شهامة
لولا أنها خطت تلك الخطوة الذهبية نحوي، لكان عسكري الداورية الذي انشقت الأرض و قذفته قد اقتادني إلى "المركز"، و ما أدراك ما هو "المركز"! كنت أسير في تلك الساعة المبكرة من الصباح في طريقي، قبل التوجه إلى مدرستي، نحو ترعة "الحشاشة" التي تنام كقطة خضراء الفرو شرقي مدينة "منوف" كي ألقي عليها نظرة تنعش حواسي و فؤادي في نفس الوقت كبندري مستجد لا يزال يوحشه المدى الريفي. و قبل أن يأخذني الطريق إلى الإنحناءة التي تقود إلى غايتي لمحت شبح صبية رشيقة قادمة نحوي من "الشارع الجديد" عبر مزلقان السكة الحديد. لم أستطع تبين ملامحها جيداً من جراء الشبورة التي تلفها. و يبدو أنها كانت مشغولة أيضا بشيئ ما جعلها تسير عدة خطوات وهي تتطلع إلى الوراء. و هنا خطرت لي فكرة: ألا أدع فرصة الإصطدام الذي يبدو عفوياً تفلت مني. و عندما اقتربت عرفتها و لكيلا أكون مبالغاً عرفت أنها واحدة منهن. فلقد كن ثلاث أخوات، إما أنهن توائم و إما أن الفارق بينهن ليس أكثر من سنة واحدة. و كنا كلنا، أقصد ولاد الحتة(=الحي) نعرف أسماءهن: "منى" و "هدى" و "راشيل". لكننا لا نعرف كيف نميزهن الواحدة عن أختها. إلا أنهن كن أجمل بنات الحتة و سائر أحياء عاصمتنا الإقليمية "منوف" التي كنت قد انتقلت إليها قبل قليل من قريتنا "كفر سرس الليان"، كي أقيم مع أسرة عمتي "صابحة" للإلتحاق بمدرسة "منوف" الثانوية. و كنا، نحن الطلبة، نعرفهن من وقفتهن مع والدتهن و والدهن و قد انهمكن في تحضير ساندوتشات الجبنة الدمياطي و الحلاوة الطحينية و البيض المقلي و خلافه، في الدكان الوحيد على وجه التقريب الذي كان يغلف الساندويتش في راقين: ورق قش رز تحت ورقة عادية أخرى، فيما كان البياعون الآخرون يكتفون، إذا رأوا أصلاً، أي ضرورة للتغليف، بالورقة العادية التي قد لا تزيد في غالب الأحيان عن ورقة جورنال قديم. و لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد لتفضيلنا، نحن الطلبة هذا الدكان على سائر الدكاكين بجوار مدرستنا "الأميري" الثانوية أو مدرسة "الدفراوي بك" نسبة إلى صاحبها و مؤجرها لوزارة التعليم. و لكنه كان بالتأكيد أحد الأسباب الذي ألزمنا الصمت المشوب بالأسى و الرعب في نفس الوقت، عندما تركنا هذا الدكان مفتوحاً أحد أيام الخميس مثل غيره من الدكاكين كي نجده صباح السبت التالي مغلقاً بالشمع الأحمر. و لما عرفنا سبب الإغلاق طارت منا كل الأحلام السعيدة التي حلمناها و نحن نتأملهن، أثناء انكبابهن على عملهن كأنهن يعزفن، مع والدتهن و والدهن، لحناً متناغماً بالسكاكين الرفيعة، بل ماتت كل القفشات التي كانت تتفجر بيننا همساً حول لحظة الخلق الأولى: خلقنا و خلقهن. و مع طول ما وقفنا في حضرتهن، سواء أكنا نشتري شيئاً أو لا نشتري، لم يستطع أي منا رؤية لون عيونهن، فلم يكن عندهن وقت كي يرفعن رؤوسهن عما في أيديهن.
لست أذكر ماذا قالت، إن كانت قد قالت شيئاً. لكنني فوجئت بها تصرخ عالياً في وجهي، و هو الصراخ الذي لبَّشني كأنها ألقت علي سحر "ميدوزا" الذي يحيل ضحيته إلى حجر في الأسطورة اليونانية المشهورة. و يبدو واضحاً أنها لم تبلع إحتمال أن ينطوي الأمر على أي عفوية من جانبي. و بينما كنت قد تجمَّدت مسخوطاً أمامها، سمعت صوتاً خشناً يزعق:
ـ أقف عندك!
و هنا ازددت إنسخاطاً.
إلا أنني فوجئت بها، تلك التي صرخت في وجهي قبل قليل و لا أعرف أي واحدة تكون هي بين أخواتها الثلاث تستدير بجسمها بزاوية 180 درجة كي تشبك ذراعها في ذراعي و تسير بجواري كشقيقين و أخذت تغمس عينيها في كل خطوة في عيني. وعندئذ رأيت، لدهشتي، أن عينيها سوادوان سواداً عميقاً، مثل أعيننا، بل و شممت لها رائحة أقرب إلى رائحة رغفان القمح عقب خروجها مباشرة من الفرن. و إمعاناً في التشخيص أخذت تتجاذب أطراف الحديث مع شخصي الذي كان من الطبيعي أن يضربه الخرس أيضاً:
ـ اسمي "راشيل" و انت؟
ـ …
ـ أنا كنت رايحة الفرن الافرنجي أستعجل "الفينو" بتاع الدكان و انت؟
ـ …
ـ أنا في أولى ثانوي و انت؟
و أضافت تطلب مني همساً:
ـ رد عليَّ ع شان يفهم إن احنا عارفين بعض!
كانت تسأل، و لا تتابع جوابي على سؤالها، بل تتطلع، خلسة، وراء ظهريْنا، و عندما تطلعت معها وراءنا، لمحت ظهر عسكري الداورية الذي زعق قبل قليل واقفاً في اعتداد و شموخ و قد علَّق يديه في حزامه الجلدي العريض ثم و بعد قليل أخذ في الإبتعاد عنا، أقصد عني. و مع ابتعاده أخذت تبتعد عني في نفس اللحظة، و مع صغر سني، ليس تهمة "خدش الحياء العام" و حسب بل لربما تهم أخرى لا يعلم وطأتها أحد.
لولا أنها خطت تلك الخطوة الذهبية نحوي، لكان عسكري الداورية الذي انشقت الأرض و قذفته قد اقتادني إلى "المركز"، و ما أدراك ما هو "المركز"! كنت أسير في تلك الساعة المبكرة من الصباح في طريقي، قبل التوجه إلى مدرستي، نحو ترعة "الحشاشة" التي تنام كقطة خضراء الفرو شرقي مدينة "منوف" كي ألقي عليها نظرة تنعش حواسي و فؤادي في نفس الوقت كبندري مستجد لا يزال يوحشه المدى الريفي. و قبل أن يأخذني الطريق إلى الإنحناءة التي تقود إلى غايتي لمحت شبح صبية رشيقة قادمة نحوي من "الشارع الجديد" عبر مزلقان السكة الحديد. لم أستطع تبين ملامحها جيداً من جراء الشبورة التي تلفها. و يبدو أنها كانت مشغولة أيضا بشيئ ما جعلها تسير عدة خطوات وهي تتطلع إلى الوراء. و هنا خطرت لي فكرة: ألا أدع فرصة الإصطدام الذي يبدو عفوياً تفلت مني. و عندما اقتربت عرفتها و لكيلا أكون مبالغاً عرفت أنها واحدة منهن. فلقد كن ثلاث أخوات، إما أنهن توائم و إما أن الفارق بينهن ليس أكثر من سنة واحدة. و كنا كلنا، أقصد ولاد الحتة(=الحي) نعرف أسماءهن: "منى" و "هدى" و "راشيل". لكننا لا نعرف كيف نميزهن الواحدة عن أختها. إلا أنهن كن أجمل بنات الحتة و سائر أحياء عاصمتنا الإقليمية "منوف" التي كنت قد انتقلت إليها قبل قليل من قريتنا "كفر سرس الليان"، كي أقيم مع أسرة عمتي "صابحة" للإلتحاق بمدرسة "منوف" الثانوية. و كنا، نحن الطلبة، نعرفهن من وقفتهن مع والدتهن و والدهن و قد انهمكن في تحضير ساندوتشات الجبنة الدمياطي و الحلاوة الطحينية و البيض المقلي و خلافه، في الدكان الوحيد على وجه التقريب الذي كان يغلف الساندويتش في راقين: ورق قش رز تحت ورقة عادية أخرى، فيما كان البياعون الآخرون يكتفون، إذا رأوا أصلاً، أي ضرورة للتغليف، بالورقة العادية التي قد لا تزيد في غالب الأحيان عن ورقة جورنال قديم. و لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد لتفضيلنا، نحن الطلبة هذا الدكان على سائر الدكاكين بجوار مدرستنا "الأميري" الثانوية أو مدرسة "الدفراوي بك" نسبة إلى صاحبها و مؤجرها لوزارة التعليم. و لكنه كان بالتأكيد أحد الأسباب الذي ألزمنا الصمت المشوب بالأسى و الرعب في نفس الوقت، عندما تركنا هذا الدكان مفتوحاً أحد أيام الخميس مثل غيره من الدكاكين كي نجده صباح السبت التالي مغلقاً بالشمع الأحمر. و لما عرفنا سبب الإغلاق طارت منا كل الأحلام السعيدة التي حلمناها و نحن نتأملهن، أثناء انكبابهن على عملهن كأنهن يعزفن، مع والدتهن و والدهن، لحناً متناغماً بالسكاكين الرفيعة، بل ماتت كل القفشات التي كانت تتفجر بيننا همساً حول لحظة الخلق الأولى: خلقنا و خلقهن. و مع طول ما وقفنا في حضرتهن، سواء أكنا نشتري شيئاً أو لا نشتري، لم يستطع أي منا رؤية لون عيونهن، فلم يكن عندهن وقت كي يرفعن رؤوسهن عما في أيديهن.
لست أذكر ماذا قالت، إن كانت قد قالت شيئاً. لكنني فوجئت بها تصرخ عالياً في وجهي، و هو الصراخ الذي لبَّشني كأنها ألقت علي سحر "ميدوزا" الذي يحيل ضحيته إلى حجر في الأسطورة اليونانية المشهورة. و يبدو واضحاً أنها لم تبلع إحتمال أن ينطوي الأمر على أي عفوية من جانبي. و بينما كنت قد تجمَّدت مسخوطاً أمامها، سمعت صوتاً خشناً يزعق:
ـ أقف عندك!
و هنا ازددت إنسخاطاً.
إلا أنني فوجئت بها، تلك التي صرخت في وجهي قبل قليل و لا أعرف أي واحدة تكون هي بين أخواتها الثلاث تستدير بجسمها بزاوية 180 درجة كي تشبك ذراعها في ذراعي و تسير بجواري كشقيقين و أخذت تغمس عينيها في كل خطوة في عيني. وعندئذ رأيت، لدهشتي، أن عينيها سوادوان سواداً عميقاً، مثل أعيننا، بل و شممت لها رائحة أقرب إلى رائحة رغفان القمح عقب خروجها مباشرة من الفرن. و إمعاناً في التشخيص أخذت تتجاذب أطراف الحديث مع شخصي الذي كان من الطبيعي أن يضربه الخرس أيضاً:
ـ اسمي "راشيل" و انت؟
ـ …
ـ أنا كنت رايحة الفرن الافرنجي أستعجل "الفينو" بتاع الدكان و انت؟
ـ …
ـ أنا في أولى ثانوي و انت؟
و أضافت تطلب مني همساً:
ـ رد عليَّ ع شان يفهم إن احنا عارفين بعض!
كانت تسأل، و لا تتابع جوابي على سؤالها، بل تتطلع، خلسة، وراء ظهريْنا، و عندما تطلعت معها وراءنا، لمحت ظهر عسكري الداورية الذي زعق قبل قليل واقفاً في اعتداد و شموخ و قد علَّق يديه في حزامه الجلدي العريض ثم و بعد قليل أخذ في الإبتعاد عنا، أقصد عني. و مع ابتعاده أخذت تبتعد عني في نفس اللحظة، و مع صغر سني، ليس تهمة "خدش الحياء العام" و حسب بل لربما تهم أخرى لا يعلم وطأتها أحد.