم كاتبه ـ و هو د. أيضاً و لكن في "تقنيات التغليف" ـ أنه في المصريات. في حين أنه لم يكتب ـ و لم يترجم ـ كتاباً في تخصصه الأصلي أي النقد الأدبي. و بطبيعة الحال لا يملك سوى أن يكتب سيادته بضع عبارات لا تتمتع إلاَّ بالصحة النحوية و البراعة البلاغية في الموضوع الذي يتطرق إليه. و يكون سيادته د. في علم النفس و يصول و يجول في اللغويات في حين أن سيادته لا يفقه إلى البديهيات الأولى في العلمين على حدٍ سواء. و يكون سيادته جراحاً و يفتي في "اللغويات" بأن العالم أجمع انتهى من حدوتة "الفصحى" و "العامية". و بطبيعة الحال هذا ليس صحيحاً و حتى إذا كان صحيحاً فما معناه؟ هل نتناسى أي نقفز على مشكلة عويصة لا تزال آخذة برقابنا حتى نلحق بذلك العالم الذي لا يملك وجوداً إلاَّ في رأس سيادته. و يكون سيادته متخصصاً في الإقتصاد، و ينخرط في النقد الأدبي و يتزى بزي "المعارض" الأشوس، فيصدر الأحكام المجانية على الرواية في مصر منذ سنة 1988 و يوسع اهتماماته حتى تشمل مجالات أوسع فيصف "العلمانيين" في مصر بالتطرف بينما يحتفظ لـ "الأصوليين" بمكانٍ فسيح تحت مظلة حقوق الإنسان، و خصوصاً حق التعبير. أما قراره الأساسي فهو شن الحرب ، غير عابئ بلوم منصف نبيه أو مخلص نزيه، أو "زمزأة" من جانب رؤسائه في "الجامعة الأمريكية" التي يعمل بها ضد ما يُسميه بـ "التغريب".
و على هذا النحو يأتي "جهاد" "الأكاديميين" في مصر في سبيل صوغ الأفكار البالية التي تتمسك(=تستمسك) بها الثقافة السائدة و تتردد حتى على المنابر و خلال برامج الإذاعة و التليفزيون و دردشات القهاوي(=المقاهي) في ألفاظٍ جديدة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
و أذكر في هذا الصدد أنني ألقيت محاضرة عن مقدرة و فصاحة اللغة المصري الحديثة "اللمح" دون عجزها الذي يزعمه عنها "المتعلمون المصريون" ـ و ياللعجب ـ في منتدى ثقافي بمقر حزب سياسي عروبيَّ التوجُّه، يزعم الانتماء إلى اليسار. و لم أكد أفرغ حتى انبرى لي شاب يتدفق حماساً جزء كبير منه ديني، عرفت فيما بعد أنه د.في اللغة العبرية في إحدى الجامعات الاقليمية، كي يقول:
ـ الكلام دا خطير!
و كان أن رددت عليه من فوري:
ـ الكلام بيتحاكم أول ما يتحاكم من زاوية ي خطؤه ي صوابه.
و لكنه واصل حماسه المتدفق من الصالة، دون أن يبدو عليه سماع حرف واحد مني، و دون أن يفطن إلى أنه يُعبِّر عن نفسه، و لا يستطيع إلاَّ أن يُعبِّر عنها، بطلاقة سوى باللغة التي يرمي الحديث عن مقدرتها و فصاحتها بالخطورة كي يقول:
ـ الكلام دا ح يأدي في نهاية المطاف لـ "هدم" اللغة الفصحى!
و هكذا عادت، في تلك الليلة، حكمة التاريخ، تلك التي أفصح عنها العالم العظيم "سيجموند فرويد" كي تُطل برأسها: "الحضارة تجاوز لقاعدة اللذة". و معنى القول أن الجريمة التي ارتكبتها "الثورة البلشفية" في روسيا بالقضاء على أرستقراطية الروس في الربع الأول من القرن العشرين، عاد "انقلاب يوليو الأمريكي"، و هذا تعبير أدق، لارتكابها ضد أرستقراطية المصريين، بتأييد متدفق من قطاعاتٍ واسعة من شتى ألوان الطيف من "المتعلمين المصريين"، أياً كانت الأسماء و الصفات السلبية التي أنزلها بهذه الأرستقراطية، التي لم نكن نملك سواها، أولئك "المتعلمون المصريون" الذي تعجز اللغة عن مدِّي بوصفٍ يستحقونه، بدءاً بما يسمون بالماركسيين. فحجم الهرم الأكبر و الحضارة المصرية القديمة ككل، إنما يتوازى مع حجم الشبع المادي و الروحي الذي توفَّر في تلك العصور في مصر، أي مع الثروة التي استطاع المجتمع المصري الزراعي القديم أن (1) يراكمها و أن (2) يضع مقدراتها في أيدي طبقة مصرية قومية سائدة. فالجياع إلى غريزتيْ حفظ الذات و حفظ النوع، لا يستطيعون أن يبدعوا أعمالاً تتجاوز زمنهم و مكانهم. و يحق لنا نحن المصريين أو "الجالية المصرية" في مصر ـ حالياً ـ أن نندم أشد الندم. فبعد أن قضينا أو سمحنا بالقضاء على أرستقراطيتنا التي كانت قضيتها عقلها و وجدانها، لم يتبقى(=يتبق) سوى "متعلمين" قضيتهم لا تتعدى معدتهم و "يكرم اخواتي"، يقف على رأسهم "أكاديميون" من أمثال ذلك الشاب الذي يتدفق حماساً في دفاعه عن أفكارٍ سائدة أي أنها ليست من صنع سيادته، بل يقف لها سادناً مع رهطٍ كبير من أمثاله و حسب.
و لقد وقفت في هذا الفصل على وجه الخصوص، موقف النقد أمام يقين مدرسي المصريات في جامعات مصر بأن اللغة المصرية القديمة لغة سامية، و إيمان مدرسي اللغويات في نفس الجامعات بأن اللغة التي يتحدثها المصريون اليوم "لهجة" من لهجات العربية "الفصحى" أو "عامية" لها.
و لاح الفصل الثامن تحت عنوان (بين العامية و الفصحى):
و أفردته لمناقشة مقالين أحدهما لـ د.غير متخصص في اللغويات بل في الفلسفة و الآخر لـ د. متخصص في هذا الفرع من فروع العلوم الإنسانية. و الغريب أن كليهما انتهيا إلى نتيجة واحدة، لم تبعد شعرة عن رواسخ الثقافة السائدة. فقال الأول أن "العامية" هي "لغة الظلام" و أكد الآخر أن ("العامية" قاصرة عن التعبير عن الأمور الثقافية و الفكرية و الفلسفية). و أوضحت أن ما ترميه الثقافة السائدة بأنه "عامية" هو في حقيقة الأمر تطوُّر دخل على لغة قديمة حسب القوانين التي تحكم صيرورة اللغات البشرية جمعاء.
و قبل الفصل التاسع عنوان (نحو أبجدية جديدة):
وفيه وجهت نقداً مفصَّلاً لطريقة كتابة "اللمح" بالحروف العربية النبطية الأصل. و هدفت من وراء هذا النقد إلى الدعوة إلى وضع أبجدية جديدة لكتابة اللغة القومية للمصريين المعاصرين، على النقيض مما هدف إليه طه حسين و عبد العزيز فهمي و عثمان صبري و سلامة موسى و غيرهم الذين سعوا إلى وضع أبجدية جديدة لكتابة اللغة العربية "الفصحى".
و أطل الفصل العاشر تحت عنوان (لويس عوض:ننقده لا نصادره):
و في هذا الفصل دافعت دفاعاً حاراً عن حق "لويس عوض" في أن يبحث ما شاء له البحث في كتابه المُصادر ـ وقت ذاك ـ و هو "مقدمة في فقه اللغة العربية". ثم وجهَّت نقداً علمياً لغوياً بدءاً من العنوان و اختتاماً بالنتائج التي انتهى إليها، مروراً بمنهجه ذاته. و لقد رفضت منه على وجه الخصوص، أن يقبل من الثقافة السائدة القول بأن اللغة القومية للمصريين المعاصرين كانت أو أصبحت اللغة العربية.
وارتدى الفصل الحادي عشر هذا العنوان (حول اللغة المصري الحديثة):
و فيه عرضت بتوسع أكبر، ليقين مدرسي الآثار في جامعات مصر بأن اللغة المصرية القديمة تنتمي للفرع السامي من العائلة اللغوية المعروفة باسم "الحامية-السامية" ثم لإيمان مدرسي اللغويات في نفس الجامعات بأن اللغة التي يتحدَّث بها المصريون المعاصرون "لهجة" أو "عامية" في علاقتها مع اللغة العربية-السامية. واستندت إلى أستاذنا "إبراهيم أنيس" في رفض وجود صلة بين اللاحقة "ش" و بين "شيئ" العربية في بناء "النفي" فيما سمَّاه(= أسماه) باللهجة المصرية، و هو الوهم الذي لا يزال "المتعلمون المصريون" يتمسكون به باصرار و يرددونه باستمرار، يبعثان على الحيرة حتى اليوم. و لكنني رفضت منه أن يبحث عن أصل هذا "الشين" في العبرية بعد الفشل في العثور عليه في العربية. و انتهيت إلى أن هذا الأصل موجود و حسب في المرحلة القبطية على الأقل من اللغة المصرية القديمة "اللمق".
و أخذ الفصل الفصل الثاني عشر عنوان (رداً على "جغرافية التوراة"):
و تناولت فيه ما كنت لأهتم له أو أحفل به لو لم يُقدم له أستاذ دكتور في الآثار. و الكتاب و هو "جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة" لم يستند إلاَّ على مراجع عربية من طراز "الطبري" و "المسعودي" و "ابن الجوزي" عن الفراعنة أو المصريين القدماء. و هذه كتابات خطها أصحابها قبل أن تسلِّم الحضارة المصرية القديمة مفاتيح كنوزها للعلماء الغربيين بدءاً من "توماس يونج" و "جان-فرانسوا شامبيليون". لكن سيادته اعتمد عليها وحدها، و كأن العالم الخارجي غير موجود بالنسبة له، في محاولة نفي ما استقر عليه علم المصريات. و استشفع الكاتب في هذا النفي بالهدف "النبيل" الذي توخاه و أقره عليه سيادة الدكتور الأكاديمي الذي قدم للكتاب: إقناع قارئه بأن المصريين عرب ساميون. و بطبيعة الحال توقفت أمام الموضوع و كذلك أمام الهدف "النبيل" ذاك.
أما عنوان الفصل الثالث عشر فلم يخرج عن(المصريون بين الشوفينية و الدونية):
و عرضت فيه لتهمة طالما لوَّح بها في وجهي "متعلمون مصريون" عديدون. و أقمت دليلاً أراه قوياً على أن "المتعلمين المصريين" لا يُعانون من الشوفينية بل على العكس من الدونية. و صككت مصطلحاً جديداً تماماً هو "معاداة-المصرية"Anti-Egyptianism ، و هو مصطلح يتناص مع مصطلح آخر هو "معاداة-السامية"Anti-Semitism. لكن المحزن في الأمر أن العداء للمصرية ينبع من داخل أبناء مصر أنفسهم، و ذلك على النقيض من العداء للساميين و الأدق لليهود، الذي يستهدفهم من خارجهم.
و كان الفصل الرابع عشر(3 دفاعات عن "اللمح"):
و فيه عالجت التهم-البديهيات الثلاثة(=الثلاث) التي يوجهها "المتعلمون المصريون" وراء الخبراء الأنجلو-أمريكيين للغة المصريين المعاصرين:
(1) "اللمح" عامية.
(2) "اللمح" لهجة.
(3) "اللمح" سوف تُؤدي، لا محالة، إلى تمزيق المنطقة التي أطلق عليها الخبراء البريطان "العالم العربي" و ورثها عنهم الخبراء الأمريكان كي يُطلقوا عليها "العالم الإسلامي" بعد توسيعها قليلاً.
و استندت إلى معرفتي المتواضعة باللغويات من ناحية و الأشد تواضعاً بالمصريات من ناحية أخرى، في نفي التهم الثلاثة(=الثلاث) أي تمزيق البديهيات التي تتأسس عليها.
و لم يتردد الفصل الخامس عشر في الظهور تحت عنوان(مأساة اللغة القبطية في مصر):
و فيه توقفت أمام مأساة مضلعة تعيشها المرحلة الثالثة من تطور اللغة المصرية بين "المتعلمين المصريين". فقسم منهم يجهلها حجري الجهل و قسم آخر لا يرى فيها سوى وعاء لشعائره الدينية. و أشرت في طيَّات هذا الفصل إلى أنه مما يُورث الهم و يثقل القلب معاً أن يقوم نظير هذا الجهل و ذلك الفهم السيئ في أرضها التاريخية: مصر، علم و معرفة عميقان و اهتمام و احتفال عظيمان بهذه اللغة ذاتها في سائر أرجاء العالم. و يتضح ذلك أكثر ما يتضح في طبع و نشر قاموس "كرام"Crum الذي يُعد عمدة اللغة القبطية في المدن و العواصم التالية:
"أكسفورد ـ لندن ـ جلاسجو ـ تورونتو ـ ملبورن ـ ويلنجتون ـ كوالالومبور ـ سنغافورة ـ جاكرتا ـ هونج-كونج ـ دلهي ـ بومباي ـ كلكتا ـ مدراس ـ كراتشي ـ نيروبي ـ دار السلام ـ كيب-تاون"
أي دون العاصمة الأم لهذه اللغة!!!
و ختمت بالفصل السادس عشر و هو بعنوان(حفاير لغوية تحت تعابير مصرية):
و فيه استندت إلى قانون أسميه "قانون الإحلال و الإبدال"، في الكشف عما يبدو عربياًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً و هو في حقيقته مصري، مثل تعبير Idiom "بالدراع" في الاستعمال الذي يقول: "عايش بالدراع"، و هو ما يعني "عايش باستخدام قوته". و السؤال الذي يفرض نفسه لماذا اكتسبت كلمة "الدراع" هذا المعنى على ألسنة المصريين، في حين أن المعنى باللغة العربية لا يدل و لا يُمكن أن يدل على "القوة"؟ فإذا قلنا "فلان يعيش بالذراع" لما حصلنا، بالمرة، على المعنى الذي نحصل عليه من التعبير المصري، ونفس الأمر ينطبق على تعبير "قمر 14" إلخ. و هنا لا نجد مهرباً من التوصل إلى أن المصريين، و إن استعاروا هذه الكلمة أو تلك أو هذه العبارة أو تلك من اللغة العربية-السامية الوافدة إلاَّ أنهم أترعوها بمعنى أحلُّوا فيها معانى و ارتباطات و ظلال مصرية، و هذه ليست "إنحرافاتٍ" عن ثقافة/ لغة وافدة من غرب آسيا/بل امتداداً للثقافة/اللغة القومية للمصريين، و هو الأمر الذي أبدلها عن نظيرتها المعروفة في شبه جزيرة العرب.
و لسوف يُلاحظ القارئ الكريم أنني أضع مصطلح "المتعلمين المصريين" بصفة عامة و شبيهاته بين قوسين على امتداد الكتاب، و هو الأمر الذي ألجأ إليه منذ سنة 1990 أي منذ طبعته الأولى، في دلالة واضحة على تحفظي على المصطلح، إذ أن المجتمع المصري بات و أصبح يفتقر أو يكاد إلى "جالية أكاديمية" Academic Community . و حمداً للسماء أننا عشنا حتى صدر تقرير جامعة "شانغهاي" الصينية، و هو التقرير الذي ما كان ليصدر عن أي جامعة غربية، لأسباب ليست خافية تماماً، ذلك التقرير الذي صدر في السنة الماضية و قبل الماضية كي يُخرج جامعات مصر ـ و دع عنك جامعات ما يُسمى بـ "العالم العربي" ـ خارج نطاق الجامعات الخمسمائة الأولى على نطاق جامعات العالم، بل و جاء ترتيب جامعات مصر، رقم خمسة آلاف على هذا النطاق، في حين طلع لإسرائيل سبع جامعات و لـ "موزمببيق" جامعة ضمن الجامعات الخمسمائة الأولى على نطاق جامعات العالم. و لهذا الأمر طعم العلقم، إلاَّ أنه يعزز ما سبق لنا أن زعمناه قبل18سنة.
و في هذه الطبعة و هي الرابعة، أضفت فصلين جديدين، هما:
1 ـ {الفرق/الفروق بين "اللمح" و "اللعق"} و الفصل عبارة عن نص المحاضرة التي ألقيتها أمام "جمعية الحوار الإنساني"، و أعدت إلقاءها بدعوة من أقباط متحدون"Unitedcopts في "برمنجهام" بانجلترا، و فيها توقفت بشكلٍٍ خاص عند فرق جوهري بين اللغتين. فـ"اللمح" تحليلية و "اللعق" تركيبية. و اللغات التحليلية هي التي تعمل بموجب ترتيب الكلمات في سبيل تحديد وظيفة الكلمة في الجملة أو المنطوق، أما اللغات التركيبية فتدخل تغييراً ما على الكلمة، في سبيل نفس الهدف، و هو تحديد وظيفة الكلمة في الجملة/المنطوق.
2 ـ {"اللمح" هي اللغة القومية للمصريين المعاصرين}، و الفصل عبارة عن نص المحاضرة التي ألقيتها أمام جمعية {"تحوتي" للدراسات المصرية} في قصر التذوق بالاسكندرية. و خلال المحاضرة توقفت ما شاء لي الوقت أمام الفرع المعروف باسم "اللغويات السيكولوجي"، و هو الفرع الذي يقع فيه موضوع المحاضرة، التي انتهيت معها إلى أن "الللغة المصري الحديثة" هي اللغة الأم بالنسبة للمصريين المعاصريين بمعنى لغتهم القومية، و ليست "اللعق"(=اللغة العربية القديمة)، كما يزعم ذلك الخبراء الأنجلو-أمريكان، و ورائهم في جوق سعيد، أكاديميونا، و وعاظنا و شيوخنا الأفاضل.
ملحوظة:
اهتديت إلى مصطلح يُحدد موقعنا على خريطة العالم، عوضاً عن المصطلحات الأجنبية، التي نلهث وراءها فور صدورها عنهم، و هو تحديد أدق قليلاً، و أنزه كثيراً أقصد: "أفريقيا المتوسطية"،L'Afrique Mediterranée، إزاء أفريقيا الاستوائية و أفريقيا الجنوبية إلخ. و ها أنا أسوقه في هذا الكتاب على سبيل الاقتراح، ليس إلاَّ.
Bayoumi Kandi
Mobile 0126215181