قضاء و قدر
كان طبيعياً ألا يكمل هذا الرجل الفلاح الذي هبط العاصمة مفعماً، رغم كل شيئ، بالتفاؤل، نزول السلم الذي صعده قبل ساعتين أو ثلاث ساعات. فلقد سقط ـ قضاء و قدراً ـ على بسطة الدور الثاني، بعد أن قذفه شلوت أخير من باب الدور الثالث، الذي يشكل وحدة واحدة متعددة الغرف، في القصر الأنيق الذي يدل على ذوق أصحابه الأصليين، وسط قهقهات ساكنيه الآن من الشياطين الحمر.
في البدء أبلغ الجيران قسم البوليس، ولما جاءهم رد فعل القسم أدركوا الطبيعة التي تحول إليها القصر الذي صادرته "الحركة المباركة" من طبقة النصف في المائة، طبقة الإقطاع و الرأسمالية التي استغلت الشعب أيما استغلال. و عندئذ استسلم الجيران للأمر الواقع، خصوصاً بعد أن اكتشفوا اللافتة الصغيرة التي مسْمروها على الواجهة: "ممنوع الإقتراب أو التصوير" و سرَّب أحد صغار المسؤولين الصاعدين، إليهم إحتمالات مصادرة مساكنهم التي تطل على هذا القصر ـ كضرورة من ضرورات الأمن القومي للبلاد ـ إذا سمح له ضميره بأن يترك احتجاجاتهم تصل إلى رؤسائه من كبار المسؤولين.
و كان هذا الرجل الفلاح الذي يستبشر باحمرار الأفق الوردي و الضحى الذهبي و الندى الماسي الذي يخلب عقله على أوراق البرسيم في الشتاء، قد صحا، مثلما يصحو الفلاحون قبل الخيوط الأولى للفجر الأرجواني. ودِّع ابنه الذي يدرس في الجامعة، و أخذ السبت الفارغ الذي جاء فيه بـ "الزيارة"، الريفية في يده التي شربت من الفؤوس بعض خشونتها و رأى أن يصلي الفجر حاضراً في أي جامع قريب، ثم يستقل الأتوبيس إلى "كفر السبوعة" في زمام مدينة "السويس". هكذا أفهم ابنه و لذا تركه الإبن يخرج وحده قبل شأشأة الفجر.
و يبدو أن الرجل الفلاح الأخضر القلب كان قد خرج في نفس الوقت الذي خرج فيه الشاويش"حامد ابو ضيف" الذي كان قد أبدى بوحي وطنيته و حدها، مبادرات جريئة دون سائر الحراس، تجاه المتهمين بالعداء للشعب، بدبشك البندقية، أثناء المحاكمات العسكرية التي عقدتها "الحركة المباركة" التي لم يسترح كبار الكتاب و الصحفيين في وقت لاحق لهذا الإسم الذي أطلقه أصحابها أنفسهم عليها، و هي المبادرات التي قربته من دائرة الخدم التي تحيط كإسورة لصيقة بالدائرة الضيقة التي تسيطر على مجريات الأمور.
التقى الشاويش الطموح بالرجل الفلاح الذي كان يسير وحده خلي البال تحت نسيم الفجر الطري في شارع "غريب الحداد" المتفرع من شارع "المساحة" في حي "الدقي" الذي اشتهر في وقت لاحق بشققه المفروشة بكل ما يشتهيه "الأشقاء العرب" كما يطلق عليهم الكتاب المدرسي و البرنامج الإعلامي. و في بحر لحظات كان الشاويش يصطحب أول رجل يصادفه، كما طلبت "ملكة الجلسة":"علياء لطفي" أشد الممثلات شقاراً في مصر و أقربهن في الجلسات الخاصة إلى حجر السيد "المشير" و السيد "صلاح" صديقه الحميم و زميله في التنظيم الذي قاد الإنقلاب الذي بهر بنجاحه حتى الذين خططوا لوقوعه في سفارتهم. واتفقت معها في هذا الطلب تلميذتها النجيبة "سعاد الصغيرة" التي لم تستطع زحزحتها عن مكانتها تلك رغم صغر سنها و ما شاع عنها في الوسط الفني من أن الطبيعة حبتها بذلك الجوع الذي لا يعرف شبعاً، وهو الجوع المعروف شعبياً بـ "السودة"، تلك التي يرى فيها الفلاحون الأميون ـ خسأت أقوالهم ـ مرضاً.
دخل الرجل الفلاح فانفجر جميع الحاضرين ضاحكين. زر الرجل الفلاح جفنيه حتى لا يرى ما اقتحم عيناه و فكر في سد أنفه كيلا يشم ما جرح نخاشيشه من رائحة لم تستدع من ذاكرته الريفية سوى رائحة نبات "فسا الكلاب"، لكن "الأصول" وحدها حالت بينه و بين ذلك: لا يصح للمرء أن يتأذي بفجاجة ظاهرة من رائحة الغرباء مهما كانت رائحتهم تلك مؤذية. إلا أنه التفت إلى الوراء فوجد الباب قد ارتد و الرجل الذي أقنعه بمصاحبته إلى هنا، لمساعدته في حمل والده المريض، يقف عليه حارساً. حاول الرجل الفلاح أن يصيد عيني ُمستدرجه إلاَّ أن هذا لم يمكِّنه، و عوضاً عن ذلك بادر هذا بأن يكون ـ كعادته ـ أول البادئين: بل يده في حوض السمك الزجاجي المملوء بالماء حتى حافته و صفع الرجل الفلاح على حين سهوة على قفاه.
سخسخت ممثلتنا الشهيرة من الضحك، وكذلك تلميذتها النجيبة و سائر الحاضرين لمنظر الرجل الفلاح الوقور، وقد طارت لبدته أمامه. و يبدو أن الرجل الفلاح أدرك أنه وقع في فخ، و لم يجد سوى الدفاع عن قفاه، بكل ما يملك من قوة، وهو الأمر الذي كان في الإمكان أن ينجح في وجه شلة من السكارى و المساطيل العرايا ـ بلابيص ـ رجالاً و نساء لولا وجود "حامد ابو ضيف"، الذي كان عالي التدريب و يقظ الحواس، و متفانياً في خدمة أسياده و من أصول فلاحية، و لم يتناول إلا "نفسين" و "كأسين" اجتماعيين في أول الليل، كيلا يغضب سيادة "المشير" أو صديقه الحميم السيد "صلاح". و بطبيعة الحال لزم "الشاويش" أدب العبيد مع نساء سيادتيهما: يهيئهن كماشطة، و يبدأ مهمته بتقريب أنفه من مواضع العفة منهن كي يستكشف مدى صلاحيتهن للخدمة و يساعد أياً من سيديه إذا اختل توازنه تحت تأثير السطل أو السكر عند إعتلائه صهوة الفرس، و يبل الشمع بلسانه كي يضعه في المكان المناسب حتى يستمر اللهب واقفاً، ويلقي بالنكتة البذيئة إثر النكتة الأشد بذاءة دون أن ينتقل من النظر إلى العمل حتى و لو شجعته إحداهن في غفلة من سيده، إذ كان هدفه محدداً: أن يستكمل بناء بيته الأفرنجي في قريته "رملة لانجب" حتى يعلو على بيت العمدة ذاته ثم ينزل القرية على متن سيارة "مرشيدس"ـ بالشين ـ في يوم قريب مرتدياً جلابية كشمير فوقها عباءة من الجوخ.
وجد الشاويش الوفي ككلب "أرمنت" أصيل لسيديه و نسوان سيديه، نفسه مضطراً لشل ذراعي الرجل الفلاح خلف ظهره، كي يترك قفاه حراً دون عائق أمام اليد التي يغطسها صاحبها أو صاحبتها في حوض السمك الزجاجي قبل عملية الصفع، وهو الأمر الذي لم يجد معه الرجل الفلاح سبيلاً لمقاومته سوى بالتمرغ في الأرض هرباً بقفاه من كفوف هؤلاء الغرباء الذين لم يؤذهم أو يفكر في إيذائهم في يوم من أيام حياته. ويبدو أن الرجل الفلاح كان قد تعود عقلياً على مبدأ "العدالة" في علاقته مع الطبيعة و ما وراء الطبيعة كذلك: إذا زرع حصد و إذا عمل صالحاً دخل الجنة، و لم يكن قد تصور أنه سيقابل يوماً أمثال هؤلاء الذين يؤذونه دون أن يقدم هو أي سبب لذلك. و كان بالتالي من رابع المستحيلات أن يتخيل أن يحسن الصنع و يدخل نار الجحيم إرضاء لمزاج متقلب. و لقد استمر يصيح لوقت طويل حتى جف ريقه:
ـ أنا عملت لكو إيه؟
و لكن "حامد أبو ضيف" لم يعدم الوسيلة التي تلزم رجلاً فلاحاً أمياً جاهلاً الجلوس في مكانه كتمثال: مال على أذنه اليسرى و صب فيها تهديداً حاسماً ألحقه بفكه لحزام بنطلونه الكاكي، و هو الأمر الذي طيَّر حواجب الحاضرين في الهواء إعجاباً بقدرات هذا الشاويش الذهبي المخ، و في نفس الوقت وفَّر لهم التنشين الجيد على قفا ساكن.
هبط منسوب الماء في الحوض إلى النصف في اللحظة التي كان الرجل الفلاح قد انتقل عندها من المقاومة إلى الإسترحام، و هو الأمر الذي جعل الحاضرين من القادة الذين كانوا قد انتهوا للتو من فرش الوطن أرضاً و سماء، من الشلال للمالح بشعارهم المثير الذي يقول :"إرفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الإستعباد"، يسرعون خجلاً، على ما يبدو، أمام شعارهم ذاك، في بل كفوفهم و رفعها إلى القفا الذي أخذت السخونة تتناوبه مع البرودة، و كان ذلك بمثابة رد فعل طبيعي من جانب الذين وضعوا أرواحهم على كفوفهم أثناء استجابتهم لنبض الشعب الذي أكد الدعاة أن الأسرة الملكية الألبانية الأصل التي كانت حاكمة قهرته و أذلته. عندما انتهى الماء في الحوض، فك الشاويش الهمام الرباط الذي كان قد جمع كوعي الرجل الفلاح سيئ الحظ خلف ظهره. و كان القدر وحده قد شاء أن تجمعني معه ـ و كان قد تحرر من وفائه لـ "المشير" بعد انتحاره أو "استنحاره" كما شاع وقتها على الألسنة ـ جلسة على عدد من "الأحجار" المعمرة بعدة "قروش" من ماركة "المشير" في بيت أحد أقاربي البعيدين في "عزبة أبوحشيش". و بعد فك الرباط، أنهض "الشاويش" الفلاح واقفاً و فتح الباب و ودَّعه بما يليق به كخادم غير مسؤول إلا أمام سيده "المشير" و صديقه الحميم السيد "صلاح" و عشيقتهما الأولى، التي رأت أن تتسلى قليلاً في هذه الليلة بالذات بأول مواطن يخرج إلى الشارع في الصباح الباكر بعد سهر ليلة قدمت خدماتها بالدرجة الأولى، لسيادة الرجل الثاني و صديقه العضوين في مجلس قيادة ما استقر الآن على تسميتها بـ "الثورة البيضاء" كجارية رومية الأم لا توزن إلا بالفضة و الذهب، و ساعدها في ذلك عدد من المتدربات الجدد اللواتي تلألأت أسماء أكثرهن في سماء الفن في مصر المحروسة في أوقات لاحقة.
كان طبيعياً ألا يكمل هذا الرجل الفلاح الذي هبط العاصمة مفعماً، رغم كل شيئ، بالتفاؤل، نزول السلم الذي صعده قبل ساعتين أو ثلاث ساعات. فلقد سقط ـ قضاء و قدراً ـ على بسطة الدور الثاني، بعد أن قذفه شلوت أخير من باب الدور الثالث، الذي يشكل وحدة واحدة متعددة الغرف، في القصر الأنيق الذي يدل على ذوق أصحابه الأصليين، وسط قهقهات ساكنيه الآن من الشياطين الحمر.
في البدء أبلغ الجيران قسم البوليس، ولما جاءهم رد فعل القسم أدركوا الطبيعة التي تحول إليها القصر الذي صادرته "الحركة المباركة" من طبقة النصف في المائة، طبقة الإقطاع و الرأسمالية التي استغلت الشعب أيما استغلال. و عندئذ استسلم الجيران للأمر الواقع، خصوصاً بعد أن اكتشفوا اللافتة الصغيرة التي مسْمروها على الواجهة: "ممنوع الإقتراب أو التصوير" و سرَّب أحد صغار المسؤولين الصاعدين، إليهم إحتمالات مصادرة مساكنهم التي تطل على هذا القصر ـ كضرورة من ضرورات الأمن القومي للبلاد ـ إذا سمح له ضميره بأن يترك احتجاجاتهم تصل إلى رؤسائه من كبار المسؤولين.
و كان هذا الرجل الفلاح الذي يستبشر باحمرار الأفق الوردي و الضحى الذهبي و الندى الماسي الذي يخلب عقله على أوراق البرسيم في الشتاء، قد صحا، مثلما يصحو الفلاحون قبل الخيوط الأولى للفجر الأرجواني. ودِّع ابنه الذي يدرس في الجامعة، و أخذ السبت الفارغ الذي جاء فيه بـ "الزيارة"، الريفية في يده التي شربت من الفؤوس بعض خشونتها و رأى أن يصلي الفجر حاضراً في أي جامع قريب، ثم يستقل الأتوبيس إلى "كفر السبوعة" في زمام مدينة "السويس". هكذا أفهم ابنه و لذا تركه الإبن يخرج وحده قبل شأشأة الفجر.
و يبدو أن الرجل الفلاح الأخضر القلب كان قد خرج في نفس الوقت الذي خرج فيه الشاويش"حامد ابو ضيف" الذي كان قد أبدى بوحي وطنيته و حدها، مبادرات جريئة دون سائر الحراس، تجاه المتهمين بالعداء للشعب، بدبشك البندقية، أثناء المحاكمات العسكرية التي عقدتها "الحركة المباركة" التي لم يسترح كبار الكتاب و الصحفيين في وقت لاحق لهذا الإسم الذي أطلقه أصحابها أنفسهم عليها، و هي المبادرات التي قربته من دائرة الخدم التي تحيط كإسورة لصيقة بالدائرة الضيقة التي تسيطر على مجريات الأمور.
التقى الشاويش الطموح بالرجل الفلاح الذي كان يسير وحده خلي البال تحت نسيم الفجر الطري في شارع "غريب الحداد" المتفرع من شارع "المساحة" في حي "الدقي" الذي اشتهر في وقت لاحق بشققه المفروشة بكل ما يشتهيه "الأشقاء العرب" كما يطلق عليهم الكتاب المدرسي و البرنامج الإعلامي. و في بحر لحظات كان الشاويش يصطحب أول رجل يصادفه، كما طلبت "ملكة الجلسة":"علياء لطفي" أشد الممثلات شقاراً في مصر و أقربهن في الجلسات الخاصة إلى حجر السيد "المشير" و السيد "صلاح" صديقه الحميم و زميله في التنظيم الذي قاد الإنقلاب الذي بهر بنجاحه حتى الذين خططوا لوقوعه في سفارتهم. واتفقت معها في هذا الطلب تلميذتها النجيبة "سعاد الصغيرة" التي لم تستطع زحزحتها عن مكانتها تلك رغم صغر سنها و ما شاع عنها في الوسط الفني من أن الطبيعة حبتها بذلك الجوع الذي لا يعرف شبعاً، وهو الجوع المعروف شعبياً بـ "السودة"، تلك التي يرى فيها الفلاحون الأميون ـ خسأت أقوالهم ـ مرضاً.
دخل الرجل الفلاح فانفجر جميع الحاضرين ضاحكين. زر الرجل الفلاح جفنيه حتى لا يرى ما اقتحم عيناه و فكر في سد أنفه كيلا يشم ما جرح نخاشيشه من رائحة لم تستدع من ذاكرته الريفية سوى رائحة نبات "فسا الكلاب"، لكن "الأصول" وحدها حالت بينه و بين ذلك: لا يصح للمرء أن يتأذي بفجاجة ظاهرة من رائحة الغرباء مهما كانت رائحتهم تلك مؤذية. إلا أنه التفت إلى الوراء فوجد الباب قد ارتد و الرجل الذي أقنعه بمصاحبته إلى هنا، لمساعدته في حمل والده المريض، يقف عليه حارساً. حاول الرجل الفلاح أن يصيد عيني ُمستدرجه إلاَّ أن هذا لم يمكِّنه، و عوضاً عن ذلك بادر هذا بأن يكون ـ كعادته ـ أول البادئين: بل يده في حوض السمك الزجاجي المملوء بالماء حتى حافته و صفع الرجل الفلاح على حين سهوة على قفاه.
سخسخت ممثلتنا الشهيرة من الضحك، وكذلك تلميذتها النجيبة و سائر الحاضرين لمنظر الرجل الفلاح الوقور، وقد طارت لبدته أمامه. و يبدو أن الرجل الفلاح أدرك أنه وقع في فخ، و لم يجد سوى الدفاع عن قفاه، بكل ما يملك من قوة، وهو الأمر الذي كان في الإمكان أن ينجح في وجه شلة من السكارى و المساطيل العرايا ـ بلابيص ـ رجالاً و نساء لولا وجود "حامد ابو ضيف"، الذي كان عالي التدريب و يقظ الحواس، و متفانياً في خدمة أسياده و من أصول فلاحية، و لم يتناول إلا "نفسين" و "كأسين" اجتماعيين في أول الليل، كيلا يغضب سيادة "المشير" أو صديقه الحميم السيد "صلاح". و بطبيعة الحال لزم "الشاويش" أدب العبيد مع نساء سيادتيهما: يهيئهن كماشطة، و يبدأ مهمته بتقريب أنفه من مواضع العفة منهن كي يستكشف مدى صلاحيتهن للخدمة و يساعد أياً من سيديه إذا اختل توازنه تحت تأثير السطل أو السكر عند إعتلائه صهوة الفرس، و يبل الشمع بلسانه كي يضعه في المكان المناسب حتى يستمر اللهب واقفاً، ويلقي بالنكتة البذيئة إثر النكتة الأشد بذاءة دون أن ينتقل من النظر إلى العمل حتى و لو شجعته إحداهن في غفلة من سيده، إذ كان هدفه محدداً: أن يستكمل بناء بيته الأفرنجي في قريته "رملة لانجب" حتى يعلو على بيت العمدة ذاته ثم ينزل القرية على متن سيارة "مرشيدس"ـ بالشين ـ في يوم قريب مرتدياً جلابية كشمير فوقها عباءة من الجوخ.
وجد الشاويش الوفي ككلب "أرمنت" أصيل لسيديه و نسوان سيديه، نفسه مضطراً لشل ذراعي الرجل الفلاح خلف ظهره، كي يترك قفاه حراً دون عائق أمام اليد التي يغطسها صاحبها أو صاحبتها في حوض السمك الزجاجي قبل عملية الصفع، وهو الأمر الذي لم يجد معه الرجل الفلاح سبيلاً لمقاومته سوى بالتمرغ في الأرض هرباً بقفاه من كفوف هؤلاء الغرباء الذين لم يؤذهم أو يفكر في إيذائهم في يوم من أيام حياته. ويبدو أن الرجل الفلاح كان قد تعود عقلياً على مبدأ "العدالة" في علاقته مع الطبيعة و ما وراء الطبيعة كذلك: إذا زرع حصد و إذا عمل صالحاً دخل الجنة، و لم يكن قد تصور أنه سيقابل يوماً أمثال هؤلاء الذين يؤذونه دون أن يقدم هو أي سبب لذلك. و كان بالتالي من رابع المستحيلات أن يتخيل أن يحسن الصنع و يدخل نار الجحيم إرضاء لمزاج متقلب. و لقد استمر يصيح لوقت طويل حتى جف ريقه:
ـ أنا عملت لكو إيه؟
و لكن "حامد أبو ضيف" لم يعدم الوسيلة التي تلزم رجلاً فلاحاً أمياً جاهلاً الجلوس في مكانه كتمثال: مال على أذنه اليسرى و صب فيها تهديداً حاسماً ألحقه بفكه لحزام بنطلونه الكاكي، و هو الأمر الذي طيَّر حواجب الحاضرين في الهواء إعجاباً بقدرات هذا الشاويش الذهبي المخ، و في نفس الوقت وفَّر لهم التنشين الجيد على قفا ساكن.
هبط منسوب الماء في الحوض إلى النصف في اللحظة التي كان الرجل الفلاح قد انتقل عندها من المقاومة إلى الإسترحام، و هو الأمر الذي جعل الحاضرين من القادة الذين كانوا قد انتهوا للتو من فرش الوطن أرضاً و سماء، من الشلال للمالح بشعارهم المثير الذي يقول :"إرفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الإستعباد"، يسرعون خجلاً، على ما يبدو، أمام شعارهم ذاك، في بل كفوفهم و رفعها إلى القفا الذي أخذت السخونة تتناوبه مع البرودة، و كان ذلك بمثابة رد فعل طبيعي من جانب الذين وضعوا أرواحهم على كفوفهم أثناء استجابتهم لنبض الشعب الذي أكد الدعاة أن الأسرة الملكية الألبانية الأصل التي كانت حاكمة قهرته و أذلته. عندما انتهى الماء في الحوض، فك الشاويش الهمام الرباط الذي كان قد جمع كوعي الرجل الفلاح سيئ الحظ خلف ظهره. و كان القدر وحده قد شاء أن تجمعني معه ـ و كان قد تحرر من وفائه لـ "المشير" بعد انتحاره أو "استنحاره" كما شاع وقتها على الألسنة ـ جلسة على عدد من "الأحجار" المعمرة بعدة "قروش" من ماركة "المشير" في بيت أحد أقاربي البعيدين في "عزبة أبوحشيش". و بعد فك الرباط، أنهض "الشاويش" الفلاح واقفاً و فتح الباب و ودَّعه بما يليق به كخادم غير مسؤول إلا أمام سيده "المشير" و صديقه الحميم السيد "صلاح" و عشيقتهما الأولى، التي رأت أن تتسلى قليلاً في هذه الليلة بالذات بأول مواطن يخرج إلى الشارع في الصباح الباكر بعد سهر ليلة قدمت خدماتها بالدرجة الأولى، لسيادة الرجل الثاني و صديقه العضوين في مجلس قيادة ما استقر الآن على تسميتها بـ "الثورة البيضاء" كجارية رومية الأم لا توزن إلا بالفضة و الذهب، و ساعدها في ذلك عدد من المتدربات الجدد اللواتي تلألأت أسماء أكثرهن في سماء الفن في مصر المحروسة في أوقات لاحقة.