روح .. مدونة مصرية ح تصدر قريِّب. اللغة الرئيسية بتاعتها هي "اللمح"يعني اللغة المصري الحديثة.."قول الحق و اتبع الحق، ع شان مافي ش فيه أقوى م الحق، إجبن الحق هو اللي بيجلب للحقاني التوقير"(الفلاح الفصيح.العصر الإهناسي. من عصور مصر (القديمة.

الثلاثاء، ١٤ أبريل ٢٠٠٩

ربيع الدكتاتور

ربيع الدكتاتور
رواية تسجلية
كدب مشروع:
إلاَّ أنا. كلهم جالهم رد، فرْد فرْد، ع الجوابات اللي اندفعنا نبعتها له، كلنا، بالنفر، زي ما يكون عفريت من عفاريت القيالة و صفَر في وداننا. بس ما كناش محتاجين له لا عنوان و لا ورقة بوسطة و لا حتى اسم: يا دوب، الصفة بتاعته اللي كانت طايرة ع الالسنة وقتها: "منُقذ الوطن".
الرد كان عبارة عن ظرف مفتوح على أد صورة- نص بالبدلة الكاكي لسيادته و على يمين الصورة مكتوب كلمة هدية بالخط الكوفي و الكلمة ممهورة بإمضة سيادته. اكدب لو أقول ما خدت ش على خاطري، خصوصي و الجميع حوالين مني، كانو بيتباهو بها، باعتبارها دليل مافي ش كلام على صعودهم لمنزلة معارف، دا لو ما قلناش، محاسيب سيادته. و التباهي دا كان بيحصل سيان في الطريق للمدرسة الابتدائي الصبح بدري و لا في الفصل و الحوش و لاَّ في طريق المرواح في العصاري كبابيات كبابيات للكفر بتاعنا من "سرس الليان"، اللي كانت في الوقت دا بتعتبر عاصمة للعزب و الكفور و حتى القرى الزغيرة في زمامها. فـ "سرس الليان" هي قبلتنا الدنيوية: السوق الأسبوعي و كُتَّاب الشيخ "حجاج" و المدرسة الابتدائي و المستشفى الأميري. و إدي ني عقلك لما تلاقي كل زملا-ت-ك ـ في السن دا ـ رافعين "نياشينهم"، في إيديهم كل ما تتوفر فرصة و إنت لا بإديك و لا بالمنجل.
و كان الأمر ممكن يوصل بي في ضل التباهي دا لحد الكفر بـ "مُنقذ الوطن" لولا سيل الصور، اللي اتدفَّق على زملاتي، لحد ما واحد منهم اتطلَّع لي جامد. و بعدين لم حواجبه و مد إيده في شنطته طلَّع لي خمس صور من صور "مُنقذ الوطن"، و لما قرا دهشتي ـ الظاهر ـ على ملامحي. فسَّر:
ـ كل ما ابعت جواب بأي اسم على نفس العلوان ييجي ني عليه رد!
زرِّيت حواجبي و انا باسأل نفسي: هو الكدب ع الحكومة، بالذات، غير أي كدب تاني؟
ما عدَّاش وقت أد كدا، و بدينا "ندوَّر" الصور بتاع "مُنقذ الوطن" لورق كتشينة لزوم اللعب، فالكتاشين، زيها زي الكور الجلد، اللي كنا بنسمِّيها "كور كَفَر" ليه ما اعرف ش و الشفاشق البنور كانت نادرة و ما كناش نعرفها إلاَّ من ولاد البنادر. فـ "كتاشيننا" كانت للساها مربعات نرسمها ع التراب و "كلاب" بيضا لواحد و سودا للي بيلعب قصاده، و كورنا كانت ـ لما تضربها ضربة دم ـ فردة شراب قديمة محشية شوية خُلقان.

كلام نهائي:

قبل كدا بفترة بسيطة مدرِّس العربي ـ نسيت اسمه مع الأسف ـ دخل علينا الفصل، اتنترنا، زي العادة، ضربنا له "تعظيم سلام"، و على غير عوايده سابنا واقفين و كتب التاريخ ع التختة: 28 فبراير 1954 ، دا لو ذاكرتي ما خانتني ش. و بعدين اتديَّر اتطلع لنا و استفهم باستغراب:
ـ إنتو للساع واقفين!
زر عينيه. هز دماغه. ساب دقنه تقع على سدره. قال بصوت باهت:
ـ نسيت كو؟ ما عليه ش يا ابني إنت و هو، اتفضلو استريحو!
المدرسين في الوقت دا كانو للساع آلهة، بس ما بنعبدهم ش و لا بنخاف منهم، لاكن بنهاب هم، و الهيبة نصها، و جايز أوي فوق عن نصها محبة. و كانت جدارتهم بمحبتنا ما تقل ش عن جدارة أبهاتنا ذات نفسهم.
و قبل ما يبتدي الدرس، اللي نسيت دا الوقت موضوعه، قال:
ـ اشطبو على خطبة اللوا "محمد نجيب"...
ـ يعني ما نحفض هاش يا أستاذ؟
هز دماغه بشويش بالإيجاب.
و في يوم 4 مارس 1954 دخل علينا الفصل، و بعد طقوس القيام و القُعاد المعروفة في ديك الايام. قال بحماس:
ـ احفضو الخطبة بتاع قائد "الحركة المباركة" اللوا "محمد نجيب".
على أد ما زعلت لشطب الخطبة فرحت برجوعها للمقرر، فالحر الفقير كان حفضها غيب ن في يومها من ألفها لياءها، و للسَّاني حافض مقاطع، ماهي ش قليِّلة، منها على سبيل المثال:
ـ "و هآنذا أمد يدي لنتعاون على بناء عالم يسوده الأمن و الرخاء و السلام...."
ما كان ش عدا كام يوم و دخل علينا الحصة. اتنهد. قال:
ـ ما تحفضوش الخطبة بتاع... بتاع... و دا كلام نهائي، ما عن هو ش رجوع.
و راسه وقعت على سدره. و بعدين شال عينيه اتطلَّع في عينينا زي ما يكون عايز يشوف يا هل ترى لمحنا اللي بيحاول يخبِّيه عننا، فمقتل الآلهة تشوفهم ضُعاف.

عهـــد جديـــد:

بصينا لقينا "الليثي"، ضمير "سرس الليان" لابس، على غير عوايده، قميص و بنطلون من قماش كان نازل جديد في السوق إيامها اللي هو "صوف العسكري". بس الطقم كان موش "شيك" و بس كان لبس بهواتي، بمعيار متعين. و كان قاعد قدام باب المدرسة الإعدادي/ الثانوي، و قدامه سندوق بوية بمسامير قلاووظ، و المساميرجديدة نوفي عمالة تلعط.
قعد يمسح نا بعينيه، إحنا التلامذة، و حتى المدرسين نالهم جانب من زغرته دي.
شوي و نزل يخبط بالفرشة الخشب، و كانت جديدة لنج، هي رخرا، ع السندوق. و احنا ساعات نتطلَّع له من سكات و ساعات ننشغل عنه، زي ما يكون هو في وادي و احنا في وادي تاني.
شوي و بدا ينادي:
ـ بوية يا ورنيش! بوية يا ورنيش! بوية يا ورنيش...
وي كل ندهة كان صوته بيعلا سنَّة، لحد ما بقا زعيق لرب السما، كون حد أي حد، سيان كان تلميذ و لاَّ حتى مدرس يحوِّد يمد له رجله بالمداس، مافي ش!
شوي و الظاهر لقا ما بدهاش قام وقف على حيله. و نزل يخطب فينا:
ـ يا أفنديات حضراتكو ـ باين ـ ما انتوش مقدَّرين المرحلة اللي إحنا دخلنا فيها.
و اتنهِّد من منخيره و كمِّل:
ـ إحنا دخلنا خلاص عهد جديد! ما بتسمعوش راديو ما حدش قال لكو على غنيوة: "ع الدوّار ع الدوار، راديو بلدنا فيه أخبار"؟ بلاش ع الدوار، ما سمعتوش: "ماخلاص اتعدلت و الحالة اتبدِّلت؟
و هز قمع صوابعه و اتنحنح و ضاف:
ـ و في العهد الجديد دا لازم نستبشر، ونأمِّل خير، و ننضف نفسنا و نلمَّع اللي لابسينه في رجلنا! و لاَّ موش كلام!
رجع قعد و نقَّر نقرتين اتنين ع السندوق بالفرشة. و لما اتطلع في عينينا و قراها ـ كويِّس ـ قام على حيله من تاني. و زعق:
ـ طيب خلاص بالتقسيط!
و شرح:
ـ تمسح النهار دا و تدفع براحتك.
و رجع قعد و نقر نقرتين ع السندوق. و بعدين قام وقف:
ـ خلاص شكك!
و فسَّر:
ـ تمسح النهار دا و تدفع لما فرج اللاه يحوِّد عليك!
و دحك بغم و قال:
ـ لما الفرخة تبيض!
و اتنهِّد و اتلفت حوالين منه و مط بوزه شوي. و فح:
ـ فرصة ما تحصَّل هاش و لا في الجنة!
قعد نقر. قام وقف. بسِّم تبسيمة باهتة. زعق:
ـ خلاص ببلاش.
و جحِّر فينا و قال:
ـ قرَّب امسح انت هو، ببلاش!
و تابع زي ما يكون بيعزي نفسه:
ـ و يعوَّض عليَّ، ياما الواحد خُسر، و اللي ييجي في الريش...
بص في عينينا كويِّس. ميِّل على كتفه. وشوش حد، مين ما اعرف ش، تحت في العالم السُّفلي:
ـ يعني مافي ش فايدة!
و المرة دي اتنفض شايل سندوق البوية فوق دماغه و هب فقعه في الأرض. السندوق اتفدّغ و قزايز البوية اتدشدت. ما يكفي هوش دا؟ أبدن. طاطى قلع اللي كان في رجله و بعدين ملط عن جتته اللي كان ساتره. و خد بعضه و مشي لابس جلده و فوق جلده براءته.

مجيي الريح:
عرفته في المدرسة الابتدائي بتاع "أحمد نصار" بحري غرب "سرس الليان". و دا كان اسم الناظر بتاعها. فالمدارس الأميري في الوقت دا كانت للساع بيسمُّوها باسم ناظرها. و عرفت سيادته في آخر سنة قبل ما اتنقل للمدرسة الاعدادي ريح الكنيسة غرب البلد. و في الوقت دا المدرسين بتوعنا كانو من غير أي مبالغة، و زي ما القول سبق، آلهة. يرفرفو باجنحة ماهي (ا)ش منظورة كل ما نلقط عنهم في الفصل الشروح المعجونة بعرق جبينهم، و يفرحو كل الفرح لما يصادفو تلميذ واعد. و الحر الفقير كان واحد م التلامذة دول عند كل الأساتذة و خصوصي أستاذنا اللي للساع فاكر اسمه و رسمه، زي ما اكون للساع شايفه امبارح ي اول امبارح: "عبد السلام البوشي".
و في اليوم دا و في الحصة دي اللي انفحرو في ذاكرتي بأزميل فضي وقفت لاجل أسال، في إطار شرح سيادته لسورة "الرحمان" اللي بتوصف ببلاغة فوق كل وصف، في إطار النسيج القرآني، مشاهد يوم القيامة:
ـ هي القيامة ـ يا أستاذ ـ قامت مرة قبل كدا؟
حنكه انفتح منه. اتطلَّع لي جامد. وزن البشاورة في كف و في التاني وزن التباشيرة. قال:
ـ إنت يا ابني ح يكون لك مستقبل باهر.
و ساب دماغه يقع على سدره و كمِّل:
ـ بس الريح تيجي ك طياب.
و بص يم بقيت الفصل و ساق السبب ورا الحكم اللي قاد غيرة زملاتي، و خصوصي اللي كانو بيتنافسو وياي ع المركز الأولاني:
ـ مخه شغَّال، حتى لو غلط، بس شغَّال!

بين عهدين:

د. "نصر حمُّــــود" الباحث بمركز البحوث ـ قسم فيزيا نووية حكي:
لما "الحركة المباركة" ـ و هقهق ـ قامت كنا في مُعتقل "هايكستيب" بأوامر وزارة "ابراهيم عبد الهادي". و خلال راديو ببطارية شغل-يدوي سمعنا البيان الأولاني يوم الأربع 23 يوليو/ أبيب و تنازل الملك "فاروق" ملك مصر و السودان عن العرش لابنه "أحمد فؤاد" التاني، و تشكيل مجلس الوصاية برياسة الأمير "محمد عبد المنعم" و طرد جلالته يوم 26 ، يعني بعد ـ و هقهق تاني ـ بتلات –ت-ايام بالعدد...وكل الحواديت دي.
و لما رسينا ع اللي حصل خدنا بعضنا طوالي على مأمور المُعتقل. وقفنا قدام باب المكتب، قام سيادته شرنق و برنق:
ردينا ع السؤال اللي ما سأل هوش بلسانه:
ـ سيادتك ما سمعت ش الراديو؟
ـ راديو إيه؟
ـ الراديو بتاع مصر.
ـ فيه إيه الراديو بتاع مصر؟
ـ فيه حركة للجيش قامت يوم الأربع و النهار دا السبت الساعة ستة طردو الملك فاروق...
قاطع اللي بيتكلم مننا:
ـ و انتو مالكو؟
و استدرك:
ـ و احنا مالنا؟
بصينا لبعض. قلنا كلنا، اللي بلسانه و اللي بدهشته:
ـ إحنا مالنا إزاي؟
ـ الجيش عمل حركة و لاَّ ما عمل ش؟
ـ عمل ما عمل ش، إنتو مالكو؟
ـ مالنا إزاي؟ موش العهد البائد اللي كان مِعتقلنا راح و انزاح؟
مط بوزه قدام منه. استفهم:
ـ و بعدين؟
ـ و لا قبلين، بدام العهد اللي كان ماسكنا صبح في خبر كان، تفرج سيادتك عننا...
ـ نعم؟!؟
ـ زي سيادتك ما سمعت.
ـ سمعت إيه أنا؟
ـ تفرج عننا، وتسيبنا نروَّح لبيوتنا!
ـ يا سلام، بكل بساطة كدا؟
ـ سيادتك دا الوقت...
ـ سيادتي ما يقدرش ياخد أي خطوة في أي إتجاه إلاَّ بعد الرجوع لرياستي في مصر.
ـ خلاص اتفضل سيادتك ارجع...
ـ لما التلفون يتصلَّح.

قلمــين اتنيـــن:

في حياتي خدت قلمين اتنين. أول قلم في الإعدادية من مدرِّس اللغة العربي، في حصة الدين. تاني واحد من شاويش التربية العسكرية تاني سنة يعني في أولى ثانوي. و منهم عرفت طعم الظلم و فهمت حُدق العبودية.
في حصة الدين يوم الخميس آخر أيام الأسبوع كنا بنسمَّع الأدان للشيخ "حاجة عِلوي". الدور جا عليّّ. وقفت بديت:
ـ اللاهو أكبر/ اللاهو أكبر...
قاطع ني. طلب:
ـ رنَّح!
حسبتها على عجل. قلت أنا قلت اتنين من غير ترنيح يبقا أقول الاتنين الباقيين حسب ما طلب سيادته. و جيت أنقل على: حي...
ما كنت ش كمِّلت: حي...لقيت الشرار طق قدام عيني. و الظاهر كان حسبها حسبة تانية غير حسبتي. و لما الإيد كانت "مرزبة" و الودن ودن طفل ابن 13 سنة، فكان طبيعي تتنها تجيب ماية صفرا ست-ت-اشهر مع العلاجات المتوفرة في قرية محدوفة بعيد عن المدنية زي "سرس الليان". و طبيعي أكتر تفضل الودن دي مقصَّرة عن الودن اليمين طول عمري.
تاني قلم م الشاويش، اللي حبينا نناديه بـ "أستاذ"، زي بقيت اللي بيعلِّمونا، قام زرجن و زربن و برطم و هلضم. فعرفنا و سلِّمنا بحقه في اعتزازه الشديد بـ "شاويشيته".
كنا في الحوش. و الحوش تراب مسحوق. و كنا عاملين طابورين، و سيادته، و اسمه كان "عبد الرحمان حاجة"، عمَّال يدرَّبنا باصدار الأوامر:
ـ جماعة إصفووو!
ـ جماعة إتبووو!
ـ للأمام معتدان مارش!
ـ خلفان در!
و احنا بنستجيب لحد سدورنا ما اتملت و غزورت بالمسحوق الناعم اللي طلع من تراب الحوش تحت رجلينا.
شوي و طلب مننا نشكِّل طابور واحد، القصيَّر فيه قدام الطويل. و لما حظي ما كان ش هو، فطولي رفع ني لراس الطابور. يعني بقيت أقرب واحد لسيادته.
و بدا قال:
ـ ح اسلِّم ك حاجة على قفاك، كل واحد فيكو يسلِّم ها ـ بالأمر ـ للي قدام منه. و اللي ح يتمنـ...ك فيكو، و هو بيسلِّم اللي خده لزميله، أنا بقا اللي ح اسلمه جوز على قفا ميتين أمه!
و في ظرف مافي ش لقيت اللي نزل، على خوانة، على قفاي، دعْورني ييجي تلاتة اربعة متر بعيد عن الطابور. و هنا لقيت سيادته زعق:
ـ إرجع مطرحك!
رجعت وقفت مطرحي في الطابور سكت ن بُكم ن.
شخط:
ـ اضرب اللي قدام منك بالأمر، على قفاه!
تنَّحت. اتطلَّعت لسيادته من فوق كتفي. رجعت بصيت قدامي للمدى الأزرق. بلعت ريقي.
سيادته رجع شخط:
ـ نفِّذ الأمر يا عسكري!
دي كانت أول مرة في حياتي اسمع حد بيخاطبني باللفظ، اللي ما استريحت لهوش دا. و من ساعتها بديت أحس كل الاسم دا ما يلمس طبلة ودني بطعم الزرنيخ. و في نفس الوقت بصِّيت على زميلي، اللي كان مفروض، أسلِّمه اللي خدته من سيادته. هزيت دقني يم "الشاويش" بالرفض. سيادته اتفجَّر زعيق و انحدف عليَّ وحش غير ملجوم.
طلعت م الطابور مشيت باتجاه مبانى المدرسة. و الظاهر منظري ما كان ش تمام أبدن، و إلاَّ أستاذنا "جابر دياب" أستاذ التربية الرياضية و المُشرف ع "القسم المخصوص" ـ موش عارف ذاكرتي ليه ما بتنساش أسامي الناس الطيبين ـ ما كان ش إتلقَّاني في حضنه زي أم، و هو بيسأل:
ـ مين اللي عمل فيك كدا؟
و اتنفش زي سبع خلاص ح يهجم.
جبيني انحنى على منحري. بالعافية نطقت:
ـ الشاويش.
جايز أنسى كل شي، حتى اسمي، لاكن مهما نسيت موش ممكن أنسى، هدلان دراعين أستاذي في اللحظة دي جنب منه.

ما اعرف ش يمكن القلمين دول، هم اللي فطموني من وقت بدري على قيمة الحرية و العدالة، و جايز هم اللي فتَّحو لي عينيَّ لما كبرت على فكرة سيطرة تحالف "العسكروت-الكهنوت" ع الحكم في "المحروسة" و الأدق اللي كانت محروسة.

علي رشوان:

"الشيخ علوي" كُبة خفته. و راج بيننا ما تعرف إشاعة و لاَّ حقيقة، إن سيادته طلب نقله م المدرسة بتاعتنا. و بدل منه جانا "بحر": علم و كرم اسمه "على رشوان"، و فوق كل دا، عقل يوناني بالمعنى. ما فطمناش على فكرة و لا حقيقة و لا قاعدة، إلاَّ و رسَّانا على نقيضها، على طول الخط. تخيَّلو أستاذ عربي، يعلمنا قواعد الرفع و النصب و الجر، زي كل أساتذة اللغة دي، و بعدين يصن شوي لاجل يقول:
ـ و مع كدا، الرُّواي في عصر التدوين قابلو قبايل عربي، يعني فصاحتها فوق أي و كل شك، بتنصب الفاعل و ترفع المفعول!
و سيادته وضَّح المُراد فقال:
ـ يعني القبايل دي كانت بتقول:
خرق المسمارَ الثوبُ!
بدل من:
خرق المسمارُ الثوبَ!
و بطبيعة الحال وقعنا، احنا أنبغ التلامذة، في غرام إلاهنا/أستاذنا "على رشوان". فكنا ـ خمسة ستة من كل الفصول ـ نحرص نصحيه م النوم كل يوم، ع شان نمشي حولين منه، زي ما نكون في زفة، موش نسمع، نشرب قصايد الشعر، القبل-إسلامي و الأموي و العباسي، و الصوفي المتألِّف زي المترجم، اليوناني زي الفرنساوي، في طريقنا من بيته قُرب "الكوبري" مُلتقي طرق "فيشا" و "الحامول" و "منوف" و جروان" لحد مدرستنا. و من خلال أستاذنا الجليل، عرفنا "الأكاديميا" الأفلاطوني و "الليسيه" الأرسطي. و محاورات الأولاني و منطق التاني.
بس اللي ح يستغرب من وصفي لكاين بشري، زي أستاذي "علي رشوان" بالإلاه، ح اعذره، إجبنه ما عرف ش أستاذ بالحجم دا، و مع كدا كان بيشرب من قلة فخار حمرا، كان بيسيبها للهوا يسقعها، على حلق الشباك في الصيف. و بعبارة تانية ما خطرش على باله في أي لحظة يدي درس خصوصي لأي تلميذ في المدرسة.
و في يوم و في طريقنا الصبح للمدرسة سألت سيادته:
ـ إيه رأيك يا أستاذ في عركة "الصابحة" في سينا اللي الاسرائيليين لبسو فيها زي عساكر مصريين و دخلو قتلو...؟
لحظتها ديَّر وشه بعيد. و صن و صن و صن، لحد ما نسيت سؤالي.

صليب كامل صليب:

في حياتي محطات، لولا مريت عليها ما كنت ش وصلت للي وصلت له دا الوقت في مجال تحقيق-الذات. واحدة جايز من أهم المحطات في طريقي كانت معرفتي بأستاذي "صليب كامل صليب". كان أسمراني و نحيف و فِرِع. و اتعرَّفت عليه في أولى ثانوي في مدرسة "سرس الليان". و كان بيدينا فرنساوي بس هو كان متخصص في الفلسفة و علم النفس. و خلاله طلِّيت لتاني مرة شفت و اتملِّيت في الحضارة اليونانية-الرومانية، جدر الحضارة الحديثة. و في يوم من ذات الايام، و عُقب انحسار "العدوان الثلاثي" حصل استفتا على رياسة الجمهورية: المترشح بحكم طبيعة الاستفتا واحد. و الناس، اللي وصلو سن الانتخاب، راحو صوَّتو، بإيمان غميق: فرعون قومي ظهر من تاني للوجود، بمعنى بطل وطني اتنصر مرتين في معركتين ورا بعض، ضد عدوين اتنين: واحد داخلي، اللي هم الإقطاعيين و الرأسماليين، و التاني خارجي، اللي هو الاستعمار الأنجلو-فرنسي. و جايز دا السبب في استغرابي للغرامة التقيلة ع اللي يتأخر عن أداء اللي الإعلاميين سمُّوه وقتها: "الواجب الوطني". و السؤال اللي حط على نافوخي من غير جواب وقتها كان:
ـ و هو مين دا اللي ح يكسِّل ما يروح ش يتنخب "محرر مصر م الاستعمار"، و دا كان واحد م الألقاب اللي "المتعلمين المصريين" قعدو يخترعوها له يوم بعد يوم! و بطبيعة الحال ما قدرت ش وقتها ألحظ تحويل العسكروت الحاكم حق المواطن في الانتخاب لواجب عليه.
الساعة خمسة إلاَّ ربع خارجين من باب المدرسة الغربي، ع شان نروح بعد اليوم الدراسي لقيت مكرفون بيذيع:
ـ صليب كامل صليب متخلف عن أداء واجبه و ان ما كان ش ح ييجي يدلي بصوته ح يتغرَّم خمسة جنية و قرشين ساغ ... "صليب كامل صليب" ...
و قعد المكرفون يردد التحذير دا كل خمس دقايق.
حبي لأستاذي دفعني أدوَّر عليه، خوف ليكون موش سامع التحذير المتكرر دا، و بالتالي يغرَّموه. شوي و لقيته قاعد تحت ضل نخلة أفرنجي في ركن لوحده في الحوش. قرَّبت منه زي ما اكون داخل في حضرة إلاه. رفعت صباعي أشاور ع الصوت بتاع المكرفون اللي عمال يقب و يغطس وي تلفليف الهورن في اربع جية تحت الخيمة الزرقا اللي حاضنة "سرس الليان":
ـ سامع يا أستاذ..؟ الاستفتا...؟ غرامة..؟
بسِّم. هز دماغه. قال:
ـ يستحيل أشارك في تزييف إرادة شعب مصر!
و هز دماغه و كمِّل:
ـ حتى لو دفعت حياتي!
أكدب لو أقول فهمت وقتها للعبارة دي معنى و لا سبب، بس تنتها مالية وجداني، في البداية لفرادتها و جراءتها: فرادة + جراءة حمو كلام الأستاذ م النسيان.

شاويش منوف:

في تانية ثانوي يعني سنة 1959 صادفنا "شاويش" اسمه وقع من ذاكرتي ـ و باين ذاكرتي selective (نقَّاوي) ـ كلنا لقطنا إن سيادته "معجباني". زيد على كدا سيادته قعد يسحب اختصاصات الناظر و المُشرف لحد ما بقا هو الكل في الكل. و احنا كنا في سن التفجر اللي رسَّى بدننا بشكل بارز على ضفة المرجلة: الزند شد و الترمسة نزلت في حلمات بزازنا و الجراءة صبحت ديننا.
شوي و لقينا نفسنا في مواجهة مستمرة مع سلطة غير مسؤولة سيادته عمَّال يوسَّع في دايرتها كل شوي. و الهدف اللي كان عمَّال يزيد و يعيد فيه هو: بيعمل مننا رجالة عن طريق زرع الروح العسكرية تمهيد لتحرير فلسطين في معركة فاصلة جاية جاية. و مافي ش حد غير "الزعيم" هو اللي ح يحدد زمنها و مكانها. بس يعمل مننا رجالة إزاي؟ عن طريق غريب: فرض المذلة و المهانة علينا. و في الإطار دا سيادته نقل الحصتين بتاع التربية العسكرية من أخر النهار لأول حصتين، اللي هم أول ساعتين ع الصبح. ما عداش كتير و فهمنا كويِّس إن المسألة لا تزيد و لا تقل عن شوية جري و تمرميغ و تدرميغ يوماتي في تراب الحوش لحد ما نفرهد و سدورنا تتملي من غبار التراب. نطلع الفصل من غير لا ادمغة في روسنا و لا أعصاب في بدنا و لا مروة في أطرافنا. و السنة ما كانت ش أي سنة. كانت سنة الثانوية اللي ح تحدد مصيرنا طول عمرنا.
بس زميلنا "زغلول..." ـ يمسيه بالخير لو كان للساع طيِّب ـ هو اللي اكتشف اكتشاف فريد ما كناش شايفينه مع إنه كان موجود تحت منخيرنا. و بطبيعة الحال ما بخل ش علينا باكتشافه:
ـ موش ملاحظين وياي، الشاويش بتاعتنا، بييجي لابس "ملكي"، يعني بيداري على "شاويشيته"، لحد باب المدرسة، و بعدين يدخل أودة التربية العسكرية بتاعته و يطلع لنا لابس أفروله؟

تاني يوم استنيناه بدري قبل جرس الدخول على محطة السكة الحديد ع الرصيف اللي جايب م الضواحي. و فعل ن اللي خمنناه ورا "زغلول..." طلع ما يخرش الماية اللي هي الماية: صايد تلميذة و ماشي وياها عمَّال يرغي رايح جاي باللبس الملكي الآخر شياكة.
عملنا من نفسنا طابور. و كل واحد مننا يدخل عليه، و هو لازق فيها، يرفع إيده بالتحية العسكرية لسيادته و يرمي عليه تحية الصباح:
ـ صباح الخير يا شاويش!
و يدِّي سكة للي وراه: كنا 42 تلميذ، بالتمام و الكمال مااتأخرش مننا و لا واحد.
و هب ركبنا جناح الريح وصلنا المدرسة لقينا الجرس يادوب كان بطّّل دق، و هالة الصوت للساها بتحُوم حولين منه.
كان سهل عليه يرصد أن هو فصل هو "المُجرم القارح" اللي عرَّاه، بين الفصول الإتناشر بتوع المدرسة.
يوميها سيادته طلَّع زمايلنا الفصول و اندار ناحيتنا و هو شايط. و لولا جنانه و شياطه و انفعاله، السر الكبير ورا فرض مادة التربية العسكرية على كافة مدرسة ثانوي في مصر ما كان ش وقع من حنكه:
ـ تعرفو إن اللي واقف قدامو بـ "الأفرول" دا في جيبه دا...
و خبَّط على وركه اليمين. و كمِّل:
ـ نمرتين تلفون لو اتصل بأي واحدة منهم، الدبابات ح تتحرك م "القشلاقات" تيجي تحتل "منوف" بتاعتكو دي!!!

الصـــاغ ك.حسين:

"يوسف الحجَّاجي" حكى قال:

في سنة 1954 الصاغ "ك. حسين"، اللي فشل مرتين ياخد البكالوريا(=الثانوية العامة دا الوقت) و دخل الكلية الحربية بـ "الثقافة" و دي كانت شهادة توازي في الوقت الحالي سنة تانية ثانوي، اختلف وي كبير المفتشين بتاع اللغة الفرنساوي في عموم مصر. طلب ـ الظاهر ـ طلب عسكري من طلباته، كبير المفتشين دا قال له: يا افندم دا ما ينفع ش.
بطبيعة الحال الصاغ كان قاعد و المفتش واقف قدامه.
و لما المفتش رد الرد دا، سيادة الصاغ اتنتر من ع الكرسي بتاعه لف طلع من مكتبه. ضرب كبير المفتشين بتاع اللغة الفرنساوي بـ /الشلوت/.
كبير المفتشين بتاع اللغة الفرنساوي وصل البيت في مربع شارع "طوسون" بشبرا من هنا و سر الإلاه طلع من هنا.

تسييس التعليم:

سافرنا إحنا أشطر تلامذة في مدرسة "منوف" الثانوية في سنة 1959 ، يعني بعد اعلان الوحدة المصرية-السورية في 22فبراير/ أمشير 1958 بسنة بالتقريب. فالريس السوري "شُكري القوتلي" كان جا "الكاهرا" لاجل يحط بلاده على طبق فضة قدام "الزعيم الملهوم". و سفرنا كان بمناسبة حلول الذكرى بتاع الوحدة دي لمدرسة "التل الكبير" قرب "الزقازيق" عاصمة مديرية "الشرقية". و كنا الأشطر في كافة فروع العلوم اللي بندرسها، في إطار برنامج زي برنامج "أوايل الطلبة". فالتصفيات النهائي للوجه البحري كانت بين مدرسة "منوف" و مدرسة "التل الكبير" و الفايز م المدرستين ح يمثل الوجه البحري. و كنا بكدا بنمثِّل مديرية "المنوفية"، قُصاد طلبة "التل الكبير" اللي بيمثلو مديرية "الشرقية".
و "الحر الفقير" كان مِشترك بـ "قصة قُصيَّرة" و كان معانا شاعر كان واعد اسمه "محمد أحمد حمد". و في "التل الكبير" اتفاجئت بقصة قُصيَّرة بتمثِّلني و بالتالي بتمثل "المنوفية" قدام "الشراقوة". القصة دي مالهاش صلة بالقصة بتاعتي اللي فازت في "منوف" و اللجنة اعتمدت تمثيلها للمدرسة و بالتالي للمديرية. قريت القصة الغريبة لقيتها بتحكي عن شخصين واحد مصري و واحدة سورية. الاتنين اتجوِّزو بعض. و لما خلِّفو سمو المولود إيه؟ "وحدة". و لما عبَّرت عن استغراب متبطَّن بالاحتجاج. جاني رد أغرب متبطَّن باحتجاج أشد من مدرِّس اللغة العربي و الدين. بس أكدب لو اقول إن "الحر الفقير" فهم له معنى في الوقت المُبكر دا من حياته:
ـ انت باين ما انت ش عايز ترجع "منوف" معانا!
القصة القُصيَّرة المتفبركة مافازت ش. و حتى لو فازت ما كنت ش ح أشعر وي الفوز بأي فخر.
نفس الأمر بالتقريب حصل وي زميلي و صديقي العزيز الشاعر: لقا قصيدة المُدرسين بتوع اللغة العربي ألِّفوها له، و اتقدِّمو بها باسمه و باسم "المنوفية". القصيدة كانت تمجيد، مجاني، في سيادة "الزعيم الملهوم" و توصل في الطول ي أربعين ي خمسة و اربعين سطر(=بيت). و دي القصيدة اللي "حمد" قعد خجلان منها قدامي طول عمره، أما أنا فتنتني حافض منها أبيات لحد قرِّيب، و خصوصي المطلع بتاعها اللي بيقول:
صباحٌ أطل وضيء الغرر على نشوة الطير فوق الشجر.
نبيٌّ أتانا لهـــدي البشر و "شُكري" أبو بكرها أو عمر!
....إلخ

الأستاذ وليــم:

من أستاذي "وليم حاجة"، أستاذ الكيميا، اللي عرفته في سنة 1959اتعلمت إن فيه علاقة قوية بين المعرفة و الشجاعة. فالجُبنا يستحيل يكتشفو و لا يخترعو و لا حتى يفكَّرو تفكير مستقل. كان يبتدي الحصة بمعلومة جديدة لنج، فالأستاذ كان بيقرا دوريات علمية عالمية، إيه؟ ما اعرف ش، بس كنت باشوفها تحت باطه طالع داخل بها في أودة المدرسين. و وقتها ما كنت ش عارف إيه "المجلات" اللي دايم ن دافس منخيره فيها دي. يا ترى كانت "نيتشر" و لا "ساينتيفيك أمريكان" و لا غيرها؟ ح اعرف ما اين.
و في يوم و في أول الحصة وقف وقفته: فارس و قال:
ـ العلما نجحو من يومين اتنين يرجَّعو واحد مات للحياة من تاني!
اتاخدنا. اللي سأل:
ـ معقول دا يا أستاذ؟
و اللي استفهم:
ـ إزاي يا أستاذ دا حصل؟
أما الحر الفقير فقال:
ـ و تنه صاحي أد إيه بعد ما قام م الموت؟
غيرشي الأستاذ ما قدرش يرد على أي سؤال م الأسئلة دي، نتيجة لهيجان الصف الوراني ـ أغبى و أجهل طلبة في الفصل ـ اللي اتكلمو كلهم في نفس واحد:
ـ ماتقول ش الكلام دا!
ـ الكلام دا أصل ن حرام!
ـ دا كُفر ما بعده كفر!
بس الأستاذ "وليم" وقف وقفته لاجل يقول:
ـ و انتو مالكو انتو بدام ربه اللي خلقه وافق على رجوعه للدنيا تاني!
نسيت أقول لكو إن العُرف أيامها كان بيفرض قُعاد الشطار في التخت القدمانية و الأقل شطارة وراهم.

في نفس السنة دي 1959 الصاغ "كمال الدين حسين" وزير التربية و التعليم(=المعارف) فرض الدين كمادة أساسية في المدارس. و من يومها و الفصل بقا يتقسم كل حصة دين لـ " مُسلمين و مسيحيين". و اختيار ناظرنا "غبريال ثالوني يسى" وقع ع الأستاذ "وليم" يدرِّس الديانة المسيحية للطلبة المسيحيين، زمايلنا اللي بيطلعو في الحوش طول ما بناخد حصة الدين بتاعتنا إحنا المُسلمين في الفصل. و الاختيار دا هو اللي فجَّر خناقة لرب السما بدت في أودة الناظر، و اتنهت في الحوش بين اتنين فُرسان: الناظر بكل شراسته و جبروته و الأستاذ "وليم" بكل رقته و صلابته. و لحد دا الوقت للساع فاكر، اللي ما فهمت هوش لحظتها لما قال للناظر في الحوش على مرآى و مسمع الكل:
ـ حضرة الناظر الفاضل أنا بني آدم، ما اني ش مكنة...
ـ يعني إيه يا أستاذ الكلام الفارغ دا؟
ـ الكلام اللي حضرته بتقول عليه فارغ دا معناه: ما اقدرش أدرس كيميا يعني علم الصبح و بعدين أدرِّس عكسه بعد الضهر. و ادي استقالتي تحت أمرك أهه!

حاكم العراق الجاي:

في سنة تالتة ثانوي، كنا وصلنا درجة التشبع بـ "مقولات" الناصرية. بس أشهد إن درجة التشبُّع ما كانت ش واحدة عند كل واحد فينا. و الدرجة دي كانت بتبتدي م "التمني" لحد "الإيمان". فواحد زيي كنت باتمنى في ديك الوقت لـ "مقولات" العهد الناصري تتحقق، و لو انها بدت لي بعيدة المنال، وي تسليمي وقتها بمشروعيتها. أما أعلى درجة إيمان فكانت من نصيب "س.ح.عبده"، و دا كان متفوق في اللغة الانجليزي بالذات، و كنت ساعات كتير ألاقي ني باتنافس وياه ع المركز الأولاني في اللغة دي. و مع التنافس بيننا ربطتني به علاقة طيبة. فالأصول الحاكمة لحد ديك الوقت ما كانت ش تسمح غير بالتنافس الشريف. و خلال العلاقة دي عرفت إن سته بمعنى "جدته"، حسب لغوة بندر "منوف" و زمامها، كانت محوَّطة على أرض "حكر"، يعني كانت بركة و اتردمت، زي برك كتير غيرها صادفت نفس المصير في بحري. و الجدة دي خصصت المطرح دا لربط الحمير المجروحة، ع شان اصحابها ما ينزلوش بها السوق، و إلاَّ يعرَّضوها للحجز في "الشفاخانة" لحد ما تخف. فـ "الشفاخانة"، حسب لغوة الزمن دوكهات، كانت مظهر من مظاهر وجود "الدولة القومية" اللي بتقوم بدورها في الحفاظ على ثروة المجتمع. و فاكر كويِّس إن "تجريش" البهيم" حمار، بغل، فرس...إلخ كان يكلف صاحبه في "الوكالة" دي، حسب تسمية الفلاحين لها، تعريفة طول اليوم، يعني نص قرش.
كلنا كنا "ناصريين"، وازاي ما نكون ش "ناصريين" لحد النخاع، و احنا منقوعين في دنين: دن التعليم العسكري و دن شقيقه اللي هو الإعلام العسكري. بس "س.ح. عبده" كان بالغ شويتين في ناصريته. و بصفتي صاحبه الروح بالروح كشف لي في لحظة تجلِّي على فنجال شاي حبر عنده في البيت. وطَّا على ودني. همس:
ـ أنا ح أبقا حاكم العراق!
ـ إزاي؟
ـ سيادة الريِّس ح يوحد العالم العربي، و بطبيعة الحال ح يحتاج حكام للدول العربية و أنا ح أكون خلَّصت جامعة و ح أصر أمسك حاكم العراق بالذات...
بص في عيني جامد بتوجُّس. استفهم:
ـ تعرف كمال "أتاتورك"؟
ـ مالك و ماله؟
ـ اسمه معناه "أبو الأتراك"...
ـ و إيه يعني؟
ـ الزعيم الخالد الذكر هو أبونا، زي كمال ما هو...
ـ "البكباشي الملهوم" دا هو في رأيك أبونا؟
ـ إنت أصل ك يا صاحبي منضم من زمان لحزب "خالف تُعرف"!

روحي يا ايام تعالي يا ايام "س.ح.عبده" إتخرج م الجامعة و اتجوِّز طبيبة أمراض نسا، و سافرو فعل ن، بعد ما الدنيا داقت في وشهم في مصر، لحتة قُريبة أوي م العراق: "الكويت"، اللي هي تصغير "الكوت" العراقية. و في ليلة من ذات الليالي و على وش الفجر، دقو عليه الجرس اربع شبان كوايتة. إيه؟ عندنا/ حالة وضع/ و اتفضل سيادتك مع الدكتورة في العربية "البويك" اللي واقفة دي. و الخطة كانت مرسومة بعقل ما ناقص هوش الذكاوة. فحسب كل التقاليد المرعية، و الطبية، الاتنين سوا، الدكتورة لازم تدخل لوحدها ع اللي بتولد. و بالتالي "البعل" لازم يستنظر في الصالون اللي بدا "خط النهاية" بالنسبة لقدمينه، أما الصوات اللي ح يطلع بعد كدا بدقيقة مافي ش غيرها، فمين اللي ح يقدر يفرَّق بسهولة بين حس واحدة في حالة وضع و واحدة في وضع اغتصاب!

جامعة أسيوط:

"أمينة شفيق" حكت في برنامج "صباح دريم" يوم الجمعة 28 يوليو/أبيب 2008 الساعة 25و12 قالت:
د. سليمان حُزيِّن مُؤسس و أول مدير لجامعة "أسيوط" كان من رأيه يبنو الجامعة (38 ألف فدان) شرق "أسيوط" في الصحرا. بس ما قدرش ع شان القيادة السياسية وقتها(=البكباشي الملهوم) قالت: لأ.

مدينة العمال:

أول مشروع "الانقلاب العسكري الأمريكاني" في مصر خطط له كويس و نفذه هَوا هَوا كان "مدينة العمال" في "إمبابة"، اللي كانت بالنسبة لسوق "روض الفرج" اللي مصر كانته لروما. و المشروع "الناجح" دا بلع مساحة معتبرة من أجود الأراضي الزراعية على "ترعة السواحل"، اللي "الحر الفقير" استحمى فيها و كل من خيرات ضفتينها في أواسط الخمسينات. و المشروع كان عبارة عن عدد م الوحدات السكنية للتمليك، كل وحدة عبارة عن "بلة" دروين للسادة العمال. و بطبيعة الحال هتاف السادة العمَّال دول هتافهم ورا زعماتهم النقابيين ـ بصرف النظر عن نجاح البكباشي الملهوم" في رشوة الزعما دول ـ تسقط الحرية/تسقط الديموقراطية كان للساه عالق في الجو.

وحدة مصر مع العرب:

دعوة حكومة الريس الأفغاني الطبيب خريج موسكو "نجيب اللاه" ليَّ في ربيع سنة 1990هي اللي جمعتني في "كابول" ـ عاصمة أفغانستان ـ على مايدة فطار رمضاني ويَّ وفود دول العالم، اللي بيسموه "إسلامي" و حتى اللي ما بيسمُّوهوش "إسلامي" اللي لبًّو دعوة "كابول". و كنت واحد من وفد مصر، اللي ضم وقتها برلمانيين و ممثلين و دُعاي و كذا كام صييت يعني قراي قرءان و اتنين صحفيين، و أنا التالت، بس الظاهر الاتنين دول اختصاصاتهم كانت أوسع. أما المايدة فكانت بطول صالة فندق "شيراتون-كابول". و في وسط الأكل اتنبهت إن صحفي م الاتنين اللي كانو أعضاء في الوفد اسمه "عبده حاجة" بدا يحكي:
ـ ... الوفد المصري كان برياسة سيادة "الريِّس" و عضوية المشير ـ و مافي ش مشير إلاَّ المشير ـ و موش فاكر مين و مين من رجال الثورة. و الوفد العراقي كان برياسة "على صالح السعدي". و بطبيعة الحال قعدة الرُّيسا الاتنين جمعت دا قصاد دوكهاوت.
و اتنحنح في إيده في قعدته عالي، زي الحنبوط، و كمِّل:
ـ العقدة كانت باختصار: "على" عايز استفتا ع الريس الجديد بتاع الاتحاد الثلاثي، اللي كان مطروح، بانضمام العراق، لـ "جمهورية العربية المتحدة". و الجمهورية دي كانت بتضم وقتها بلدين و بالتعبيرالوحدوي: الإقليم الشمالي (سوريا في السابق) و الإقليم الجنوبي(مصر في السابق). و كان رد سيادة الريس على "علي": أنا ماني ش "كيرنسكي"(1) و قام وقف. الاجتماع انفض لتاني يوم في نفس الميعاد.
و عرقص لكو "عبده" رقبته بتشامخ و ضاف:
ـ "علي" رجع الفندق اللي كان نازل فيه، اللي هو "شيراتون-الكاهرا" لقا بنت لونة لعبية شويتين في "اللونج". علَّقها طلعت وياه الجناح بتاعه. البنت دي كانت أجمل و أشقر ممثلة الشاشة في مصر عرفتها، اللي هي "ن. لطفطف".
شعري وقف في قعدتي، بصيت عليه، جحَّرت له لاجل يقطم يسكت، ما سأل ش في مدهبي. و زوِّد قال:
ـ ع شان بس تشوفو رجالة "الثورة" بتاعتنا كانو بيتفانو إزاي في سبيل خدمة قضية الوحدة العربية!
أعمل إيه لاجل أحوشه ما يكمِّل ش؟ سألت:
ـ مين الرجالة دول؟ و مين يرضى يسمِّيهم، أصل ن رجالة؟
بص لي سكت ن بُكم ن. و ح يواصل، رحت مجاوب على سؤالي بنفسي:
ـ قصدك عيال المخابرات، اللي ما لهم ش أي صلة بالأمة المصرية!
المرة دي حس، بضرورة الرد عليَّ، خصوصي و صوتي كان واضح، سيان بالسؤال و لاَّ بردي عليه، و الحاضرين لا هم قليلين و لا أي كلام. قال في إشارة موش عايزة مفهومية لشخصي:
ـ فيه مثل بيقول: "التركي بيفهم آخر واحد".
هزيت دماغي لاجل استوعب. رديت:
ـ ح افوِّت ها لك دي يا "عبده"!
رده ما إتأخرَّش:
ـ لأ ما تفوت ها لي ش!
دُست ع الحروف بين اسناني:
ـ ح افوِّت ها لك، بس لو كررتها موش ح اضرب ك إلاَّ بدي...
و إيدي إنمدت ع اللي في رجلي، و دوغري إنحدفت لكو عليه. هبو وقفو حجِّزو بيننا. قعدت و قعد و الكل استريَّح في الكرسي اللي تحته. و لزهولي إستأنف:
ـ تاني جلسة تاني يوم في نفس الميعاد. سيادة الريِّس ميِّل في قعدته قصاد "علي صالح السعدي" اتلايم على ودنه. همس:
ـ إن شا اللاه تكون اتبسطت يا أخ "علي" ليلة إمبارح!
"علي صالح السعدي" لقط. إنسخط حجر. قعد ساكت مزهول ما حدش يعرف أد إيه، و بعدين قام وقف في الكرسي بتاعه، و وراه الوفد العراقي. و خدو بعضهم ع الفندق.
طلع لكو "علي صالح السعدي" الجناح بتاعه، لقا صوره وي "ن. لطفطف" و هم عريانين زلط-ملط مفرودة، صورة ريح اختها ع السرير.
يعمل إيه الوفد العراقي؟ خدو لكو بعضهم و طلعو ع المطار. مين اللي كان في وداعهم غير "المشير". و هو بيسلِّم سلام الوداع، "علي صالح السعدي" وطا على ودن "المشير" قال:
ـ أظن المراة دي مرات واحد من قُوَّاد الجيش المصري!
و اتطلَّع لكو "عبده" في عينين الحاضرين بيض و صُفر و سود و قال بأسى:
ـ ع شان تشوفو مصر كانت مستعدة توصل لحد أن هو سقف...
و عصر نفسه في جملة كان مستنظر منها ـ الظاهر ـ تفرتك قلوب السامعين:
ـ "تقدم" أجمل ممثلاتها للزعما العرب، في سبيل بناء دولة الوحدة، اللي أجيال ورا أجيال عاشت تحلم...!
إتنهى الفطار. و في صالة الفندق لقيته واقف وي الصحفي التالت "سعد حاجة" عمالين يتودودو. دخلت عليهم قلت:
ـ أنا عارف كويس إنك ح تكتب عني تقرير للجهات بتاعة ك، بس عايز أقول لك لو ح تشنق ني بكرا موش ح اسمح لك توجه لي أي إهانة من أي نوع النهار دا، حتى و لو الإهانة دي كانت بتنطوي على إهانة لنفسك و لبلدك ... تعرف تقول لي يشرَّف أن هو مصري في أن هو عصر "تقديم" أي مصرية لأي أجنبي مهما كان نبل و نبالة الهدف؟
و بصيت ع الصحفي التاني و قلت:
ـ نفس الكلام ينطبق على سيادتك إنت راخر بالملليّ.
(1) "أليكساندر فيودوروفيتش كيرنسكي" (2 مايو/برمودة 1881ـ 11يونيو/بؤونة 1970) إترأس الحكومة الروسية الموقتة من يوليو/أبيب لـ أكتوبر/بابة 1917، يعني بعد القياصرة و قبل البلاشفة.

جبــر و اجبـــار:

في سنة أولى بالنسبة لي يعني في سنة 1961 واقف في قسم انجليزي قدام لوحة الجرايد باقرا الأخبار. و المانشيت الرئيسي كان: "قرارات يوليو الاشتراكية" اللي هي قرارات التأميم، اللي جات دوغري ورا القرارات اللي الإعلاميين المأجورين سموها وقتها "قرارات التمصير". و بابص لقيت طالب، جفونه مهدولة على عينيه و وشه ماسح، يعني م النوع اللي ساعة ما ينخفي من قدامك تنساه، بيقول:
ـ ما انت ش شايف معاي يا زميل، إن قرارات دي يعني كدا بالجبر و الاجبار، غصب عننا لازم ننفذها. إتعدلت له و قلت، و كلي إيمان بكل حرف بيعدي على لساني:
ـ "الثورة" لما قامت وعدتنا بست وعود، أول واحد ...
و طرشت اللي طفحولي في المدرسة. لقيته اتبسِّم و طلب مني طلب بان لي غريب شوي:
ـ ممكن نتمشى سوا لغاية "بين السرايات"؟
سألت:
ـ إي ش معنى "بين السريات"؟
ـ ع شان احنا الاتنين ساكنين هناك.
هزيت دماغي و قلت:
ـ مافي ش مانع.
مشي ريح مني و كل شوي كان يتطلع لي، من فوق لتحت زي ما يكون بيوزن ني. و في الآخر قال:
ـ الحقيقة أنا كنت ناوي أنشِّك النهاردا..
استفهمت:
ـ يعني إيه تنشني دي، و تنشني إزاي و انا كنت عملت لك إيه؟
ـ ما تخلِّي ش مخ ك ياخدك لبعيد أوي كدا، كنت ح اكتب فيك يادوب تقرير...
ـ يعني إيه؟
ـ يعني أرفع فيك تقرير للجهات العُليا إنك معارض.
ـ مُعارض؟ لايه؟
ـ بس لقيت ك مية المية أهه: مآمن بالثورة و أهدافها و زعيمها، يعني ميت فُل و عشرة.
استفهمت:
ـ و كنت ح تعمل فيَّ ليه كدا؟
ـ بدو يشتكو مني...
ـ يشتكو منك؟
ـ آه بيقولو إن انا بديت أكسِّل و دليلهم على كدا: عدي أسبوعين بطولهم ما كتب ش فيهم و لا تقرير.
ـ طيب و إيه زانق ك على كدا؟
ـ ما انا شغَّال معاهم.
ـ مع مين؟
شوح بإيده اليمين و ما شرح ش أزيد من كدا. لاكن كرر نفس اللي قاله بنبرة أعلى:
ـ معاهم؟
ـ معا...؟
ـ أيوا.
ـ مُخبر؟
ـ لأ و انت السادق "مُرشد"
و شرح لي الفرق بين دا و دا. و ضاف:
ـ بيُّدوني تسعة جني شهري، وحشين؟
ـ تسعة جني بحالهم (ماهية خريج جامعة في الوقت دا)؟
و هنا لقيت تبسيمة سالت من ملامحه زي الريالة و وطا على ودني و قال:
ـ ما تيجي معانا؟
ـ معاكو فين؟
ـ تشتغل.
ـ أشتغل إيه؟
ـ مُرشد.
اتبسِّمت من زاوية بُقي. قلت:
ـ ع شان أدُور أنش زمايلي تقارير...؟
ـ هو انت ح تنش أي حد...
ـ طبع ن ح انش أي حد.
بان عليه استغراب. استفهم ما تعرف ش من قلبه و لاًّ من بقه:
ـ إزاي؟
ـ يعني لو ما لقيت ش مُعارضين، ح اخترعهم ع شان التسع لحاليح يستمرو.
هز دماغه قال:
ـ بس وافق و ح تشوف الامتيازات اللي ح تلاقي نفسك متنغنغ فيها، يعنى مثل ن، لو اتمسكت في أي حتة وحشة، موش هي، كدا كدا...، ح تطلع م "المسكة" زي الشعرة م العجين...
وهنا كنت فقدت اللغة معاه. قلت:
ـ تصبح على خير.
و خدت بعضي و روَّحت و انا باسأل إزاي واحد زي دا يعرف طريق سكني من غير ما نكون لا اصحاب و لا حتى معارف.

الجنرال أيوب خان:

قاعة جامعة "الكاهرا" كانت في الوقت دا أكبر القاعات في طول و عرض "المحروسة" و "البكباشي الملهوم" اتعود يعمل مناسباته فيها. و دا اللي وفَّر لنا إحنا الطلبة و بالتحديد لوشنا يقابل وشه كل شوي. و المناسبة دي كانت استقبال حاكم عسكري لباكستان في سنة أولى بالنسبة لي يعني سنة 1961. الضيف الجنرال وقف قال كلمة، اتسربت كلها بالحرف من تقوب ذاكرتي، جايز ع شان كانت "بروتوكولية" زيادة. و الدور جا ع المضيف "البكباشي الملهوم" راح يم المنصة بطريقته العسكرية الناشفة. وقف. عدل المكرفون. طلَّع الورقة اللي ح يقراها من جيبه. رجع حط إيديه في جيوبه. كل دا و الهتافات شغالة بحياته و حياة الثورة بتاعته. و الطلبة في سكرة نشوتهم بدو يدبدبو برجليهم في الأرض و شوي و طلعت صفافير هنا و هناك في اركان القاعة. و الحقيقة الطلبة كانو زوِّدوها حبتين. و فجأة اتلفتنا لقيناه دخل حط بقه في سماعة المكرفون قدام منه و شخط:
ـ بطَّل هتاف انت و هو و اقعد ساكت!
كل دا جايز يكون طبيعي من بكباشي ملهوم زيه عايز يسكِّت جمهوره ع شان يقول كلمته. لاكن اللي ضربني بالذهول هو: ساعة ما شخط اتلفت لقيت على سدري دراعين، دراع اتمد من على يميني و التاني م اليمة التانية. و وي الدراعين صوتين طلعو بأمر واحد في نفس الوقت:
ـ اقفل بق ك!
المعنى كان واضح: القعاد في القاعة ما كان ش أي كلام، لاكن كان طالب فمرشد فطالب فمُرشد ...إلخ. و بعبارة تانية: المُرشدين يعني الطلبة اللي شغالين ع الطلبة زمايلهم كانو بالقليل خالص نُصنا. و دا شيئ صابني وقتها يالزهول. بس دق أول مسمار في نعش الإيمان بـ 23 يوليو/بؤونة.

سلام "البكباشي الملهوم":

نفس اليوم اللي الجنرال "أيوب خان" زار فيه "جامعة "الكاهرا"، و قبل الطقوس بتاع الاحتفال بالزيارة ما تبتدي، و في اللحظة اللي "البكباشي الملهوم" كان بيستعد فيها للقعاد في الكرسي بتاعه، لقينا د. "رشاد رشدي" ريس قسم انجليزي ـ بتاعنا ـ اندفع زي صاروخ من كراسي الأساتذة يم سيادته و سلِّم عليه إيد بإيد. زيد على كدا إيد الملهوم" تنتها ماسكة إيد "الملهوف" فوق عن دقيقة كاملة، و طول الوقت دا الملهوف كان نازل رغي مع "الملهوم". قال له إيه ما قال لهوش إيه؟ دا سؤال خارج الموضوع المهم الرسالة اللي "السلام" الطويل بمعيار متعين سابها وراه كانت وصلت وجهتها: تسجيد جميع الريسا و الزملا و المرؤوسين بتوع د. "رشاد رشدي".

آمال عبد الحكيم:

في سنة أولى قسم انجليزي يعني في سنة 1961 ، و في الوقت دا كنا بدينا نتحرر ِسنَّة من كابوس "الناصرية: م الانكار للإعتراف، يعني من إنكار وجود أي سلبيات بالمرة للإعتراف بوجود سلبيات صحيح، بس السلبيات دي مسؤولية "المُحاوطين"، اللي بيخبُّو عن "الزعيم" معلومات و يوصلو له معلومات بعينها، يعني بدا يرسخ في عقلنا المصنوع في مصنعين التعليم و الإعلام المقولة دي: الطقم اللي محاوطة ما هو ش معصوم، و لو أننا كنا للساع مأمنين بإن الزعيم نفسه معصوم، . و اذكر في الايام دي إزاي زميلتنا "أمال" في القسم، و لو انها ما كمِّلت ش معانا، لسبب ما اعرف هوش، كانت تقف معانا في صحن القسم، و هي بتعصر في نفسها و مافي ش بينها و بين البكا بدموع حاجة و هي بتقول لزهولنا كلنا:
ـ و رحمة الميتين لي "ماماِ" طلبت ميعاد من سيادته و راحت حكت له بالتفصيل و بالصور و الوثايق...
واحد مُعيد كان واقف معانا استفهم:
ـ قصدك موضوع "وردة الجزائرية"؟
ردت بخفة دم وسط الألم:
ـ "وردة" و أخواتها!
الجميع كركر بالدحك.
و لما سألتها:
ـ و ما عمل ش حاجة؟
بصت لي من سكات و طوِّلت و بعدين قالت:
ـ طبع ن ما عمل ش أي حاجة.
للحق لسان و للسدق رنة.
روَّحت يوميها و انا مزهول، موش فاهم أي حاجة في أي حاجة.

و الحــــل إيه؟

في سنة 1962، دا لو ذاكرتي ما خانت ني ش، كنت في سنة تانية قسم انجليزي. و في السنة دي حصل خلاف بين حكومة "البكباشي الملهوم" و بين الحكومة اليونانية، حولين إيه؟ ما اني ش فاكر، يعمل لكو إيه عسكري زي سيادته؟ لغى قسم كلاسيك(اليوناني-اللاتيني).و بالتالي "فاروق فريد"، المُعيد بالقسم اللي كان بيدِّينا لاتيني، نزل موظَّف في مكتبة الكلية، و محاضرات اللاتيني وقفت.
رايح المكتبة العامة بتاع الكلية لقيت لكو مين؟ غير "فاروق فريد" قاعد في الصالة ورا مكتب برجول مهرتمة و متصلِّبة .
حوِّدت عليه.
و من ساعتها قعدت أنتهز كل فرصة و أي فرصة و أخطف رجلي أقعد معاه. صحيح كان من بلدنا يعني قريبي، فالبلد، كانت وحدة اجتماعية قايمة ع الجواز الداخلي، ما حدش يتجوِّز من براها و لا حد ش غريب يتجوِّز من جواها. و بالتالي كنا كلنا قرايب. و "قاروق" بالذات كان من ناحية أمي و من ناحية أبوي. بس من ناحية أمي كانت أوضح سِنة: ستي من جهة أمي و سته من جهة أمه كانو اخوات. غيرشي علاقة القرابة دي ما كان ش أساس العلاقة اللي ربطتنا ببعض. جايز تكون قدرتي ع الإنصات؟
قعد يحكي لي عن مشروع رسالة الدكتوراة، اللي كان ناوي يستكمله في "أتينا": إعادة تخليقRecreation مدينة يونانية كانت موجودة في "الفيوم" و صبحت في خبر كان و إزاي الورق بتاع البعثة قعد متأخر خمس سنين، كل ما يعرضوه على "ع. صبري" يتلفت حوالين منه:
ـ يعني إيه يوناني دا؟
ـ الظاهر كان قصده يقول جريجي!
ـ جريجي! يعني عايزين يبعتوه للخواجة خريستو بتاع البسطرمة عشان يعلِّمه!

و في يوم سألته:
ـ طيب و الحل؟
صن. صن و بعدين بدا:
ـ يظهر قايد عظيم...
قاطعته:
ـ تاني قايد عظيم؟
رد:
ـ قايد عظيم، موش خريج كلية حربية، لاكن واحد في راسه رؤية موش ...
طعَّمته:
ـ بيادة؟
وضَّح:
ـ كدا زي "بركليز" و لاَّ "الإسكندر"...
رجع صن. استعجلته:
ـ و بعدين؟
ـ يمسك الشعب المصري مسكة جامدة و فجأة...
ـ فجأة إيه؟
ـ يرميه في البحر.أة يرميأ

مين يسمع الكلام دا، ديك الوقت، وما يدحك ش؟
لقيت وشه غيِّم. مط بوزه لقدام. قال:
ـ أنا باتكلِّم بجد.
ـ بتقول بجد؟
ـ عارف ليه؟
ـ لا طبع ن.
ـ عشان دا لو حصل جايز أوي حد أي حد يعدي يبص يلاقي الوادي صفصف، و ما بقاش فيه سرِّيخ، يقوم يقول لنفسه كان هنا شعب عظيم بنا حضارة عظيمة كانت قبلة العلوم والفنون للعالم المأهول في الوقت دا، فجايز يترحَّم علينا، لاكن دا لو ما حصل ش، ح نتننا عايشين لغاية كل من يفوت علينا يسد منخيره و يديَّر وشه اليمة دكهات.

أول ناصري:

في محطة "القللي" افترقنا، "أ. ع. عبيدة" و أنا زي ما بنفترق كل يوم خميس، من ساعة ما اتعرفنا على بعض، ويومها سمَّعني و احنا بنلف كتف في كتف حولين مربَّع قسم انجليزي، قصيدة جديدة كان نشرها في مجلة اسمها "الأدب" بتاع "أمين الخولي" للساع فاكر أول سطر فيها:
ـ "البؤس يا رفاقي ضريبة العباقرة"
بس ما افترقناش المرة دي ع شان "عبيدة" ياخد أتوبيس بلده "العمار الكبرى"، لاكن لاجل "يتفرَّج" على موكب الريِّس ـ موش فاكر فخامته كان رايح فين، و لاَّ راجع من اين ـ بس سمعنا الزيطة و الزمبليطة و الهتافات و صوت المُذيع ح يطربق السما في الروادي إيه؟ سيادته عمَّال يوصف في عريس الموكب:
ـ و هاهو يبتسم، و ها هو يتطلع إلى مستقبل مصر الزاهر، و هاهو يُلوِّح بيده و لسان حاله يقول، كما قالها من قبل عشرات المرات: إرفع رأس ك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد، و هاهو... و ها هو...إلخ
دعاني أشاركه الفرجة ع الموكب الحي من قُرب. مطِّيت بوزي. قلت:
ـ للساي ح اركب من "مطار" المنوفية مسافة 65 ك،
هو صر و أنا صريت. ساق حجج و رديت. قال:
ـ دي فُرجة.
ـ تتعوَّض!
ـ و ببلاش!
ـ لما ترخص كمان شويَّ.
طلق آخر طلقة الظاهر في جعبته:
ـ بس ما ننساس إن "عبد الناصر" هو اللي قال: إرفع رأس ك يا أخي ...
في نص الشعار سيبته و مشيت من غير وداع، على اعتبار إننا ح نتقابل كدا كدا الساعة 9 صباحية السبت في مدرج 66 أكبر مدرَّج في قسم انجليزي.

يوم السبت ما ظهرش، لا الساعة 9 و لا طول النهار، قلت في عقل بالي: أكيد ح ارجع الشقة اللي كانت متاويانا في عزبة "دلاور" غرب ترعة "أبوقتاتة" ألقاه.
رجعت لقيت الحيطان بتاع الشقة بتُصفُر. و فين بعد نُص الليل، الباب خبَّط، قمت أفتح إلاَّ و القالكو مين؟ "عبيدة" و موش "عبيدة": ناقص الشنطة السودا، اللي ما كانت ش بتفارقه زي ما تكون حتة منه و أي حد يعرفه كان يعرف طوالي إنه ساكن جواها، و فعل ن كان قافلها بقفل صيني أد جميزة باط ـ في وش العدوـ زي ما بنسك على أي باب. ففيها كان دارز كل حاجاته و محتاجاته: فانلاته و شراباته و كتباته و كراساته و زيد على كدا قمع سُكر "سنترفيش". و لما الشنط ما كانت ش بتنطق، فكانت تبقا مغزورة و ح تطرشق، لاكن ما تقدرش تقول له، لا لأ و لا عيب. " عبيدة" وقف في الباب و هو ناقص الشنطة السودا المبطرخة اللي ما كانت ش بتفارقه و لو إن "مفاتنها" كانت تقدر تغوي أي جهاز أمن و الإي ش لما يكون صاحي و مبرنق لاجل يحرس مين؟. غيرشي "عبيدة" ذات نفسه كان زايد عِمة حولين دماغه و شناط في كتفه معلَّق فيه دراعه اليمين.
وقفنا إحنا الاتنين في وش بعض، لا هو قادر يحكي، ولا أنا قادر أسأل: فالحكاية كانت واضحة، و الجواب سابق سؤاله. وقفتنا طالت قدام بعض في باب الشقة، و بان لي كويِّس، إنه موش قادر يعترف باللي حصل. فالاعتراف بأي شيئ حصل له ح يدفع رياح جديدة في شراع المركب بتاعتي، اللي واخدة و زاقة عكس تيار التفاؤل و الاستبشار بـ "العهد الجديد"، و لا أنا قادر أسيب شماتتي تطلع على لساني في زميلي و صديقي و اقرب انسان مصري لي في القسم بتاع اللغة و الأدب الانجليزي.
فضلنا واقفين سكت ن بُكم ن. و احنا واقفين لقيته زر جفونه و بدا يدوَّر في عينيَّ ع اللي كنت باعافر أخبِّيه عنه. و فجأة لقيت وشه غيِّم و بوِّز و حواجبه انزرت. و لاجل اكسر الجمود في الموقف شاورت له و قلت:
ـ ما تدخل!
بدل ما يدخل و لا حتى يرد، لقيته قال بتشامخ:
ـ بس اتأسفو لي!
في الآخر دخل قعد على حرف السرير. رجاني:
ـ ما تطعني ش تاني في أعز حلم عندي. أبوي مات ما شفت هوش، و امي حصلته، فـ "عبد الناصر"، اللي موش عاجب ك دا، بالنسبة لي أب و أم و مُستقبلي و كل شي في حياتي...
و حسس ع العمة، ما تعرف ش الجرح نقع عليه و لاَّ إيه و قال:
ـ و هو لو يعرف باللي بيعملوه الزباينة دول من وراه، موش ح يسكت أبدن أبدن أبدن!
و وي كل "أبدن" كان يخرط الهوا بسيف يمينه.

دي كانت أول "تجربة" م النوع دا الظاهر ـ صديقي "أ.ع. عبيدة" يمر بها، بس ما كانت الأخرانية. ففي كل مرة يستنظر رؤيا "البكباشي الملهوم" وسط جماهير الأمة. يقف ساكت زي أي مواطن بس في مكان استراتيجي، لحد العربية اللي عليها العين ما تظهر، و هب يحدف نفسه و هو ماسك في إيده الجواب/الشكوى اللي مدبجه أربعة و عشرين قيراط من أسبوع فات بالتقريب. بس حظه اللي ما كان ش و لا بد يخليه يطب كل مرة قبل ما يوصل هدفه بهمسة مافي ش غيرها في إيدين السادة "المُخبرين". و دول كانو الحقيقة متفانين في عملهم طول فترة حكم "زعامته"، ما تعرف ش إن كان عن إيمان و لاَّ عن إيه بالظبط. و طبيعي التفاني اللي كان فوق الوصف و مقطوع النظير دا ينعكس في "علقة" توصَّل صاحبنا لحدود الموت. بس كان بيطلع من كل "تجربة" م النوع دا بنفس الدرس القديم اللي بيدور حولين "عصمة الزعيم و قلة ضمير المحاوطين" و جايز دا كان السر ورا تكرارها مرة بعد مرة.

ا. كـــروم:

ما تعرف ش إيه حواه يشتري مترين قماش بفتة شاهي ُشكك، في الحقيقة قسَّط التمن، ساعة ما الراديو ذاع إن سيادة "الزعيم الملهوم" ح يزور "بولاق". و دوغري خدهم ـ وقت القضا يعمى البصر ـ ع الخطاط كتب له اليافطة دي: /فتوة بولاق يحيي فتوة العالم/ و مضى اسمه بالنيابة عنه. يا ترى كان ِزهق و لا قِرف من حكاية النشل و السطو المسلح بالعصا؟ و حلم بإيد "البكباشي الملهوم" بتنمد له بشغلانة كدا و لاَّ كدا؟ و لاَّ الحكاية كانت مجرد شعور غميق بإن "البكباشي الملهوم" ح يشرَّف في بيته: "بولاق أبو العلا"، و اقل واجب ع المضيف يحيي ضيفه تحية مُعتبرة م النوع دا.
بس اللي حصل، ناس مجهولين خطفوه، على وش الفجر لاجل ينخفي "ورا الشمس". ما تعرف ش برده ليه. و لما رجع ما حدش عرفه، حتى قرايبه، غير فين لما واحد منهم حقق في عينيه جامد، مع أنهم كانو غيَّرو لونهم العسلي القديم. أما هو فقفل بقه خالص مالص، لحد أقرب القريِّبين منه ما افتكرو الخرس صابه و عقَّر في لسانه خلال الفترة اللي طالت لحد الكل ما قرَّب ينساه، قرايبه زي ضحاياه.
و بمرور الوقت، "فتوة بولاق" اتنقل م السرقة بنوعينها: النشل و السطو، لمد الإيد للمحسنين.

باتريس لومومبا:

في الشتا بتاع سنة 1962سكننا في شقة في عزبة "دلاور" زميل شرقاوي كان في كلية التجارة اسمه "سيِّد حاجة" و انا. و خلال الفترة دي زارنا ، شخص قريب "سيد" زميل السكن دا. عملنا معاه الواجب أربع و عشرين قيراط. وقعد يفضفض:
ـ اشتغلت وياهم بماهية معتبرة، "مُرشد" ...
استفهمت:
ـ حتى في الثانوي التجاري لهم عيون...
كمِّل ع الملاحظة بتاعتي:
ـ و الزراعي و الصناعي و العام.
و سكت و بعدين ضاف:
ـ و في يوم طلبوني رحت لهم لقيتهم بيقولو لي: تعرف فلان قلت أعرفه، سيادة الأميرلاي (=العميد) اللي كان قاعد على راس الترابيزة صحح لي كلامي قال: لأ ما تعرف هوش و بس. دا صاحب ك الروح بالروح، و ما تحاول ش تخبي أي معلومة عننا، ع شان احنا نعرف دبة النملة. و كل معلومة تقولها لنا لازم تكون كاملة، ما ناقصها ش خردلة، مفهوم؟ قلت: مفهوم يا "باشا".
صن شوي و بعدين قال: و ع شان كدا اخترناك تأدي المهمة دي. فسألت: مهمة إيه يا افندم؟
و ضيفنا الهُمام انعدل في قعدته و زوِّد قال:
ـ زميلي دا كان خد الثانوية العامة و قرا الظاهر عن الجامعة اللي موسكو فتحتها تكريم لذكرى "باتريس لومومبا" رئيس وزراء الكونجو المنتخب، بعد اغتياله قام بعت لها جواب عايز يسافر يكمِّل هناك...
ـ و بعدين؟
ـ و لما الجوابات كانت بتعدي ع الرقابة عيني عينك و أي جواب أي حد يبعته في مصر لازم يفوت عليهم و لما يوصل ـ دا لو كان مكتوب له يوصل ـ لوجهته يكون مفتوح و مقري و ملزوق عليه شريط ورق: اتفتح بمعرفة الرقابة ع البريد. و بكدا كان طبيعي الجواب اللي كان مفروض يروح موسكو يقع في إيديهم. و للسبب دا، الرد بتاع "جامعة "لومومبا" يتأخر كتير على صاحبي، و لما الجامعة اتأخرت عليه نسي هو الموضوع و ضرب ع الفكرة عوافي.
استعجلته:
ـ هييه!
ـ رحت قلت لهم ع اللي عندي عنه، و في لحظتها العميد اللي كان قاعد قام من على مكتبه لف و هب سفخني حتة دين قلم، بصيت لقيتني ملزوق في الأرض. و ما اتأخرش داس على رقبتي باللي في رجله و شخر شخرة غوازي و شخط شخطة أُسود:
ـ ي انت ي هو! اصحى! ح تروح ورا الشمس الدبان الأزرق ما يعرف ش لك طريق جُرة!
و كمِّل وسط زهولي و زهول قريبه اللي جاي يزوره:
ـ و بقت هنا مهمتي أقعد أزن أزن على ودن صاحبي بأهمية الدراسة في جامعة زي جامعة "لومومبا" في موسكو و جايز، ليه لأ، يقعدوك هناك تكمِّل لحد الدكتوراة، قولو تنتني وراه لحد ما سجِّدته، و لما لقيته استوى رحت مسِّجل له...
ـ إزاي؟
ـ ساعة تبص لها تلاقيها بتضوي بس بتسجِّل.
ـ و هو فين زميل ك دا دا الوقت؟
هز كتافه. قال:
ـ إي ش عرَّفني...
و زوِّد قال:
ـ بس أكيد ورا الشمس...
و دحك. و بطبيعة الحال ما حدش مننا احنا الاتنين لا قريبه و لا أنا شاركه دحكته اللي بدت برا السياق. بس موش عارف إيه اللي بان ساعتها على وشي لقيته زر حواجبه و ركز عينيه على ملامحي و بعدين وضَّح:
ـ حاكم اللي يسأل على أي حد، طب، حتى و لو كان أبوه و لاَّ أخوه و إي ش حال صاحبه، بيحصَّله طوالي.
استفهمت:
ـ عملت كدا في صاحب ك الروح بالروح؟
موش فاكر قال إيه بس اللي فاكره قعد يمدغ في الكلام في بقه فالسؤال بلاغي يعني موش محتاج لجواب أي جواب. أما أنا فرشقت عينيَّ في الأرض استلهم الخطوة الواجب أخطي ها في الموقف دا. و فجأة لقيت ني اندفعت يم الباب فندقته على وسعه. و شاورت لسيادة "المُرشد" ع الباب و زعقت من ضوافري:
ـ برا!
ـ إحنا دا الوقت على وش ...
ـ عندك جامع على راس الشارع.
ـ بيقفلو الجوامع عُقب كل صلاة...
ـ خلاص نام على باب الجامع للصبح.
اتطلَّع لقريبه، قريبه و زميلي في السكن دوَّر وشه بعيد. و لزهولي لقيت سيادة "المُرشد" استجاب لصباعي مع إنه كان يفصل مني بالراحة تلات –ت-انفار. و الظاهر كان للساع جواه شيئ صاحي ساعد في هزيمته قدامي.
قعدت اضرب اخماس في أسداس، عقلي شاتت و عيني برا محاجرها، بس أعْوص سؤال حيَّرني ساعتها: إزاي يكون للنظام العسكري الحاكم سياستين متناقضتين بالشكل دا، واحدة في العلن و دي قايمة ع التمجيد الدايم للزعيم الافريقي، و التانية في السر، كل اللي يقدِّم جواب للدراسة في جامعة شايلة اسمه ينخفي ورا الشمس؟

"بن جوريون":

لولا اختراع التلفزيون ما كناش عرفنا إن سيادة المُشير، دايم ن النوم يكبس عليه في المؤتمرات و الاحتفالات و الأعياد بتاع الثورة المجيدة بتاعتنا، حتى و الزعيم الملهوم نازل يخطب فينا. و ما كان ش يصحيه إلا موجة التسقيف اللي بتتفجَّر كل شوي خلال الخطاب.
و في مرة تسقيف الختام اتفجَّر خلال احتفال بعيد الثورة المجيدة في قاعة جامعة "الكاهرا". قام سيادة المشير صحي. و ما تعرف ش اتنبه لوحده و لاَّ حد نبهه. قول اتوجه يم الميكرفون ع شان يقول كلمته. و الكلمة كانت قُصيَّرة، و قُصيَّرة أوي، حتى على راجل عملي دُنيوي، مالـ هوش في التنظير.
مد بوزه حطه في الميكرفون. و جعر:
ـ إطلع لي برا يا "بنجوريون"!
في الوقت دا "ليفي أشكول"، موش "بن جوريون" هو اللي كان ماسك ريِّس الوزرا في إسرائيل.
سؤال طرأ على دماغي: هو سيادة المُشير كان نايم من إمتى بالظبط؟

مصطفى رجب:

في سنة تالتة بالجامعة، يعني سنة 1963، إتلفتنا لقينا جدع عمره في حدود تلاتين سنة قاعد معانا في المدرَّج، بس موش مشغول زينا بالمحاضرة، و كانت، لو الذاكرة سعفت ني، في مادة الحضارة Civilization، : عينيه لايدة عمَّال "يسحر" بتسبيل عينيه من باب الوله للبنت دي، و لما "سحره" ما يأثرش يتنقل على غيرها، و كل شوي يمد إيده اليمين يوزن بزازه في كفتها. و شوي بعد شوي يطلَّع "مالبورو" من جيب القميص المنقرش بتاع جنابه ـ و المنقرش كان للساع ايامها لبس البنات ـ و يسحب سجارة، و فعل ن يولعها. و لما الدكتور كان يتجنِّب يبص يمته. قمنا فهمنا إنه "سُلطة". فالعرف و الذوق و كل شي يمنع شرب السجاير خلال المحاضرة، و في الآخر الـ"الهيبة" المعنوية للمحاضر، و دي كانت أنقح بالنسبة لأي طالب من أي سلطة تانية معروفة.
فين عرفنا إن سيادته ظابط سوري وحدوي شايل اسم "مصطفى رجب"، و هرب عن طريق لبنان لمصر. و في مصر "البكباشي الملهوم" أمر لسيادته بمرتب شهري ماية و خمسين جني،(كنت عايش وقتها في "الكاهرا" سكن و أكل و شرب و مساريف بـ 4 جني) و شقة تمليك و عربية فيات 131.
غيرشي اللي غطا و زاد زميل لنا سوري، برده، اسمه "أحنف حاجة" بس دا كان بعثي، من أتباع "ميشيل عفلق" و "صلاح البيطار"، و بيعادي الوحدة بتاع "البكباشي الملهوم" على طول الخط، بس بطريقة لولبية مراوغة، صمم يجيب سيادة الظابط السوري الوحدوي ـ بغرض مجهول ـ لاجل يحضر معانا قعدات المذاكرة في بيت كل واحد مننا.
و تن سي "مصطفى رجب" دا كل ما نقول يا هادي و نبتدي، يحوِّل القعدة لجدال سياسي، و لحن القرار عند سيادته كان: "الشعب المصري غبي، و "عبد الناصر" هادا نبي". و طول ما بيزيد و يعيد سي "أحنف" يداري دحكته في إيده و يلم شفاتيره و يعمل إنه مُتيَّم بالحديت و أنا من ناحيتي عمال أبص في عينين زملاتي المصريين على أمل أقابل ومضة احتجاج، ما القاش، زي ما يكون الشعب اللي سي "مصطفى رجب" بيتكلِّم عليه لا هو منهم و لا هم منه، زي شعب الاسكيمو.
و في يوم الكيل فاض بالحر الفقير. سألت بأدب:
ـ تحب تسمع يا أخ "مصطفى رجب" رأيي في الموضوع؟
رد:
ـ إتفظَّل!
اتعدلت و قايست و اديت و انا باقول لنفسي مطرح ما ترسي دق لها:
ـ حقيقة الأمر الشعب المصري ما في ش أي شعب لا ذكي و لا نبيل و لا عظيم عنه بين كل شعوب الأرض، و مافي ش غبي و لا مُنحط و لا خسيس إلاَّ "عبد الناصر" بتاع ك اللي ورَّانا خلقتك...
و لمِّيت كتبي و رزعت الباب على كعبي.
"عفيف توفيق فرَّاج، اللبناني الدرزي زميلي في الوقت دا و صديقي الروح بالروح بعد كدا ما جاب لي ش سيرة باللي حصل بعد ما مشيت، بس زمايلي المصريين حكو:
ـ "عفيف" هزهز دماغه مرة و اتنين و دمدم ع الحروف: لعلمك يا اللي انت مسمي نفسك "مُصطفى موش عارف إيه"، الأخ (و ذكر اسم الحر الفقير) كان ضيفي، و أنا مضيفه، يعني لو شعرة اتمسِّت في راسه، ح ارد عليك و على أهل ك في "القامشلي"، و أنا لاجل بس أفكَّرك درزي!

د. روفائيل:

كنا في مدرَّج 78 أكبر مدرَّج في كلية الآداب بنحْضر محاضرة شعر القرن التسع-ت-اشر، يعني اللي النقاد اصطلحو على تسميته "الشعر الرومانسي"، و المحاضرة عبارة عن قراية و شرح قصيدة "كوليردج" المشهورة باسم "البحار العجوز":The Ancient Mariner، و د. "روفائيل" (فوق عن سبعين سنة) كان يغمَّض عينيه لاجل يشوف ـ الظاهر ـ أكتر. و يفيض علينا فيوضات تربط القصيدة باليونان و الرومان و أساطير الهند و جنوب شرق أسيا...إلخ.
و في عز ما د. "روفائيل" شغَّال لقينا بوز جزمة نطت م باب المدرَّج، و درفيتين الباب اترزعو، كل واحدة على جنب، و دخل لكو وراها طالب، وقف يكلِّم د. "روفائيل" ما سمعناش ربك و الحق قال له إيه و لاَّ طلب منه إيه، بس بصينا لقينا د. "روفائيل" طاطى لاجل يسمع و لما سمع هزهز قمع صوابعه للطالب دا، بمعنى: بعد شوي!
في اللحظة دي د. "روفائيل" كرافتته المفتولة منها لوحدها زي حبل اتدلدلت، و هب الطالب دا اتلايم لكو ع الحبل المدلدل لواه على إيده و جبد منه د. "روفائيل" الهش العضم بفعل السن، و زعق باللي سمعناه من مطرحنا، كل واحد في "البنش" بتاعه:
ـ و حياة روح امك لارمي ك في السجن يا ابن المراة الشرموطة!
اللي خمِّنناه، ساعة ما الطالب دا اتزرع في صحن المدَّرج بقا حقيقة ما عايزة ش لا نباهة و لا فكاكة. و لما فهمنا الفهم دا شل عضانا و لبش قلوبنا، إحنا المصريين كل المصريين. مين ما فهم ش اللي فهمناه غير زميلنا "عفيف توفيق فرَّاج" قام محدوف من باب المدرَّج، و لحسن حظه ـ باين ـ لقا ريِّس الحرس الجامعي و كان برتبة "صاغ" واقف ع الباب. "عفيف" اندفع قال:
ـ الحق يا خيو هادا الطالب هان الدكتور.
سيادة "الصاغ" شال إيده زق "عفيف" في كتفه و هو بيقول بتأفف:
ـ إمشي انت ما لك ش دعوة بحاجة.
الفهم بيطق في المخ مرة واحدة زي ما يكون بردقانة ضي.
بصينا لقينا "عفيف" اتحوِّل لعقل و ضمير لنا كلنا: طاطى حط إيديه، واحدة تحت عراقيب رجلين سيادة الظابط و التانية تحت قفاه و هب شاله لفوق و جلد به الأرض، مرة و مرة و كمان مرة لاجل خاطر المرعوبين اللي زينا، و في كل مرة زئير سبع كان يطلع يفلق الهوا:
ـ أنا تبع "كمال بيك"!
و بعد ما نهى مهمته في لزق "صاغ" الحرس الجامعي في الأرض زعق:
ـ أنا في السفارة اللبناني!
عرفنا مين "كمال بيك" دا بعدين و الأهم الرعب اللي كان ملبِّشنا تنه لابد في تلافيف مخنا، إحنا المصريين" بس المرة دي انعكس في إيمان غميق لضم ما بيننا في تواني قُليِّلة: "عفيف" راح ورا الشمس، زي المُصطلح ما كان ماشي بيننا احنا المصريين في ديك الوقت.
تاني يوم لقينا "عفيف" حاضر ويانا ـ لزهولنا و خزينا ـ من أول محاضرة.
إيه الموضوع: شخص اسمه "عارف عبد الرزاق" لا له صفة و لا نعة، لا حد سمع عنه لا قبل كدا و لا بعد كدا كان عمل انقلاب " في "بغداد"، لصالح "البكباشي الملهوم". و في الحالات دي و اللي زيها، "العسكروت" الحاكم كان يوقف الدراسة الجامعي ع شان يجبرنا نمشي نهتف للنسخة الجديدة م الزعيم الأصلي: "البكباشي الملهوم". و بطبيعة الحال "المظاهرة" المتفبركة دي ما كانت ش تمشي كتير عن عشر خطاوي بالعدد و كل من هو يضج من تمثيل دور الديل وي الديول اللي عمالة تهتف لشخص مجهول، ما حد ش يعرفه، و لا يعرف حد يعرفه.

رئيس أركان حرب الأدب:

في أوايل الستينات و في "دار الأدباء" في القصر العيني قصاد بالتقريب "روزاليوسف" في الدور التالت، دا لو الذاكرة ما خانتني ش، بس الأكيد لا كانت في الأولاني و لا في الأخراني، كنت قاعد في الصف القدماني، وشي كان في وش الناقد الكبير صاحب "النقد المنهجي عند العرب" د. محمد مندور، المناقش الرئيسي ليلتها لعمل أدبي موش فاكر إن كان ديوان شعر و لاَّ مجموعة قصص. بس انا ضهري كان للباب و هو عكسي. الناقد الكبير كان قاعد قدامنا، على كرسي زي كراسينا، زي عادة كل النداوي في مصر في الوقت دا ، يعني ما كان ش فيه قولة منصة عالية عن الحضور. و بالتالي الترابيزة اللي قاعد عليها كانت بسوى قعدتنا. و في وسط ما سيادته كان مطهوم في تفصيص و تحليل البنية و النسيج بتاع العمل. بصينا لقيناه فجأة، طلّع بُقه م المكرفون، اللي منصوب قدامه و وشْوشنا، إحنا اللي قاعدين قدام منه:
ـ أظن الأوان آن نتنحى، بدام رئيس أركان حرب الأدب وصل.
اتلفتنا على كتفنا لقينا مين داخل وسط شلة، اللي بيجري قدامه و اللي بيخب وراه، اللي شايل الشنطة، و اللي مجرَّد بيحفلط حولين منه، غير الصاغ "يوسف السباعي"، اللي كان ماسك وقتها اللي الانقلاب الأمريكاني في مصر سمَّاه "المجلس الأعلى للثقافة و الفنون و الآداب"؟

الفريق "عبد المنعم رياض":

"عبد المنعم رياض" من أشرف و أنزه و أكفأ القادة اللي العسكرية المصرية عرفتهم خلال الفترة الناصرية. زيد على كدا كان من أكتر العسكريين المصريين وطنية. بس الظروف اللي صادفت استشهاده كانت غريبة شوي.
إزاي الراديو يعلن الصبح عن زيارة "الفريق" رياض للجبهة المصري ع الضفة الغربي لقناة "السويس" قبل الزيارة ما تتم الضهر!. فالإعلان دا محل تساؤل. فمافي ش شك إن الفريق "رياض" رتبة كبيرة في الجيش المصري، قايد أركان حرب يعني هدف غالي بالنسبة للإسرائيليين، و وصوله لمرمى نيرانهم ع الضفة الغربي، فرصة دهب لصيدانه. و الإي ش لو تسمع من راديو مصري إن سيادته ح يكون موجود في الحتة الفلانية الساعة العلانية بالتقريب؟
الراديو رجع علن الضهر "استشهاد" الفريق" رياض.
مين بين المصريين كلهم تم ن يقدر يسدَّق حتى في أتعس الكوابيس إن الرصاصة اللي فرتكت مخ "الفريق" رياض لا كانت اسرائيلية ، و لا طالعة م الضفة الشرقي للكنال؟
فالرصاصة كانت من مدى قريب أوي ما يزيدش عن كذا سنتيمتر. زيد على كدا جات له في قفاه، زي ما جريدة أمريكية ما نشرت في الوقت دا، موش لا في سدره و لا قورته، يعني موش من ضفة بني اسرائيل.
الألغاز دي فضلت من غير حل لحد الصدفة ما جمعتني وي زميل صحفي مخضرم حل لي كل الألغاز دي مرة واحدة. قال:
في مظاهرات الطلبة عُقب الهزيمة اللي الإعلاميين المأجورين، و ما اكترهم، سموها "نكسة" و بالتحديد عُقب الأحكام الخفيفة اللي المحاكم ـ و مابقا ش عندنا من فجر يوم الأربع الاسود قضا مستقل ـ نطقت بها على كبار القواد العسكريين. المظاهرات بتاع الطلبة اتفجَّرت و خصوصي في جامعة "الكاهرا" و جامعة "اسكندرية" و جامعة "المنصورة" و غيرها كتير. و السؤال اللي اتردد وقتها على لسانهم و بالتالي سيطر على هتافاتهم: مين المسؤول؟ و في مظاهرات جامعة "فؤاد الأول" (=الكاهرا) اتردد الهتاف دا:
ـ {لا صدقي و لا الغول، عبد الناصر هو المسؤول.}
بس النفَس بتاع الطلبة الاسكندرانية ـ الظاهر ـ كان أطول. غيرشي الدنيا "شتِّت" هناك جامد.
و هنا اتنقل عن لسان "الفريق" رياض وقتها إنه اتحسَّر على نزول المطر في اللي كانت عروس البحر المتوسط، إيام "العهد البايد" و بالتالي الطلبة انسحبو منهم لوحدهم م الشوارع. و نفس المصدر كمِّل قال إن "الفريق" رياض قال: لو الطلبة استمرو في مظاهراتهم 24 ساعة كمان كنت قدرت أحرك قواَّت كفاية لاعتقال "البكباشي الملهوم" و تقديمه لمحاكمة نزيهة ما تتلقاش منطوق الحكم اللي ح تصدره بالتلفون!

مؤتمر الإنتاج:

في سنة 1965، "البكباشي الملهوم" عقد مؤتمر باسم "مؤتمر الإنتاج". و دا المؤتمر اللي ضم السادة العسكريين، و بينهم ""ألف صاغ"، اللي سيادته سلّم سيادتهم إدارة القطاع العام . و دا القطاع اللي ضم الشِّرَك و المؤسسات و المنشآت اللي سيادته أممها من اصحابها "الرأسمالييين" اللي سيطرو، حسب، جهاز الإعلام بتاع سيادته ع الحكم خلال "العهد البائد".
و خلال المؤتمر دا زعامته زعق من ضوافره في المكرفون. قال:
ـ إذا ما عرفناش نقود فـ ح نحكم!

دهب مصر:

جوز خالتي، و كان موظِّف كبير في البنك المركزي، حكى:
ـ كنا واقفين، إحنا الموظفين المصريين في البنك، و الغطا الدهب بتاع الجنيه المصري: بيتحمِّل في عربيات الجيش، لاجل يسافر لليمن على متن الطيارات الحربي. ليه؟ ع شان يتحدف م الجو على قبايل اليمن لاجل "تتجمهر"، يعني تعلن تأييدها للجمهورية. الجمهورية اللي العسكروت الحاكم في مصر نصَّب في انقلاب عسكري شخص اسمه "عبد الله السلال" ريِّس لها، بعد العسكروت دا ما منحه رتبة "المشير".
و كمِّل حكيه قال:
ـ كنا واقفين سكت ن بُكم ن حولين سناديق الدهب اللي عمالة تطلع من فصوص عينينا. فطبيعي نكون عارفين أربع و عشرين قيراط، إن الدهب دا هو عرق و دم المصريين. و طبيعي أكتر نكون وقتها خايفين لاعينينا تغلبنا و دموعها تفر، نلاقي نفسنا رحنا "ورا الشمس".

رجل دولة:

"محمود الجيار"، سكرتير فخامة "البكباشي الملهوم" لشؤون موش فاكر إيه، حكى في مذكراته اللي "روزاليوسف" نشرتها له، عُقب رحيل فخامته، قال:
خلال زيارة "البكباشي الملهوم" لواحد م المصانع في إطار برنامج زيارة لـ "يوجوسلافيا" ـ و سي محمود الجيار دا كان ضمن المرافقين ـ بنت "البكباشي الملهوم" ـ موش فاكر "هدى" و لاَّ "منى" اتكعبلت وقعت ع الأرض قدام أبوها "البكباشي الملهوم". تفتكرو سيادته ح ينحدف يوطِّي يرفع بنته من وقعتها، زي أي أب؟
سي "محمود الجيار" كمِّل علَّق قال بفخر و افتخار:
ـ و اجبن سيادة "الزعيم الملهوم" راجل دولة بالمعنى، رفض الانحناء!

يوم دراسي كامل:
(1)
استعجل ني:
ـ آي و لاَّ...
رفعت عيني فوق كتفه لقيت عينين "البكباشي الملهوم" في عيني. ردِّيت:
ـ يعني نكتب العقد بـ 17
صحح:
ـ و نص: أجر الليسانس بتاعك.
كمِّلت:
ـ و بعدين أقبض 9 جني و الباقي "كمبيالة" بـ 8 و نص؟
وضَّح:
ـ اتناشر كمبيالة تمضي هم دا الوقت وي العقد. و كل شهر تاخد حقك اربع و عشرين قيراط: تسعة جني حلال بلال و كمبيالة. فميزانية المدرسة زي ما فهِّمت ك.
ـ ما تسمح ش تتعاقد بمرتب ليسانس.
ـ و في نفس الوقت ما تقدرش تخالف القانون. و لاَّ انت سيادتك عايزها تخالف القوانين الثورية اللي الزعيم الخالد الذكر حطها مخصوص ع شان يأكد انحيازه لـ...
ـ الطبقة العاملة؟
رفعت عيني لقيت "البكباشي الملهوم" راشق عينيه في عينين الحر الفقير من داخل إطار متدهَّب ع الحيط فوق دماغ السيد ناظر المدرسة.
جيت أحسبها بين و بين نفسي: يعني لو سيبت المدرسة لأي سبب ح أكون مديون لسيادته بكام؟ حسِّيت بالتعب.
(2)
واقف في الفصل باشرح في أول درس، ليَّ في المدرسة، و كان انجليزي، لقيت الأستاذ "محمود الجنايني" اللي الناظر قدم هو لي بصفته مدرس التربية الرياضية و المشرف ع المدرسة و دحك و صحح نفسه بنفسه: "دينامو" المدرسة من غيره قول ع المدرسة يا رحمان يا رحيم، واقف في باب الفصل و بينادي على تلميذ عندي:
ـ مُحسن!
بصيت على "مُحسن" وسيم و رقيق. استفهت:
ـ ماله "مُحسن"؟
ـ خمس دقايق يادوب!
ـ ليه؟
ـ عايزه ينقل معاي كشف
ـ عنده حصة زي ما انت شايف!
ـ دول خمس دقايق مافي ش غيرهم.
بصيت على "مُحسن". سألت:
ـ تحب تخرج؟
لقيت "مُحسن" خدوده زنهرت. حط و شه في الأرض. قام وقف في مطرحه، استعداد للخروج.
رجعت للدرس، بس الفار بدا يلعب في عبي.
خطفت رجلي قزحت السلم و ع السطوح و في أودة خشب بغدادلي اللي خمِّنته طلع ما يخرش الماية. وقفت مزهول.
الأستاذ الدينامو" زرر. و "مُحسن" وقف يترعش. رفعت له البنطلون. ساعدته في تظبيط هندامه. سألت:
ـ إيه اللي خلاَّك تطاوعه؟
ـ قال لي ح اسقَّط ك لو ما طلعت ش معاي.
ـ السطوح دا؟
ـ أيوا يا أستاذ.

زريت جفوني. هزيت دماغي بتأني. قلت:
ـ ما يقدرش يسقَّط ك بدام مجاوب صح!

لما الناظر استدعاني. ما جاش على بالي غير سيادة الناظر بدا تحقيق و عايز شهادتي. ظني خاب.
كنت للساع ح اخطي العتبة أدخل، لما سيادة الناظر قال:
ـ إنت سيادتك متقدم فيك شكوى!
ـ مين اللي مقدمها؟
ـ الأستاذ "محمود الجنايني".
ـ "دينامو المدرسة"؟
ـ أيوا
ـ بخصوص؟
ـ سيادتك سيبت الحصة و طلعت السطوح.
ـ ما قال ش لما طلعت السطوح لقيت إيه في وشي؟
ـ لأ، بس بيقول إنه شافك واقف بتزرر هدوم تلميذ اسمه "محسن" في سنة أولى أول.
ـ ما قال ش مين اللي حل له زرايره؟
ـ موش عايزة نباهة: اللي اتقفش و هو بيزررها له!
ـ يعني أنا؟
ـ شوف! احنا لو جبنا "مُحسن" دا الوقت تفتكر ح يأكد كلامنا و لاَّ كلامك؟
صن شوي، موش كتير و بعدين استفهم:
ـ فإيه رأي ك؟
ما فكَّرت ش أكتر من ثانية و رسيت إن أي مرعوب لازم يخذل أي حد يدافع عنه. وقفت ساكت. بص الناظر كسر جمود الموقف. طوَّح دماغه قال:
ـ شوف! أنا ح احتفظ بالأوراق دي عندي, و موش ح احوِّل ك للتحقيق إلاَّ إذا اتكررت منك.
(3)
واقف في وسط الفصل في حصة "تاريخ" لقيت اللي فزع نط واقف:
ـ جرا إيه يا أستاذ دا؟
ـ فيه إيه؟
ـ إيه يا أستاذ دا؟
ـ إيه اللي حصل؟
ـ إزاي تقول "عمر بن الخطاب" حاف كدا؟
ـ أمال عايزني أقول إيه؟
ـ سيدنا "عمر بن الخطاب" عليه السلام يا أستاذ!
ـ بس إحنا في حصة "تاريخ" موش دين!

الناظر طلبني و قبل ما اخطي ادخل مكتبه سيادته قال:
ـ متقدم فيك شكوى تاني بس دي بتقول إنك "مُشاغب".
ـ مُشاغب؟
ـ أيوا رديت على مفتش الوزارة قدام العيال في الفصل و بوَّق ت فيه باعلى مافي عزمك و برده قدام العيال، و أنا رجيته ما يصعدش الموضوع بس ح احتفظ بالشكوى، هي روخرى، في الملف بتاعك و موش ح اطلَّع ها إلاَّ إذا اتكررت منك.

بس انا كنت فلاح لئيم: من أول ما كتبنا الكومبيالاات الاتناشر، اللي اتعلقو في رقبتي ما كتبت ش عنواني الحقيقي. و بالتالي طلعت م المدرسة في آخر اليوم رافد نفسي بس طاير بجناحين.

أول ضـــربة:

حكت بنت أخت اللوا عثمان نصار ـ واحد من كبار القيادات في حرب 67 ـ و دي اسمها كان "ليلى القوصي" و زميلة عمل في شركة "مصر للطيران". و كلامها كان نقل عن خالها:
قبل حرب الست ساعات "الزعيم الملهوم" بايام حضر للجبهة لاجل يطلب تحويل الخطة الحربي من هجومية لدفاعية، يعني ناخد أول ضربة و بعدين نرد.
القادة الميدانيين اعترضو على أساس الطبيعة الجغرافية لسينا. فدي لازم تكسِّب اللي ينفذ الضربة الأولانية الحرب طوالي.
و هنا "البكباشي الملهوم" رد ":
ـ دي أوامر القيادة السياسية، و على أي حال اسرائيل موش ح تغامر بدخول الحرب معانا.
و سابنا زعامته و مشي ـ دا مين اللي للساه بيتكلم؟ اللوا "عثمان نصار" ـ و خلال تحويل الخطة من هجومية لدفاعية إسرائيل نفذت الضربة الأولانية و الأخرانية!!!

شخصية كبيرة:

عُقب إصرار "البكباشي الملهوم" على انتشال نفسه م المسؤولية عن الهزيمة، اللي الإعلام العسكري بتاع سيادته سمِّاها له "نكسة"، و بعدين زهق ـ الظاهر ـ من كلمة "نكسة" و لاَّ اتكسف ما تعرف ش فراح راجع لصوابه العسكري و سماها "نصر"، إزاي؟ كُتر الأسئلة موش كويِّس. و في الإطار دا "المشير" صديق "البكباشي الملهوم" الروح بالروح اتنحر، زي "إلاه الكدب" في مصر ما قال في جرناله، و لاَّ "استنحروه" زي ما شاع إيامها على كل لسان بس في الدرا. و في الحصة دي "البكباشي الملهوم" قرر يسافر و الأحسن ييجي لأسوان، موش فاكر ع شان يحتفل بإيه في "السد العالي".
"أسوان" اللي لونها كان إسود غطيس، فتح و بقا أبيضاني. اللي مركون على سجرة و اللي دافس منخيره في جرنال معدول مقلوب زي بعض. و بالتخمين كل البلاد اللي زي "أسوان" ع الخط م "الكاهرا" و طالع شهدت نفس التغير السكاني.
و في ليلة قبل الفجر ما يشأشأ، لقيت "خالد حاجة" زميلي في "شركة مصر للطيران" بيصحي ني من عز النوم. انلفجت زعقت:
ـ فيه إيه؟ و عايز إيه بالظبط؟
ـ عايزك تقوم تيجي معاي...
ـ ليه رايح فين سيادتك؟
ـ طالعين المطار...
ـ الساعة دي؟
ـ أيوا.
زهق قال:
ـ دقيقتين اتنين إن ما قمت ش غيَّرت هدوم ك، زنب ك على جنب ك.
ـ فهِّمني ح نطلع المطار ليه دا الوقت؟
ـ فيه شخصية كبيرة ح توصل.
ـ طيب ما تطلع انت كفاية.
ـ ما ينفع ش.
و فتح الباب و خرج و سابه وراه مفتوح.
قمت غيَّرت هدومي و نزلت لقيت عربية الشغل. ركبت ريح سي "خالد". و السواق داس بنزين.
في الطريق سألت:
ـ مين يا سي "خالد" اللي ح يوصل مطار "أسوان" اللي ما يزيدش عن كحكة وسط المطارات التانية، رئيس مجلس إدارة؟
"خالد" بص لي، و هو زامم شفتيره، خوف الظاهر ليخونوه.
وقفنا، "خالد" ع اليمين و "أنا" ع الشمال. شوي و لقينا طيارة هيلوكوبتر حطت. المراوح بطلت دوران. باب الطيارة انفتح، طلع منها عون وقف على أول السلِّم ما في ش غير نص دقيقة. اتطلَّع يمين و شمال زي ما يكون ببيثبِّت الأشياء، كل الأشياء حتى البشر، حتى الهوا. و بعدين اتحوِّل لسهم انقض باتجاه العربية "الجيب" اللي دخلت لحد أقرب نقطة عربية من نوعها تقدر تقربَّها من طيارة هيلوكوبتر. و العربية "الجيب" انخفت في الضلمة الكحل.
شفنا السليوليت بتاع "بروفيل" وشه المعروف. و من منقاره ، الساميsemitic المعكوف مطرح المنخير، عرفنا هويته بس طشاش نتيجة للعتمة اللي خيِّمت ع المكان، فالتعليمات كانت ـ الظاهرـ طفيان كل نور و أي نور بعد الطيارة ما تعمل تتش:touch للأرض. أما "خالد" فما حب ش يفوِّت الفرصة. ميِّل على ودني و احنا في طريقنا م المطار للبلد. قال:
ـ شُفت رئيس مجلس الإدارة بتاعك!

عزبــــــة:

ظابط م اللي سمُّو نفسهم "الظباط الأحرار"، بس كان محسوب، ع الأقل من ناحية بعض الناس، على شلة اللوا "محمد نجيب" هو "ج.حماد" حكى في محطة فضائية هي "الجزيرة" مع المذيع "أحمد منصور":
ـ لما "النكسة" حصلت و اتضح مسؤولية "البكباشي الملهوم" و رفيقه عن الهزيمة المرة، حتى قدام عينيهم. "جمال". سأل "حكيم"":
تفتكر مين ينفع رئيس جمهورية دا الوقت؟
قام سيادة "المشير" رد:
ـ "مافي ش غير شمس بدران"!

نفس اللوا حكى في نفس المحطة و في إطار نفس الحلقات قال:
ـ شفت بعيبني عسكريين برتبة فريق بيلبِّسو العقيد "شمس بدران" الجزمة. و بعد ما يلبسو هاله ما ينسوش يطَّمنو:
ـ إن شاللاه تكون مريَّح(ا) ك يا افندم!

مجهــــود حربي:

عُقب هزيمة بؤونة/يونيو لجان "الاتحاد الاشتراكي" غطت أرض "المحروسة" تطالب المواطنين بالتبرع للي سمُّوه إيامها "المجهود الحربي" ع شان إيه؟ ناخد تارنا م اليهود.
و اللي حصل و كان لجنة من لجن "المجهود الحربي"، دا نزلت "سرس الليان" قابلت أول واحد ع الكبري في أول البلد، سألوه:
ـ تحب تتبرَّع بإيه لـ "المجهود الحربي"؟
الراجل الفلاح وقف موتِّب، و عينيه عمَّالة تتطلع لهم من محاجرها. و هنا اللجنة قدَّرت إن الراجل الفلاح دا أكيد أمي ـ و هو فعل ن كان كدا ـ و بالتالي صُعب عليهم و من ناحيتهم ما خلَّص هم ش ما يوَّعو هو ش. و ما كدبوش خبر. نزلو يشرحو في المقصود في الظرف التاريخي ... إلخ اللغة دي. و واحد بعد أخوه ياخد الكلمة و ينزل في الراجل الأمي دا توعية و تنوير.
و فين في الآخر سألوه تاني:
ـ هييه! تحب تتبرع بإيه للمجهود الحربي اللي ح يغسل عارنا؟
الراجل الفلاح الأمي رد بأمان و طمان:
ـ و لا بكلمة طيبة!

محمود يونس:

اسم كبير سقط نهائي م الذاكرة بتاع شعبنا. فالمهندس م. يونس، كان أول ريس لهيئة قناة السويس عُقب التأميم طوالي. و بنته "نادية" كانت زميلة لنا في قسم انجليزي. وفي سنة أولى و لاًَ تانية موش فاكر، لقينا اللي جات القسم بعد "الترم" الأولاني ما خِلِص. بس ما دخلت ش ويانا المحاضرات، و طبيعي نسأل:
ـ مالك "نادية"؟
ـ أنا جاية اسلِّم عليكو بس يا دوب.
ـ فيه إيه؟
ـ جايز الوشوش ما تتقابل ش تاني.
ـ مسافرة!
ردها كان انسحابها من وسطنا سكت ن بُكم ن.
و تن لغز سفر "نادية يونس" محيَّرني لحد ما صادفت زميل مخضرم. حكى قال:
ـ الثقة كانت زايدة بين "البكباشي الملهوم" و بين "محمود يونس" لدرجة إن الحاكم العسكري لمصر كان بيستأمنه ياخد إيرادات "قناة السويس" بصفة منتظمة يحطها باسمه، اسم مين؟ موش عايزة فكاكة. في بنك أوروبي غير معروف في حساب سري. و على سبيل الاحتياط و الزوغان من أجهزة المخابرات المحلية و العالمية، اللي كانت تقدر تتبع مسيرة حساباته لو طلعت من مصر عن طريق البنوك، المهندس "يونس" كان ياخد الفلوس(=الدولارات) في شنطة و يعدي على "بيروت" على سبيل التمويه، و بعدين يقفز م العاصمة اللبناني ع البنك المجهول.
و في مرة المهندس "يونس" خطط كويس و رسم عال العال: سفَّر أسرته قبل منه. وهب انقط من "بيروت" ع البرازيل و في شنطته كتير؟ سبعة مليون دولار بس يادوب بأسعار الستينات.

عبد المجيد ابراهيم صالح باشا:

حكى شاويش اسمه "حاجة أبو ضيف"، جمعتي به قعدة فريدة في "عزبة الصعايدة" و كان سوَّاق و جلاد و خدام ماشة للحشاشين في القيادة العسكرية العليا للبلاد، قال:
ـ "عبد المجيد باشا" نايب حزب ا"لأحرار الدستوريين" هو اللي اتوسَّط للريِّس ع شان يدخَّله الكلية الحربية في سنة 1936 ليه و ليه اللي طلب من سي "جمال" هو و ابوه يقعدو في الكرسي الوراني أما "الباشا" فـ "غلط" و ركب عربيته جنب السواق في طريقهم للتوسُّط للطالب دا عند مدير الكلية الحربية.
"البكباشي الملهوم" ما نسي ها لـ هوش حتى بعد ما عدى ع الحادث دا أزيد من 28 سنة. بعت اللي جابوه له "قصر القبة". و يومها "الريِّس" طلب مني أجيب مدفع رشاش لاجل أحرس "الباشا" طول ما هو واقف في عز نقرة القيالة في شهر بؤونة فلاق الحجر,
"عبد المجيد باشا" تنه واقف تحت صهد الشمس و أنا راكس قصاده في وضع استعداد لفتح الرشاش، لو اتحرك من مطرحه، كتير؟ تلات ساعات بالتملم و الكمال. و بعدين ـ مين اللي للساع بيحكي؟ عليك نور ـ لقيت "الريِّس" طلع وقف في البراندة و بص لـ "الباشا" و فح من بين اسنانه: أظن انت عارف دا الوقت إن "جمال عبد الناصر" رئيس جمهوريةّ!
و نتر لي سيادة الريِّس ضهر إيده مرتين، بمعني أنصرف و اصرف"الباشا".

محكمة الثورة:

حرصت أقابل الشاويش "أبو ضيف"، عند قرايبي في "عزبة الصعايدة"، كل ما اروح ازورهم. فسيادته، بان لي وقتها، "لُقطة": واحد عادي زينا و صاحب "قريبي" الروح بالروح، بس الفرصة تاحت له يدخل "المطبخ" بتاع "الظبابيط الأحرار". و في ليلة كدا سألته:
ـ يعني انت واحد من ضمن آلاف زيك، بس إيه اللي...يعني ... دخَّل ك و دمج ك أوي بالشكل دا، وياهم؟
قام رد:
ـ صدفة!
لحِّيت. كمِّل:
بصيت لقيت نفسي واقف حرس في "محكمة الثورة" و سيادة المشير ـ اللاه يبشبش الطوبة اللي تحت راسه ـ كان القاضي. و خلال الجلسة سيادته طلب من واحد متهوم واقف قدامه يقرا "الفاتحة" بالمقلوب. المتهوم اتردد. في اللحظة دي ربنا لهمني. شيلت البندقية و هب إيديته بـ "الدبشك" في سدره. و في نفس الوقت زعقت فيه:
ـ إخلص خلَّص!
و اتبسِّم صاحبنا "ابوضيف" ـ الظاهر ـ لما افتكر اللحظة دي اللي انفتحت له فيها ليلة القدر. كمِّل:
ـ سيادة المشير، يومها ضرب إيده في جيبي ساب فيه تصوَّرو كام؟
اتلفتنا لبعض سكت ن بكم ن. و قريبي "س. جاب اللاه" استفهم:
ـ واحدة بخمسة!!!
استفهمت:
ـ خمسة ساغ؟
الشاويش "أبو ضيف" قهق حدفها لزهول الحاضرين:
ـ خمسة جني!!!
علَّقت:
ـ أكيد "الدبشك" اشتغل على ودنه!
ـ هريته شُغل!

سيادة اللـــــوا:

الشاويش "أبو ضيف" كمِّل حكي:
ـ الدبشك" هو الحقيقة اللي متِّن العلاقة بيني و بين سيادة المشير. و في يوم شاور لي ساعة ما وصلت قاعة المحاكمة: خد سيادة اللوا و انت طالع فوق اسقيه "قهوة".
سألت:
ـ إي ش معنى قهوة!
ـ دا سيم. كل مشروب كان له معني. و المشاريب كانت تلاتة: شاي/لمون/ قهوة. و القهوة كانت أنقح مشروب في التلاتة!
الشاويش" تابع:
ـ ورطة ما بعدها و لا قبلها ورطة!
اتلفتنا لبعض. هو واصل:
ـ شوفو لما يكون مطلوب من شاويش زيي يمد بالفلكة واحد لوا بجلالة قدره!
ـ و عملت إيه؟
ـ وقفت حايص لايص، أنبش في ضوافري شوي و اتطلع م الشباك شويتين. و بعدين ربنا لهمني فكرة. بس رجعت اترددت، لاكن افتكرت سيادة "المُشير" تحت و أكيد مستني ني اخلَّص، رُحت مقايس و طارحها على سيادة اللوا: سيادتك يا افندم، كل اللي عايزه منك تقول على آخر ما معاك: آه، يقوم سيادة "المُشير" يفتكر تحت إني بـ بـ... سيادة اللوا طعَّمني: بتعذبني! اتنهدت. هزِّيت دماغي. اتلفت لقيت سيادة اللوا بيقول: نفِّذ يا ابني الأوامر اللي ادوهالك، لاحسن يِأذوك! نصيحة سيادة اللوا شلتني إيد و لسان, بس ما وقفت كتير، لقيت مرسال جا من تحت: سيادة "المشير" عايزك! نزلت لاجل ألقا قلم مستني ني كل نص وشي. و بضهر صباعه اللحاس قال لي: ارجع!
و صاحبنا الشاويش"بوضيف" اتنهد زي ما يكون ي بيحط عن كتفينه تلول ي بيشيل عليهم جبال. كمِّل:
ـ في الأول خالص قلت لسيادة اللوا تسمح تقلع "الكاب".
يومها سيادة "المُشير" حط إيده في جيبه نفحني عشرة جني بالتمام و الكمال.

معسكر "طويحر":

"محسن لطفي السيد" ابن أخو أستاذ الجيل "أحمد لُطفي السيد" حكى:
إتصل بي الصاغ "ك. رفعت" بالتليفون:
ـ عايزك.
و أول ما قعدنا في الصالون بتاعه سأل:
ـ مرضي عن احتلال "بورسعيد"؟
و نصبنا معسكر التدريب بتاعنا في بلد زغنن اسمها "طويحر" قُرب "برقين" دقهلية. و مهمتي كانت تدريب المُدربين، اللي ح يواصلو تدريب المتطوعين الجداد على حرب "العصابات"، اللي اساتذتنا فيها كانو فيها زعما-ت-حرب الشوارع في المدن، زي باريس تحت الحكم النازي؟
و بعد ما اتطمنت على مستوى "المدربين" دخلت "بورسعيد" عن طريق بحيرة "المنزلة" ببطاقة زورو هالي باسم "حسن الفقير" المهنة "صياد". و دي مهنة دخلت ع الحراس الانجليز اللي كانو واقفين على مداخل البحيرة ع المدينة. و كانو رقمين: يحققو في إيدينا المفرودة تحت منخيرهم. بس ما رقمانهم ما كان ش غميق لدرجة يعرفو الفرق بين إيد الصياد و إيد الفلاح و إيد مُدرب المقاومة الشعبية في معسكر زي معسكر "طويحر"!!!
في "بورسعيد" المُقاومة الشعبية" اتنظمت. و سلطة "يوليو" خزنت السلاح الخفيف لزوم الأفراد عند صاحب مكتبة اسمه "حاجة العدني". و المقاومة بتاع "بورسعيد" بدَّعت، و الأدق أقول "بورسعيد" كلها تم ن هي اللي بدَّعت. تخيَّل خبَّطنا مرة على أول شقة طولناها في أول دور في عمارة، الباب انفتح. دخلنا هربانين من وحدة انجليزي كانت قاطرانا. و دوغري الست اللي فتحت لنا، خبتنا في سحاحير الكنب، في وسط الصالة. و كنا تلاتة. الوحدة الانجليزي خبطت ع الست العجوزة. و كانو شافونا داخلين من باب العمارة.لاكن ما شافوناش و احنا بندخل الشقة. و دا اللي سهِّل ع الست تضللهم: جايز يكونو طلعو السطوح. الست دي كانت أرملة و عايشة مع بنتينها اللي كانو يخافو هم الاتنين من عشرين سنة، و لا خافت و لا اترددت لحظة واحدة تحمي ضهور شبان زينا. و بطبيعة الحال طلعنا م السحاحير و قضينا ليلتنا في الشقة و استمتعنا بآيات الكرم المصري المعروف.

ـ قابلت "البكباشي الملهوم" مرتين مرة هو اللي طلبني و المرة التانية أنا اللي طلبت المقابلة. المرة الأولانية قعد يسأل و انا اجاوب على خطوط سير المقاومة و مدى تجاوب البورسعيدية...إلخ و فجأة سألني عن الكابتن "مور هاوس"، ابن عم الملكة. فردي كان: أيوا، عندنا، بس أنا شخصي ن ما اعرف ش طريقه. و لما سيادته استغرب، وضحت موقفي بإني صحيح رئيس المقاومة الشعبية هناك، بس رئيس كيان متكون من أفراد كلهم متسلحين و وطنيين، زييي بالظبط، و بعدين معرفتي بمكانه جايز بدل ما تنفع تضر. و لما اتمنى عليَّ ما حدِّش تاخده "الوطنية" لحد التهوُّر. بسِّمت و قلت: كلنا صيادين. و هو سيادته ما كان ش غبي. لقط إن "المُقاومين" كلهم تم ن على مستوى عالي يخليهم يعرفو إن "الصيد" الحي أغلى بكتير.

تاني مرة رحت أشكي له من محافظ بورسعيد "م. رياض"، و ازاي عمَّال يستقبل القائد الانجليزي، اللي اتسلِّم المدينة في مكتبه بالبوس و الأحضان، و تطريع الكفوف على بعض. و اللي حصل دير وشه برا القعدة و قال: بقا احنا بنقول "بورسعيد" كلها بتحارب، تيجي انت تقول محافظها خاين! و هنا قلت لسيادته: أنا باوجه اتهام متحدد لمسؤول، فأرجو من سيادته تأمر ييجي النايب العام يفتح تحقيق رسمي، و ي انا اطلع غلطان و اتحاكم ي سيادة المحافظ ...و لما حب يحوِّل الموضوع. قلت: يا افندم أنا ما اقدرش أضمن سلامته! دول شبان متحمسين و متسلحين و لهم عينين بتشوف اللي بيحصل قدام منهم. و هنا لقيت عينيه لمعت. فاقترحت عليه فوري: رقيه يا افندم، إن شاالله وكيل وزارة الداخلية، بس تنقله من بورسعيد لانلاقي نفسنا في مُشكلة داخلي، احنا في غنى عنها!

ـ أما عن سير المُقاومة ذات نفسها، فأول "عملية كبيرة" نظنمناها، احنا المُقاومة الشعبية، اتلغت في آخر لحظة. إزاي؟ وزَّعنا السلاح و زرعنا فوق- السطوح و الحواري و الجخانيق بالمُسلحين و حددنا ساعة الصفر: فتح السلاح ع الجنود اللي كانو ماشيين دوريات في الشوارع لظبط قرار منع التجوُّل". و قدرنا نسيطر ع الشوارع عن طريق كذا كام "ماتش" كورة في جميع نواحي كي يا بورسعيد. فاللعيبة، يعني اللي عساكر الدورية بتاع الانجليز خدوهم على إنهم "لعيبة"، كانو تبع المقاومة، و شغِّالين طول لعبهم، في حقيقة الأمر "ناضورجية". و قبل ساعة الصفر اللي كانت أدان المغرب بنص ساعة. جالنا قرار بإلغاء العملية" و لم السلاح. و بطبيعة الحال قرار زي دا صابنا كلنا بالجنان، فإزاي ح نبلغ كل الأفراد اللي متمركزين مطرح ما هم في مدينة زي بورسعيد خلال نص ساعة: بق في ودن، فمافي ش أي وسيلة تانية في إيدينا، حتى التلفون مستحيل!
ـ المبرر: تعليمات السيد "ز. محي الدين"! دا كان المبرر اللي ساقوه لنا لحظتها. أما إذا كنت بتسأل عن المُبرر، اللي عرفناه بعدين من "مصادر عُليا" فهو: ما كان ش مفروض نستفز قوات الاحتلال!!!

ـ نظام الحكم قرر يلم السلاح م المصريين. و كمان قرر يقدم "الشيوعيين" اللي قبو م العمل السري لاجل يدخلو "بورسعيد" للاشتراك في المقاومة الشعبية للمحاكمة، بتهمة انتهاز فترة الاحتلال الأنجلو-فرنساوي لـ "بورسعيد" في سبيل الترويج لمبادئهم الهدامة.
و بطبيعة الحال وقفت شاهد نفي قدام المحكمة، بس الأحكام كانت بتصدر قبل بدء المحاكمة بوقت طويل. و "القاضي" المتعين بقرار م "البكباشي الملهوم" اللي كان وقتها ـ هو بينطقه.

انحـــــياز:

لما جيت أقوم أمشي دحك. و لما دحك دحكته طلعت من شدق واحد. و لما شبع دُحك قال:
ـ انت سيادتك موش معاك ثانوية عامة؟
و شرح بديهية:
ـ أي حد زي سيادتك معاه ليسانس آداب قسم إنجليزي، لازم يكون معاه ثانوية عامة، كدا و لاَّ لأ؟
مافهمت ش. و بالتالي ما ردت ش، قام هو كمِّل:
ـ إنت سيادتك موش عاوز تشتغل؟
بصيت له من سُكات. واصل:
ـ و ميزانية المدرسة ما تسمح ش بدفع مرتب ليسانس، زي ما قلت لسيادتك من شوي، فهل مخنا يقف ما يقدرش يلاقي حل، و احنا متعلمين و بنربي أجيال!!!
ـ بس انا ما معاي ي ش شهادة الثانوية العامة دا الوقت.
ـ لاكن معاك كرنية سنة رابعة. و كرنية سنة رابعة دا اقدر اكتب لك العقد بموجبه كعامل...
ـ عامل؟
ـ دا بس كدا و كدا ع شان الاجراءات يادوب، لاكن انت ح تشتغل ويانا مدرس و لك كل الاحترام الواجب لأي مدرِّس.
و ضاف:
ـ و لعلمك مرتبك كعامل ح يكون خاضع لأول قرار، "الثورة المجيدة" خدته، في سنة 1952في إطار التوجه العام بتاعها، قصدي"الانحياز" للعمال: يومية العامل ما تقل ش عن خمسة و عشرين قرش.
استفهمت:
ـ يعني ربع جنيه؟
ساب الاستفهام بتاعي متشعلق في الهوا و استفهم استفهام عملي:
ـ موافق و لاَّ تشاور عقل ك؟
غمَّضت عينيَّ. شريط طويل مر في ثواني قدام نضري. هزيت دماغي.

إنجـــاز:

في سنة 1966 "البكباشي الملهوم" و قف في مجلس الأمة(=البرلمان) و قال:
ـ الحمد للاه، ما بقاش في مصر و لا راجل واحد...
و لما أعضاء البرلمانات اللي م النوع البصَّام rubber-stamp دا بيبدَّعو تمللي، و خصوصي في مصر العسكرية، في التعبير عن موافقتهم ساعات رقص و ساعات غُنا، مرة شحتفة و مرة فشخ احنكة، فاللي حصل، المرة دي انفجرو تهقهيق و تنطيط وضرب على كفوف بعضهم البعض. و هنا سيادته كمِّل:
ـ ... يقدر يقول لي لأ!

ُخط الصعيد:

جمعتني ظروف استثنائي وي اللوا "ع.العبودي" مدير أمن الجيزة في الوقت دا. و بطبيعة الحال كلنا لما نرحرح نبتدي نحكي عن أمجادنا. و فعل ن سيادته بدا يحكي عن الأمجاد اللي حققها في حياته العملية. قال:
ـ أنا اللي قفشت "الخط" اللي دوَّخ رجال الأمن و فلت من كل محاولة لاغتياله حتى بالسم...
و اتبسِّم و كمِّل:
ـ كنت وقتها للساع شاب و رتبتي كانت "صاغ" يا دوب...
حب الاستطلاع استبد بي فـ "الخُط" كان أسطورة بالنسبة لجيلنا، و كلنا بالتقريب كنا ُمتيَّمين بجراءته و نبالته و كرمه، فالراجل كان نسخة مصري من "روبن هود". سألـت:
ـ إزاي؟
اتبسِّم. خدوده قنبرت. قال:
ـ أنا اللي طلبت سلاح الجو لاجل يضرب المعقل بتاعه في "الجبل"...
و هز دماغه و كمِّل:
ـ و "البكباشي الملهوم" هو بنفسه اللي خد القرار باستخدام الطيران لضربه بناء على اقتراحي!
صنيت أتأمل. استفهمت:
ـ "البكباشي الملهوم" هو اللي خد قرار ضرب مواطن مصري بالطيران؟
زر جفونه. رد:
ـ دا بعد ما فشلت كل الوسايل اللي حاولناها معاه.

بيان30 مارس:

عُقب الهزيمة المرة (=النكسة) العسكروت الحاكم بدا يستعيد عافيته. و السادة العمال الصناعيين(البروليتاريا) في مجمع مصانع "حلوان" هتفو لـ "البكباشي الملهوم" في أول عيد للعمال بعد يونيو/ بؤونة 67:
غيَّر غيَّر يا جمال!
و سيادته بدا خطاوي الإصلاح بمعاونة كبار أساتذة الجامعات اصحاب الانتقادات الرئيسية ع الأداء الحكومي، و على راسهم د. "حلمي مُراد"، اللي حط بيان سموه وقتها 30 مارس.
و طبيعي بيان زي كدا "البكباشي الملهوم" لازم ياخد عليه موافقة الشعب في استفتا عمومي من أسوان لـ "اسكندرية". في الوقت دا كنت باشتغل في شركة "مصر للطيران". و ما تعرف ش على أي أساس اختاروني رئيس للجنة من لجان الاستفتا. جايز نقص "الجامعيين" في المحافظة؟
و في مديرية الأمن، سيادة اللوا، جمعنا كلنا رؤساؤء اللجن، اللي كنا ح ننتشر في ربوع المحافظة و قعد يفطَّمنا ع الإجراءات من أول فتح السناديق لغاية تقفيلها و ختمها بالشمع الاحمر. و مانسي ش سيادته يأكد لنا إن فيه طقة(=وجبة) سُخنة من فندق "كلابشة" ح توصل لكل واحد فينا فين ما يكون.
و سيادته فرك إيديه بحماسة مشحونة بالسعادة و قال:
ـ و دا الوقت يا رجالة ح نوزع عليكو الاقلمة الرصاص اللي المواطنين ع يعلِّمو بها ع البطاقة قبل ما تاخدها منه تحطها بمعرفتك في السندوق.
و شوي و سيادته رجع فرك إيديه في بعض بحماسة من نفس النوع. و هو ماسك كيس قماش في إيده و قال:
ـ و دالوقت يا اهل الخير نوزَّع عليكو، كل واحد أستيكة و أستيكة تانية احتياطي!
القاعة اللي الرزانة و الجدية كانو مخيمين عليها انفجرت بالدحك مرة واحدة. هو ينكسف؟ ح ينكسف ليه؟ شرح:
ـ يعني لو فلاح أمي جاهل، موش فاهم، جاي من ورا ديل جاموسة في "دراو" و لاَّ في أن هي داهية، ما عرف ش يعلِّم مظبوط ...
واحد مننا طعَّمه:
ـ على علامة نعم.
سيادة مدير الأمن زغر له فوق عن نص دقيقة بصورة مستريبة. و بعدين كمِّل:
ـ نقوم نسيبه و نسيب شكل محافظتنا يطلع موش هو، دون ن عن كل المحافظات اللي ح تصوَّت لصالح البيان بتاع الزعيم الملهوم" بالإجماع، و لاَّ نلحق نصلَّح له غلطه!

عركة الماية:

لما ما مدِّش إيده، على غيرعوايده، ع الأكل ع الطبلية اللي حطيناها في صحن الدار. ما مدناش احنا روخرين إيدينا. و لما ما طلب ش مننا ناكل. سألته:
ـ ما مديت ش إيدك ليه يابا؟
ما ردش، و الظاهر كان سرحان. في إيه ما كنت ش اعرف وقتها. كنت عيِّل زغيَّر في الوقت دا، و أخوي الوحيد أصغر مني. . بس لقيته بدا يضرب كف بكف.
كنِّينا إيدينا، فالأب كان للساع لغاية ديك الوقت إلاه منهاب، و الهيبة نصها و جايز تلات –ت-ارباعها حب، زي ما قلت قبل كدا.
أما أمي فحدفت حكمتها اللي ما فارقة اش طول عمرها:
ـ الصبر!
و مرة واحدة لقيت ابوي اتنتر خطف فاس من وسط الدار و طلع جري. طلعنا م الدار للجسر. لقيت حبل رجالة، كلهم تم ن مشرعين الفوس فوق دمغيتهم. و طالعين رمح بالمشوار. و دا الحبل اللي أبوي لضم نفسه فيه. طلعنا نجري احنا و عيال الحتة و في ديلنا طلعت تجري القطط بتاعتنا و الكلاب و المعيز. فالزعبوبة كانت جبارة، و لما جات تقلعنا من جدورنا لقيتنا وحدة واحدة. بس لا هي اتأخرت في قلعنا و لا حد عصلج معاها ما ننقلع ش. و خلال القلع م الجدور شالت في الجو شبورة العُفار.
بس ما كملناش، لا احنا العيال، و لا حيواناتنا المُستأنسة، بعد ما بعدنا عن دورنا. و بالتالي خفنا لانتوه ما نعرف ش نرجع.
شوي و الماية لقيناها جاية في "الطريحة"، و دي الترعة الزغيرة اللي كانت بتروي أراضينا ع الجنبين م "الهدار" فوق "شما" و دي قرية هي روخرا بس كبيرة شوي زغيرة عن كفرنا، ، عند منبع "الطريحة" " من ترعة "النعناعية". و الخفرا بتوع الري كانو بيفتحو "الهدار" جمعة سبع –ت-ايام و جمعة لأ.
السواقي غنت و الماية زغرتت و هي داخلة على زرعة الدرا الحراتي، بعد ما غابت عنه 42يوم بالعدد. و الرية دي كانت رية "المحاياة" للدرا الحراتي، اللي مفروض تتم على واحد و عشرين يوم لا يوم زيادة و لا يوم نُقصان. أما زرعة الدرا العفير، يعني المبدور على وش الترى موش في قلبه، فأقل من كدا بكتير يعني بعد حوالي 15 يوم بالكتير. فدي يعوَّض ربنا على اصحابها.
تاني يوم الماية وقفت، و بالتعبير بتاعنا روَّحت.
و في الحصة دي عدى واحد غرابلي(بيعمل و يصلَّح غرابيل) الراجل قعد. حبيت أقعد أبوي شاور لي أقوم اسقي البهايم، و كان واضح إن ابوي موش عايزني اسمع كلام الراجل الغرابلي دا. ليه؟ ما فهمت ش.
روحي ياايام تعا يا ايام. صادفت واحد مُصحح من "شمَّا" حكى:
سميناها، و ع شان أكون سادق أكتر الجيل اللي عاصرها سماها "عركة الماية". الماية حاشوها عن ترعة "الطريحة"، اللي بتروي، أول ما تروي، غيطان "شما"، و بعدين تواصل تروي غيطان الكفور اللي تحت "شمَّا"، زي كفركو. و السبب؟ لاجل الماية توصل أرض "ظابط" م الصف التاني في تنظيم "الظباط الأحرار" في آخر ترعة "النعناعية".
الفلاحين يعملو إيه؟ و لاَّ يسوو إيه؟ راحو للعمدة، مرة و اتنين و تلاتة. العمدة يتصل باللي فوق منه. مافي ش رد. 42يوم يوم ينقح يوم. و شوي و العمدة بقا يتهرَّب من حصار الأسئلة بتاع الفلاحين. يعملو إيه الفلاحين غير يروحو لشيخ البلد، و دا طبعه كان حامي حبتين. قال لهم:
ـ خلاص شيلو الجسر!
الفلاحين ما كدبوش خبر. غفر الري بلَّغو. جات أورطة عساكر من بندر "منوف". ما فلحت ش. شدو تلفون لمركز "أشمون". الأورطة اللي بعتها ما صلبت ش قدام الغليان.
في الحصة دي راديو "إسرائيل" ذاع الخبر. و قلوظه تمام:
ـ قرية اسمها "شمَّا" علنت تمردها على نظام حكم "جمال عبد الناصر (="البكباشي الملهوم").
القرية اتفاجئت بطابور دبابات داخل ع القرية عن طريق الجسر الرئيسي.
في الوقت دا ـ و الكلام على لسان نفس المُصحح ـ د. فؤاد محيي الدين كان مترشَّح عن الدايرة. و الحقيقة الدايرة دي اتولِّفت له مخصوص، بحُكم صلته المتينة بحكم 23يوليو/أبيب. الفلاحين اتصلو به جا القرية. و وصوله صادف تحرك الدبابات. واحدة ست فلاحة فرعة حبتين، اسمها "صباح أبو رية" اندفعت شالت د. فؤاد محيي الدين بإيد واحدة زي كوز درة و وقفت به قدام طابور الدبابات.
الأوامر وصلت: الدبابات ما تدخل ش القرية، لاجل خاطر المترشَّح الجديد، بس القرية تتأدب.
و التأديب كان مغولي: سبي و نهب و سلب و حرق و تكسير و اذلال و قتل، في إطار البحث عن السلاح اللي الفلاحين استولو عليه من عساكر البوليس. و نتيجة محتومة، لاستباحة القرية، الرجالة هربت: اللي اتشعبط زي قط على شجرة و استخبى بين الفروع، و اللي دفن نفسه في التبن، و اللي لبد في بربخ تحت قنطرة...إلخ
الاستباحة دامت أربعين يوم بلياليهم. و طبيعي تبعت في سدور الرجالة نواحينا زلزال، استهجاناه، إحنا العيال الزغيرين وقتها بس ما فهمناهوش و لاَ استوعبناهوش إلا فين بعدين.

ورقة دمغة:

زميلنا "وديع" أمين خزنة فرع أسوان بتاع شركة "مصر للطيران" حكى:
لما مسكوني خدوني بيِّتوني في التخشيبة و تاني يوم الصبح بدري رحَّلوني على سراي النيابة الإدارية. و هناك لقيتني وسط جرمق. و الجرمق قاعد ع الدكك الخشب داير ما يدور في قاعة السراي. بصيت لقيتني متوول: موش طايق لا أقعد و لا أقف. قلت اتمشى رايح جاي في القاعة زي حوان بري طب وقع في قفص.
شوي و لقيت راجل "بيه" كبير قام وقف قدام الدكة اللي كان قاعد عليها و هز لي طرطوفة صباعه اللحاس. رحت لعنده أشوف عايز مني إيه. و انا داخل ع المجال المغناطيسي بتاعه سأل ما اتأخرش:
ـ كام؟
ـ كام إيه؟
لقيته زربن. و "البهوات" لما بيزربنو وشهم ما بيزرق ش زينا. شخط بعلو حسِّه، لدرجة قلت عليه: هو دا وكيل النيابة و التحقيق بدا. بس رجعت عقَّلت نفسي، و هو كمِّل سأل:
ـ ح نلعب على بعض. جاي هنا في كام؟
زريت جفوني، خايف استفهم بيقصد إيه بكام دي، وقفت قدام منه سُكت ن بُكم ن.
صُعْبت عليه الظاهر قام فسَّر:
ـ يعني لاهف كام ألف؟
ـ ألف إيه يا "بيه"؟
ـ جرا إيه؟ مكسوف؟ كنت حطيت على وشك منخل.
و فجأة زعق، لولا سندت ع الحيط كنت وقعت من طولي. بس شرح:
ـ ألف جني يا روح امك؟
ـ بتوع إيه يا "بيه"؟
ـ اللي جرجروك هنا ع شانهم، و لاَّ عايز تقول لي جايبين ك هنا يفسَّحوك شوي؟
لقطت. رديت:
ـ دي ورجة دمغة يا "بيه"!
ـ يعني كل اللي اختلسته من ميزانية الدولة...
طعّمته:
ـ ورجة دمغة.
"البيه" عينيه بظت. شعره وقف منه فوق قلة دماغه. عمل صوابعه قُمعين. هزهم قدام منخيري. استوضح:
ـ فهمني بشويش، لاحسن عقلي ساعات بيلوي على بعضه و يغشلق مني: يعني انت جاي هنا ع شان اختلست...
طعَّمته:
ـ خمسة ساغ!
ـ ورايح لي و جاي زي ما تكون عليك بيضة.
و سمعت رنة حتة دين قلم نضيف: طرررخ. و بعدين عرفت إن القلم دا كان على وشي.
ـ دا انت وجَّعت جلبي في جعور رجليَّ!
انسخطت حجر.
بس هو قال:
ـ إهدى كدا، و تعا اجعد في ريحي يللا!
دحلبت نفسي قعدت مطرح ما طلب. بص لي من فوق لتحت. قال بشفقة حقيقي:
ـ فهمني يا ابني، إيه اللي حصل وياك بالظبط!
ـ ورجة دمغة ملزوجة و مشطوب عليها بس جديدة نوفي و بتلمع يا سعادة "البيه" و عمالة تحارن ني و تلاعب ني، عقلي الوسخ يعمل إيه؟ غير يوزِّني أرقص حولين منها لحد ما شيلت ها بشويش، و لزجت ها على وصل تاني...
ـ و قفشوها؟
راسي وقعت على سدري.
ـ يعني انت يا ابني جايبين ك النيابة الإداراية هنا، ع شان اختلست ورجة دم...؟
ـ دمغة!
ـ يعني انت بروح امك اختلست م الدولة "شلن"
ـ أيوا يا بيه.
ـ و عمال...
و ساب سيف إيده المعقوف على كفة إيده يرسم في الهوا مكوك رايح جاي.
ـ دا انا ميت ألف...
ـ ميت ألف إيه؟
دحك من منخيره:
ـ ميت ألف زر، على مدى خمس سنين!
بلعت ريقي. كمِّل هو:
ـ و حاطط في سدري بطيخة صيفي! عارف ليه؟ ح آخد ـ بإذن واحد أحد ـ إفراج من سراي النيابة...
استفهمت:
ـ يعني...؟
ـ ح اطلع أروَّح ع البيت من هنا، بعد نص ساعة بالكتير.
شدقي وقع على سدري، و هو لاحظ:
ـ عارف ليه؟
ـ ليه؟
ـ ع شان الحصة بتاعتي كانت اقل حصة بينهم...
خفت أسأل أي سؤال لاكون ح اتجاوز حدودي. بس هو وضَّح:
ـ معدات روسي ـ تصنيع كفرة و لاد لزينة ما يعرفو ش ربهم ـ و جاية بالمراكب للسد العالي: مركب تعدي و مركبتين...
حبيت اطعَّمه. قاطعني:
ـ لأ! يعدو بس انضف م الصيني بعد غسيله. و أمين المخزن راجل سُكَّرة طيب و ابن حلال يتحط ع الجرح يبرد و تقي يرضى بقليله و قبل كل دا مُطيع بيسمع كلام رؤساؤه.
شوي و دفس دقنه في سدره و زغر من جنب عينيه. استفهم:
ـ فكَّرني كدا انت اختلست كام...؟
اتلفت لقيت إيدي نطو قدام وشي يحوشو عنه.
قعد يحكي و يزيد و يعيد، و أنا باقول آدي احنا بنسلي وقتنا. و شوي و رمى دماغه لورا و همس:
ـ اقفل خشم ك دا، ليوسع منك.
و كمِّل:
ـ دوري يادوب كان ناضورجي... و ع شان كدا ما طلعت ش م المولد إلاّّ بالميت ألف لحلوح و اهو كل برغوت على أد دمه.
شوي و اتطلع لي جامد و هز راسه بأسى:
ـ شوف يا ابني، انت يستحيل تاخد براءة لا في التهمة دي و لا في أي تهمة تانية...
ـ ليه بس يا "بيه"؟
ـ رُفيَّع!
ـ يعني إيه يا باشا؟
ـ يعني مترشَّح ترتكب أي جريمة و كل جريمة محتملة!

سألت زميلنا أمين الخزنة الاسناوي:
ـ و بعدين؟
ـ و لا قبلين. كلهم خدو افراج م السراي، زي "البيه" ما أكد قبل اللي حصل ما يحصل، إلاَّ أنا. الظاهر انكسفو عش العكم يصفصف على مافي ش. حوِّلوني محبوس للمحكمة و القاضي اتعازم و حكم بالحبس 6 ت-اشهر و الغرامة ألف جني، و تنزيل درجتين في السلك الوظيفي، زي ما انتو شايفين!
ـ كل دا؟
ـ ع شان بس اتربى و لما اختلس المرة الجاية ما اختلس ش شلن!

د. "أنور المُفتي":

واحد من قرايب د. "أنور المفتي"، اللي اشتغل طبيب خصوصي لسيادة "البكباشي الملهوم"" حكى:
الدكتور "أنور" رجع من قصر الرياسة عصاري اليوم اللي حصل فيه اللي حصل. و الظاهر كان بدا يحس بأعراض غريبة. اتطلَّع لعينيه في المراية. و بحكم مهنته كطبيب عرف. و لما عرف قال لمراته:
ـ أنا خدت سم. و كلها نص ساعة بالكتير و اتكل.
قبل كدا بايام قليِّلة د. "أنور المُفتي" كان كتب تقرير الموجز بتاعه بيقول: "المرض اتمكِّن م "الريِّس"، بصورة تأثر بالسلب على قراراته السياسية.

المُهندس م.شاهين:

يوم عيد العمال بتاع أول مايو سنة 1968 يعني بعد مرور أقل من سنة ع الهزيمة المرة، و عُقب الخطاب اللي "البكباشي الملهوم" "فقعه" في "حلوان" و اتذاع بكل وسيلة سيان كانت مرئية و لاَّ مسموعة، اتقابلنا هو و انا بالمُصادفة على كورنيش نيل "أسوان". سندنا ع السور الحديد. وقفنا ناخد و ندي وي بعض. و الأصح هو يتكلِّم و انا أسمع. فسيادته كان ريِّس لجنة من لجن العشرين فين ما اعرف ش بالتحديد بس في مدينة "أسوان". و انا "مُواطن". و خلال كلامه الجلالة خدته قال:
و اللاهي و اللاهي و اللاهي، تلاتة باللاهي، لولا اخاف يقولو عليَّ: "شاهين" كفر، لكنت أقول سيادة الريِّس "جمال عبد الناصر" دا نبي، الوحي نزل عليه بعد خاتم النبيين!
أعمل إيه و لاَّ أقول إيه؟ قدام عقلية بالشكل دا. قلت:
ـ و اللاهي لولا خوفي م الملامة ـ زيك بالظبط ـ لكنت أقول عليه: دا هو "سبحانه و تعالى" اللي خلق الكون دا بحاله!

"ح. حماد":

في صيف 1968، يعني بعد الهزيمة المُرة بأقل من سنة، تحالف العسكروت-الكهنوت، نوى، بينه و بين نفسه، يرجَّع الماية لمجاريها، و الحياة لسيرتها الأولانية في مصر. دوري الكورة رجع و الفنون العسكرية من غناوي و مسلسلات و مسابقات و فرايحيات. و من ضمن، السياحة الخارجي رجعت, و السُّياح الأجانب بدو يتدفَّقو على "أسوان" ـ و غير "أسوان" طبع ن ـ لزيارة أثارها.
و في يوم راجع م المطار بتاع شركة "مصر للطيران". لقيت "نعيم" بتاع السويتش سايب مطرحه ورا لوحة "السويتش" و واقف ع الرصيف.
اتدليت و وراي العمال اللي كانو معاي في المطار اتدلو.
و بابص لقيت "نعيم" رامى سدغه يم نيل "أسوان"، زي ما يكون مستني حد. غيرشي نضارته السودا، كانت واكلة نص وشه، زي العادة، حتى في عز الليل. بعض السعاي كانو كشفو لي على جنب عن السر. فـ "نعيم" كان شخص مُخيف، و بتعبير "فتحي" الساعي الأبيض في المكتب: عضته و القبر. و واحد منهم دعا لي: اللي نجَّا "يونس" في بطن الحوت ينجي ك منه.
باخد أول خطوة يم المكتب لقيت اللي حط في إيدي ورقة أقل من نص ورقة روزنامة، و قال بصوت مسموع:
ـ دا استدعا م المباحث!
سألته:
ـ و هي فين المباحث؟
لقيته حدف وشه بعيد و رد بغباوة: ما اعرف ش!
اتطلَّعت يم زمايلي، يم العمال، يم السعاي، كلهم تم ن ديَّرو وشوشهم عني. بصيت لقيتني واقف وسط بحيرة صمت. و البحيرة عمَّالة تتسع منها لوحدها. سؤال عدى على نافوخي لحظتها: يا ترى يكون الرعب و لاَّ التأفف و التبري مني. غيرشي السؤال اتزحلق عن دماغي، بالنظر للمشكلة الحالة: أروح إزاي "المباحث؟
ومضة م السما الزرقا، هدتني: أروح قسم بندر أسوان، أقرب قسم اعرفه فأكيد ح يكونو عارفين.

للعزلة لسع الجليد في البدن المجروح. أعمل إيه؟ خدت نيل "أسوان" الطيب على شمالي و "أم العواجز" في ضهري، و استنجدت بـ "متولي شيَّال الحمول" و خدت في وشي و طلعت قاصد وجهتي.
الظابط النوبتجي شاور لي و قال:
ـ الباب اللي جنبنا طوالي!
طلعت أدوَّر على يمين القسم، على شماله. مافي ش. رجعت. الظابط النوبتجي اتنرفز، ليه؟ ما اعرف ش زعق:
ـ قلت لك الباب اللي جنبنا و ما تيجي ش هنا تاني احسن لك!
إشارته بإيده ساعدتني شوي. بس الباب دا فين؟ حقاش يكون دا: باب خشب م الطراز القديم بترباس خشب منه فيه و حريق قديم واكل نصه. و قدام الباب مركونة نخلة بالطول ساددة المدخل. عافرت عافرت. و بالمس الترباس، الباب، و كان درفة واحدة، لقيته اتفندق. و أنا لقيتني قدام قصر بمعنى كلمة قصر. بصيت شمال يمين، ما شفت ش غير سكة مرصوفة ببلح زلط متلون وسط احواض زهور ع الجنبين. أعمل إيه، غير اسلِّم رجلي للسكة دي، على أمل تاخدني لغاية المبنى الرئيسي اللي بان لي في الوش..
مافي ش تلات اربع خطاوي، إلاَّ و اسمع صوت وراي بينده ني باسمي. اتلفت لقيت شاب لابس زي ملكي و قاعد في أودة زغنطوطة ورا مكتب "شيك". هزهز راسه بقيامة و نظاجة و قال بلسانه و ايديه و حواجبه:
ـ إحنا هنا.
شاور بإيده. قعدت على كرسي قدامه. بدا:
ـ نحب نتعرَّف، أنا اسمي الملازم أول "ح. حماد". و طبع ن محسوب ك زكي، بافهمها و هي طايرة، و ساعات ماهي ش قليِّلة، قبل ما تطير، و إلاَّ كان زماني مرمي في نقطة "كفر أبوطشت" باحرر محاضر.
و دحك لحد ما شرق من غير سبب واضح.
كل دا و الفيران عمالة تلعب في عبي، إيه يا ترى سبب مجيي هنا. حبيت افكَّر سيادته:
ـ فيه استدعا.
ـ أيوا طبع ن فيه، و هو انا واكل "داتورة" ع الصبح.
و مد إيده في الدرج طلَّع ورقة بيضا "فولسكاب". و بدا:
س: اسمك؟
جـ: فلان الفلاني.
س: من اين؟
ما فهمت ش السؤال:
ـ مين اين إزاي؟ قصدك محل الميلاد؟
ـ طبع ن.
ـ كذا كذا.
شوي و قفل القلم الحبر الـCross و حدفه ع الورقة اللي كان كتب نصها بالتقريب. و دكك صوابعه العشرة في بعضيهم و رمى سدغه على كتفه الشمال و استفهم بنغم، زي ما يكون بيلحَّن "كوبليه":
ـ سيادتك...كنت فين ... امبارح؟
ـ في الشغل.
ـ و بعد الشغل؟
رسيت ع السبب، و بكدا حسيت براحة اللي حطط تلول تقيلة عن كتافي. فتحالف العسكروت-الكهنوت الحاكم يقدر يوجه أي تهمة لأي مواطن، بصرف النظر عما إذا كان ارتكبها و لاَّ ما ارتكب هاش. و الحمد لصاحب الحمد، إن "التهمة" ما طلعت ش أتقل.
هزيت دماغي باستوعب. و هو رمي سدغه على كتفه اليمين. استفهم:
ـ عرفت انت هنا ليه؟
بدل ما ارد زميت شفاتيري. و زُمْت.
فتح إيديه على وسعهم قال:
ـ انت ارتكبت تلات جرايم في نفس الوقت: أول واحدة، آويت أجنبي، و ما يهمنا ش هنا إذا كانت واحدة و لاَّ واحد، التانية الكلام دا حصل في زمن الحرب...
استفهمت للتأكد:
ـ حرب؟
ـ الله أكبر، أمال اللي شغال ع الضفة الغربي للقنال دا إيه؟
صن صن و كمِّل:
ـ و آويتها في مكان حكومي، تابع للقطاع العام اللي هو إيه؟
اتبسِّم تبسيمة ُفللي بسعادة ورْدي. حاجبه الشمال طار. سأل:
ـ إيه رأي ك يا بطل؟
ـ خلاص. حوِّل المحضر للنيابة تتصرَّف فيه؟
عينيه رمشت على اولة، زي ما يكون بيزيحو شبورة. و وطا صوته، لولا بقي انفتح مني، ما كنت ش سمعت حرف منه:
ـ ليه بس؟
و ضاف:
ـ ح ندخَّل النيابة في الموضوع...
رميت دماغي على كتفي. زريت جفوني: عايز أفهم.
ميِّل ع المكتب. وشوش:
ـ إحنا هنا في "أسوان" دي شُبان زي بعض، و أنا عندي شقة في "كوم امبو"( 45 ك بحري أسوان) ع النيل، فـ باقول ـ يعني ـ لو أعزمكو ـ انت و المُهرة بتاعتك دي، عندي، نقدر نروَّق شوي و انا عندي كل أنواع الخمور، اللي تخطر و اللي ما تخطرش ع البال، و ح نرجع في نفس اليوم...
إيه جرَّأني عليه ما تعرف ش. استفهمت شايط:
ـ إنت بتقول لي أنا الكلام دا؟
ـ فيها إيه؟
ـ يعني الاستدعا اللي قطعني بشاطور حامي مرة واحدة من ناسي لاجل كدا؟
سهم "أمون" نزل عليه. كمِّلت:
ـ و هل دا أسلوب يوصل ك لـ الهدف...
و نشيت الكلمة اللي وقفت على لساني بضهر إيدي. و زوِّدت:
ـ دا، اللي انت عايزه!
و اتطلَّعت فوق كتفي بقرف ممرر. استفهمت:
ـ و ازاي فكرت إن أنا ح اوافق على حاجة زي دي؟
عينيه فنجلت في محاجرها: ما أضعف ك يا غلطان!
ـ حد قال لك إن انا كنت باتعلِّم اربع سنين في جامعة "الكاهرا" كلية الآداب، قسم انجليزي ع شان في الآخر أطلع أشتغل...
شال إيده يحوش ـ الظاهر ـ عُنف الكلمة اللي كانت ح تنطلق مني سهم.
وشه قلع و لبس ألوانات الطيف: إزْرَق/إحمر/إصفر/
نبش ضوافره. غيّر نبرته. قال:
ـ تعرف إن أنا مبسوط منك ع شان ما وافقت ش، عارف ليه؟
حوِّلت وشي يمته من سكات. كمِّل:
ـ ع شان أنا كنت باجس نبض ك يا دوب.
بسِّمت على جنب بس ما دحكت ش. و هو استفهم:
ـ ما شفت ش معاها في شنطتها حاجات غريبة، كاميرات,,,

استفهمت:
ـ سيادتك عايزني في حاجة تاني؟

ليلة 18 بؤونة 67:

{ما اعرفناش إلاَّ من حنكه. ففي مصر، بحالها م المالح للشلال، ما كان ش حد يقدر يلمَّح ـ و سيب ك من يصرَّح ـ للي حصل، علني كدا، إلاَّ شخص واحد، مافي ش غيره، اللي هو مين؟ و لما لمَّح لإننا دقنا سوا ايام حلوة و دقنا في الفترة القريِّبة ايام مرة... و اتنحى... و كبير المُذيعين السيد: "ج. معوَّض" نهنه بدموع نسوي. بصيت لقيت ني مشدود مجبود بالسريخ لعرض الشارع. الناس كل الناس عمَّالين يجرو. جايين من اين؟ رايحين على فين؟ ما حدش عارف، الرجول هي واخدة الناس و ماشية بهم.
و انا ماشي مزهول، مرة م الفعل: الهزيمة المرة لجيش مصر قدام "عصابات بني صهيون" حسب تعبير الإعلام في الوقت دا، و مرتين من رد فعل الناس ع اللي حصل. و ليلتها قدَّرت إن الفاشية، في نهاية الأمر هي تحويل "المواطنين م الاحتكام للعقل للاستسلام للانفعال. و بالتالي فالفاشية م الزاوية دي ديانة.
رجلينا خدتنا لفين؟ ما حدش عرف، لحد ما لقينا نفسنا قدام مبنى "الاتحاد الاشتراكي" في شرق "أسوان". الميات في ظرف مافي ش مافي ش بقو ألافات، و الألافات بقو ميات الألوفات.
شوي و قالو أمين عام "الاتحاد الاشتراكي" جا من بيته، و كنا غوِّطنا دخلنا في عز الليل، و الليلة كات من غير نجوم.
وقف سيادة اللوا "أ.عمر" الأمين العام على سلالم المبنى و في إيده "هورن". و بدا ما اتأخرش:
ـ كل واحد منكو ياخد بعضه و يمشي على بيته أحسن له! أنا موش فاهم عاملين دوشة ليه؟ ريِّس راح و ريِّس جا! فيها إيه دي؟ يللا غورو من هنا!!!

فيضان و كل مدى يعلا و يعلا و يترعم كل جخنوق، و كل شق، كل حارة و كل زقاق، كل قلب و كل عقل. بس ما سمعت ش لا هتاف و لا غيره. كل اللي سمعته كان بُكا و صوات و تولويل و تشنهيف، زي ما نكون ماشيين في جنازة عريس. و فين طرأ وداني صوت جاي من بعيد. بقي انفتح مني باساعد وداني، لقيت اللي بيقول:
ـ فايتنا لمين يا بو الكل؟
طبيعي ما نروَّح ش. و طبيعي عينينا تفنجل كل ما السهر يغوَّط بنا لحد الفجر ما شاشأ.
و ي الفجر سيبت "أسوان" كلها تم ن في الشوارع و روَّحت.

صباحية 19 بؤونة 67:

الضهر تاني يوم بؤرة الجذب اتحوِّلت لمبنى المحافظة. و المبنى كان طالل على نيل "أسوان". و بالتالي الكورنيش وفَّر مساحة أوسع لمين؟
سيادة المُحافظ " مدكور أبو العز"ـ و الراجل أهل "أسوان" كلهم كانو بيحبوه ـ قال كلمة بالمناسبة دي نهاها بهتفاية:
ـ عُد يا جمال!
و سيادة اللوا "أ.عمر" ريس الاتحاد الاشتراكي دخل ع المكرفون خد الكلمة. و وقف ـ و لزهولي و أكيد زهول كل اللي كانو حاضرين شخطته اللي كان صداها للساه متعلَّق في الهوا من ليلة امبارح في الجو ـ هتف هو راخر:
ـ عُد يا جمال!
و قعد يحدي و الأسوانية كلهم تم ن يردو وراه.
الجو شبع هتاف. و الحناجر اتشرَّحت. و العينين بظت من محاجرها. و لولا "البكباشي الملهوم" رجع ما كنت ش عارف كان إيه اللي حصل لعناصر الطبيعة الاربعة.

علي بيــــه:

وصلت "أسوان" بعد ما شطبت امتحانات في شركة "مصر للطيران"، لقيت "علي بيه" قاعد مربَّع على عرش السلطة الغير منظورة اللي بتحكم و تتحكم في المديرية(=المحافظة) بحالها من مركز "إدفو" تحت لحد "وادي حلفا" فوق مع الحدود اللي الانجليز رسموها بين شمال الوادي و جنوبه. و ماعداش وقت أد كدا على وصولي و "علي بيه" بلغ قمة سلطته: نال شرف عالي رفعه لفوق السحاب، إزاي"؟ قرَّب م "البكباشي الملهوم" و فوق كدا فاز منه بتبسيمة عريضة، مكِّنته م الاستمرار واقف ريح منه إيل ما بيقول الخطبة بتاعته. إيه الحكاية؟ ما اخبي ش.
يومها نفق ـ الظاهر ـ كل فنون الدحلبة بتاعته و حيل المراوغة بتاع جنابه: يدخل بثقة زايدة، يقوم واحد من طاقم الأمن يظن إنه واحد منهم بس أكيد "محلي". و دي الخطوة اللي بتشبه الخطوة اللي هيَّ، في لعبة "الدومينو" . و بالطريقة دي كان قرَّب وقف تحت بس لزْق في المنصة المنصوبة مخصوص لـ "البكباشي الملهوم" . السد العالي" كان بيتبني. و مسحوق الحجر الجيري عمال يعمل دوامات عفار تقيل. و طبيعي أي جزمة، حتى لو كانت جزمة "البكباشي الملهوم"، لازم تشيل نصيبها العادل م العفار. و بطبيعة الحال "على بيه"، لما كان بيقرَّب م المنصة، كان متسلَّح، دون ن عن طاقم الحراسة الهبْل التانيين، بكذا منديل ابيض شاهي حاشرهم في جيوبه.
في الأصل "على بيه" كان فرَّاش، بمقشَّة، بس قعد يرقى نفسه بنفسه لحد ما بقا ريِّس الفراشين في مديرية "أسوان"، و بعبارة أدق أقوى شخصية في المنطقة اللي بتنحدر من حدود السودان لحدود مركز "إسنا" أول مركز في مديرية "قنا" و انت جاي متدحدر لتحت وي موج النيل.
واشهد إن الراجل كان زكي. و في بيئة تانية و عصر تاني كان ممكن أوي يكون فيلسوف من وزن "اسبينوزا" و لاَّ "برتراند راسل". إزاي؟ روَّق.
سيادته قاس، بالفطرة، المسافة اللي كانت، زي ماهي في كل مكان من نفس النوع، ممدودة بين الحُكام و المحكومين ، و دي مسافة واسعة و قول شاسعة، و موش بس كدا يستحيل عبور وعورتها. و هنا ركِّز سيادته على تحويل ذاته لكوبري غير منظور بين الطرفين. و في الإطار دا درك، بفطرته، مرة تانية، إن فيه طرف خسيس و من أصول اجتماعية متواضعة و اقل من متواضعة بس ظروف استثنائي خلَّته قادر، و طرف عادي و عاجز و على نياته و قليل الحيلة، و تقدر تقول عليه في كلمة واحدة "غلبان".
و بفطرته، مرة تالتة، اتفطَّم، منه لنفسه، على إن الخسيس القادر ـ أكيد ـ حوجان، زيه زي "الغلبان"، و جايز حوجته أنقح. فلو "البعيد" كان على سبيل المثال، حشاش، فموش معقول، لا هو و لا حد م الطقم اللي محاوطه، ح يدوِّر و يمسك "الصنف" و يختار و يوازن و يختبر و يوصَّل. و بالتالي ح يكون في أمس الحاجة لإيد، و قول لـ "ماشة" فوق الماشة النحاس المعروفة. و إذا "البعيد" كان بتاع كذا كذا ـ يجعل كلامنا خفيف ـ فمستحيل يدُور بنفسه يلقَّط المطلوب من هنا و هناك. و الحوجة ـ موش عارف ليه ـ تمللي تولِّد الاختراع.
و في المُقابل يعني على ضفة "الغلابة" تلاقي كيمان بلاوي: تعيينات على درجات و علاوات متأخرة و عمَّال "ظهورات" و تنقلات و بدلات موقوفة و اضطهادات...إلخ و في الإطار دا "حريمات" يعني حكيمات و ممرضات و سكرتيرات...الخ حازو، مع رقة أحوالهم ع الأقل عند بداية تعيينهم، حريات أوسع من باقي زميلاتهم و حقوق أوفر من دفعاتهم. بس دول كانو ـ بالصدفة ـ لونات، و بالتالي كانو "أقرب" لإيد "علي بيه".
و ما تعرف ش الغبا اللي العسكري مجبول عليه و لاَّ الاستهتار بالناس اللي سيادته بيكتسبه من مناهج الدراسة بتاعته، هو اللي خلاَّه يختار "الجارسونيرة" بتاع سيادته على قمة أعلى هضبة غرب "أسوان" في الطريق للمطار. و بالتالي الأسوانية كانو يقدرو ـ بسهولة نسبي ـ يتخيَّلو كل ما "الشقة" اللي بقت مرصودة في السفوح" تنوَّر، و خصوصي وي دُغيشة ايام الخميس سيادته وهو زلط-ملط زي سيادة اللوا "هارون الرشيد" أمين عام "الاتحاد العباسي" وسط الجواري الُغنَّج و "على بيه" مبطوح على بطنه من باب الخشوع ـ بكل تأكيد ـ بيرص تعامير الحشيش ماركة سيادة "المشير" تمهيد لمعركة فاصلة، وسايل الاعلام سمُّوها قال "نكسة". و عُقب المعركة دي سيادة اللوا "أ.عمر" صبح بعد النصر اللي اتحقق فيها ـ و بنعومة سخية ـ محافظ "أسوان".

باختصار: "علي بيه" بات و صبح بالطريقة دي "الحاكم الفعلي لـ "أسوان"، بمعنى قبلة الحوجانين: حكام و محكومين. و بطبيعة الحال اللي أسس لترسيخ ظاهرة "علي بيه" كان انتماء دول و دوكهام لنفس المستوى الثقافي المتدني، الأمر اللي نزل باحتياجاتهم ـ هم الاتنين ـ لمستوى سفلي: غريزي. فلا دول و لا دوكهام كانو منحدرين من أرستقراطية، سيان كانت ريفية و لا حضرية.

صباحية 5 بؤونة 67:

كابتن "يسري" وصل على متن الطيارة الروسي "الأنتينوف". طلعنا الطيارة، زي ما بنعمل وي كل رحلة، لقينا الطيارة فاضية، ما فيها ش و لا راكب. و "يُسري" قاعد في "الكابينة" ورا عجلة القيادة: شعره منكوش و قميصه طالع من بنطلونه و عينيه زايغة:
ـ إيه يا "كابتن" فيه إيه؟
ـ انهزمنا!
ـ إزاي؟
ـ طيارات إسرائيل غطت مطار الاقصر...
ـ بس دا مدني!
بص لي بأسى. كمِّل:
ـ ضربو كل الطيارات، حتى أسطول الطيارات الخردة، من طراز "كوميت" اللي سيادة اللوا رئيس مجلس إدارتنا الهمام اشتراه م الانجليز بالشيئ الفلاني. و من كسوفه منه جرَّشه في الدرا في مطار الاقصر! و أكيد لما ح يعرف ح ياخد نفس غميق.
ـ يعني الحرب فادت سيادة اللوا بتاعنا؟
كابتن "يُسري" كمِّل:
ـ و لولا جرينا على "عزيزة" حبيبتي(اسم الدلع اللي كابتن "يُسري" كان دايم ن يشاور به للطيارة الروسي من طراز "أنتينوف"، اللي كان رايح جاي على متنها) كانو نشُّوها.
كابتن "يُسري" هرش ما بين حواجبه. قال:
ـ يللا موِّنونا و قولو للبرج يطلب لنا إذن هبوط في أقرب مطار...
و استعجلنا:
ـ يللا مافي ش وقت، زمانهم خلَّصو مهمتهم في "الإقصر" و جايين... "عزيزة" ح تضيع منا!
ـ اتطمن يا "كابتن" الإسرائيليين موش غُباي ع شان يضربو "أسوان"...
ـ ليه بقا؟
ـ الروس!

إحساس غريب حسيته، عُقب ما اتأكدت و ي زملاتي في المطار، قبل الناس، كل الناس في "أسوان" بوقوع الهزيمة المرة: التحرر. لأول مرة من ساعة ما نشيت على وش الدنيا، يملاني إحساس بإن القيود اللي كانت مقيدة إيديَّ و رجليَّ و عقلي و وجداني اتدغدغت و نزلت تحت قدمي فتافيف أخف و أوهن من ذرات الغبار. شعرت إن الحر الفقير عون، أطول من شواشي النخل، و أعلى و أهم و أعظم من كل الحكام، اللي ما حسِّت ش بأد إيه خنقتهم و زرتهم على روحي، كانت تقيلة إلاَّ تاني لحظة بعد قبضتهم دي ما انهارت منها لوحدها بفضل الهزيمة المرة، اللي اسرائيل دفست كاسها في زورهم. ففي لحظة واحدة حسيت إن حكامي ما يستحقوش لا احترامي و لا يستاهلوش حتى خوفي منهم. باختصار حسيت إني أنا سيِّد نفسي و سيد أرضي اللي واقف عليها و سيد سمايا اللي زرقتها مضللة فوق دماغي!

حسيت بالإحساس دا لوحدي، و كنت واقف بمُفردي تحت شجرة "الكافور" الفرداني في مطار "اسوان". و في اللحظة دي طاف حولين مني سؤال: يا هل ترى أنا بانفرد بالإحساس بالإحساس دا؟ بس خبيت السؤال، و في اللحظة اللي اختارت فيها أخبي سؤالي في سدري عن كل اللي حولين مني، الإحساس الجميل دا اتبخَّر في الجو. و من ساعتها و انا عمَّال أطير وراه أصطاد فيه. بس اللي راح راح.

نوبــــــي:

هفت على دماغي أفصَّل جلابية نوبي، بطوق و جيب كبير على سدري. و فعل ن اشتريت القماش و حودته على أول ترزي صادفته في شارع "السيل". و قعدت كل شوي أعدي عليه، ألقاه مرة فارد القماش ع "البنك" قدام منه و ساند بكوعه عليه. و مرة ماسك المقص بتاع الترزية في إيده اليمين و باصص ع القماش قدام منه ع "البنك"، أقوم أصلي لكل الآلهة يضرب أول ضربة، و دي ح تجر وراها ـ أكيد ـ التانية و التالتة. بس ياما السما حبلت بالسحاب. لاكن ضنت بالمطر.
و الحال تنه على ما هو كدا، لحد هزيمة يونيو/بؤونة ما فرشت و رَّبعت في عقلنا و وجداننا.
و في يوم العصاري فايت حودِّت. لقاني شايل طاجن ستي. قام استفهم:
ـ فيه إيه يا أستاذ؟
ـ ما في ش.
ـ ناسك كويسين في بحري؟
ـ بخير.
ـ أمال إيه عاد؟
و شال دماغه لفوق زي ديك بيشرب. دحك من منخيره. وطى على ودني. وشوش:
ـ ما تزعل ش جوي جوي كدا؟
إتنبِّهت رديت:
ـ إزاي ما ازعل ش بس، و اللي حصل، دا انت عارف تم في ظرف مافي ش...
ـ يا أُستاذ، هم اللي انكسرو...
استغربت صححت:
ـ إحنا اللي انكسرنا...
ـ يا أُستاذ! يا أستاذ! يا أُستاذ!
ـ إحنا اللي انكسرنا و خدو "سينا" مننا...
ـ يا أستاذ! في عرض دين النبي في عرض دين الأوليا الصالحين و اهل البيت...
ـ دول وصلو لحد "السويس"...
دماغه وقع على سدره.
خدت بعضي و مشيت باجرجر في قدميني في طريق "الكورنيش"، و انا زارر جفوني و عمَّال أحقق في شُطف الموج اللي راجعة لورا على وش "حابي"، اللي الضفتين كانو و تنهم لحد قريِّب، يعني من ألفين سنة يا دوبك، يسبَّحو بخيره.
في دغيشة المغارب حوِّدت عليه. شيلت عينيَّ. قراهم إزاي؟ ما اعرف ش لقيت وشه نوَّر. شاف إيه في عيني؟ ما اعرف ش بس بسِّم، إتكا ع الحروف بين اسنانه. قال بشويش:
ـ عرفت يا أُستاذ هم اللي انكسرو و جريو و هربو قدامهم، و لو كانو اتنصرو لكانو ركبونا حمير ع العري من غير برادع في طول و عرض الشارع !

سايح سويــدي:

عُقب تطبيع الحياة اليومية قبل ما يعدي ع الهزيمة المرة سنة واحدة، و بالتالي السُّياح الأجانب بدو يتدفَّقو على "أسوان".
و في يوم صفاري سمس دخل علي سايح سويدي، متنرفز جامد، وحط علبة دوا، موش فاكر إن كانت مضاد و لاَّ فيتامين، و عوج شدقه و قال، بلسانه و صباعه، و فناجيل عينيه:
ـ أنا اشتريت دي م الأجزخانة!
ما فهمت ش. و أي حد لما ما يفهم ش يحب يستكشف الموضوع إيه، فتلاقيه يقول أي كلام. و دا اللي حصل مني:
ـ بكام؟
اللي كان متنرفز شاط:
ـ باقول لك اشتريت دي م الأجزخانة!
قصَّرت لساني جزِّيت على سناني زميت شفتيري ليغلبوني. وقفت قدام منه سكت ن بُكم ن.
لقيته قرَّب علبة الدوا من منخيري. قال:
ـ إقرا.
قريت. فهمت. اتبلِّيت. و هو تأنيبه لي ما اتأخرش:
ـ إزاي نبعت الدوا دا "هدية" م الشعب السويدي للشعب المصري، يعني مجاني، و يتباع في مصر؟

د. عمر مكاوي:

جمعتنا الهموم اللي ركبتنا، زي العفاريت ما بتركب التايهين في براري الليل، فتزوِّدهم توهان. كنا في بيت د. "عمر مكاوي" عُقب الهزيمة المُرة و لاَّ "النكسة"، بتاع 1967 . الزهول كان مفنجل لنا عينينا: عايزين نشوف إيه اللي حصل، و ازاي نتجاوزه.
الشقة بتاع د. عمر مكاوي كانت خمس أود، بس هو ما كان ش ساكن إلاَّ في أودة واحدة. و باقي الشقة ضلمة كُحل حتى الصالة. و بالتالي كان يشط لنا كذا كام عود كبريت على ما نعديها نروح للأودة بتاعته اللي كانت بتطل على ميدان "باب الشعرية".
كنا تلاتة: "يوسف الحجاجي" ـ صحفي ـ و "محمد قاسم" ـ مُحاسب ـ و "الحر الفقير". و كلنا كنا يساريين، بس برؤى مختلفة و وجه نظر متباينة. بس د. عمر كان الأكتر يسارية فينا بحكم الفتر اللي قضاها مرة في السجن و مرات في المعتقلات: ما كان ش يطلع إلاَّ لما يدخل.
شوي و طرح علينا اقتراح بس بشكل حاسم:
ـ لازم نبعت تلغراف لـ "عبد الناصر" فوري...
ـ إحنا؟
ـ طبع ن.
ـ بصفتنا إيه؟
ـ بصفتنا مواطنين مصريين، قلبهم على بلدهم اللي قربعت هزيمة مُرة ما تستاهل ها ش.
بصينا لبعض إحنا التلات ضيوف. فهمنا السبب اللي د. عمر، صديقنا العزيز، دعانا ع شانه.
و فرك لكو د. عمر إيديه في بعض. و قال:
ـ موش تسمعو الأوَّل صيغة التلغراف؟
قبل ما نوافق نسمع حدف الصيغة بنغم حماسي:
//عد إلى 5 خميس العدس.//
و شرح لنا سيادته إن دا العنوان اللي سيادة "البكباشي الملهوم" كان ساكن فيه في "اسكندرية. و وضِّح لنا "خميس العدس" دي حارة ملولوة و ضلمة كحل حتى في عز النهار، يعني حارة شعبية بكل معنى من معاني الكلمة. و المقصود هو الرجوع للطبقات الشعبية. يعني توفير رغيف العيش و علبة الزيت و كل الضروريات للشعب بأسعار رخيصة...
د. عمر مكاوي طرح علينا الاقتراح الساعة 7 المسا. و فوري اشتبكنا في نقاش حامي. بنبص في الساعة لقيناها 2 بعد نص الليل.
اللي قال:
ـ و افرض يا د. عمر، "البكباشي الملهوم" سمع الكلام و رجع للطبقات الشعبية، الطبقة العسكرية بتاعته، ح ترجع وياه، و لاَّ ح تسيبه يرجع لوحده؟
و اللي قال:
ـ مفهوم "عصمة الزعيم الملهوم"، و بالتالي نفي مسؤوليته عن كل اللي بيجري من فساد في البلاد و تعليق المسؤولية في رقبة المحاوطين، مفهوم بتروِّج له كل النظم الديكتاتورية في التاريخ.
و اللي قال:
ـ هزيمة مصر ما كانت ش قدام جيش الدفاع الاسرائيلي، لاكن قدام نظام الحُكم العسكري، يعني الهزيمة كانت في الداخل، موش ع الحدود.
و اللي رجع قال:
ـ طيب و إي ش عرَّفك إن التلغراف اللي عايزنا نبعته دا، ح يفلت من إيدين المحاوطين و يوصل لسيادته؟
أما "الحر الفقير" فقال:
ـ بس موش جايز يا د. عمر، التلغراف دا يكون ح يفكَّره باللي هو عايز ينساه؟
صمم و احنا صممنا.
على وش الفجر افترقنا قدام الباب: بس هو ع "السنترال".
و الظاهر كانو منتظرينه هناك على ميعاد.
و تنه مخفي ورا الشمس تلات –ت-اشهر. و لما رجع فهمنا اللي حصل له منه، من غير ما يفتح بقه بحرف واحد.

ع. الأمير:

سؤال بسيط سألته للظابط اللي قدم لي تذكرة السفر من أسوان لـ "مصر". سؤال باسأله لأي راكب, اتلفت لقيت الظابط اللي ما قدرت ش لحظتها أحدد رتبته بالظبط نتيجة لزيه الملكي بس الظاهر كان بدبورة ي اتنين، شاور لي على مدير المباحث العامة بـ "أسوان"، و أسطورتها المرعبة في الوقت دا و قال:
ـ "ع." بيه... يعجب؟
بصيت في التذكرة لقيتها باسم تاني: واحدة ست، يعني: بيغلط و بيحملني غلطه و كمان بيتلامض. الحقيقة نفسي صُعبت عليَّ. قلت:
ـ خلي سيادته يراجعني بنفسه!
و أتاري الظابط اللي مد لي التذكرة ما كان ش لوحده. لقيت فوق عن عشرة اتنترو انحدفو فتحو برابخهم ع الحر الفقير:
ـ إنت إيه إنت؟
ـ فين رئيس ك؟
ـ إنت تعرف عملت إيه دا الوقت؟
و بطبيعة الحال الأسئلة دي ما كانت ش حاف كدا: كانت متغمِّسة بصفات و آيات الرقي و الترقي بتاع العسكرية المصرية العتيقة. و واحد منهم مسك لي دقنه بحركة تهديد واضح. و ساب لي أحل شفرتها بنفسي.
و يومها اللي حصل إن العمال اللي شغالين معاي جريو على كابتن الطيارة "يسري" و حكو له إن فيه واحد راكب بيتخانق مع الأستاذ(=الحر الفقير) و فعل ن لقيت كابتن "يُسري" ـ و كان شاب مصري ابن بلد و شهم ـ جا جري ع الخناقة، سابق العمال بكذا كام خطوة. و على بُعد ندهة صوت لقيته انسخط حجر. و لما الخناقة اللي كانت من طرف واحد، صبحت في خبر كان. سألت عن السبب. العمال قالو لي: هو اللي سأل: بيتخانق وي مين؟ و لما ردينا عليه جراله اللي جراله.

أغرب ما حصل راجت عني أساطير، لدرجة إن "الأسوانية" قعدو ايام و أسابيع و شهور ييجو يقفو اقواس حولين مني، و هم بيشاورو عليَّ و يقولو لبعض:
ـ هو دا!
و الأساطير دي ضربت لها في الأرض جدور- اوتاد بعد سيادته ما نقلوه ـ لسبب مجهول جايز الترقي ـ من "أسوان". بس العقلي الجمعي رجَّع النقل دا لأسباب ميتافزيقي، الحر الفقير لعب فيها دور البطل المغوار فانزياح كابوس مُخيف للحد دا عن الأهالي، و خصوصي العمال و النقابيين و السياسيين، يستحيل ما تقف ش وراه "كرامة" لولي من أبتع الأولياء.

ناصريين لبنانيين:

في خريف سنة 1968، زميلي و صديقي الراحل الكريم "عفيف توفيق فرَّاج" دعاني لزيارة لبنان. و في "بعلبك(=بعل بك) و في مضيفة واحد م الأصدقاء دخلت لقيت اللي مستنيين ني، فوق عن ميتين ميتين و خمسين لبناني، و كلهم تم ن كانو ناصريين بدرجة و لاَّ التانية يعني قوميين عرب و بعثيين، و يساريين ستالينيين و إسلاميين سنيين و شيعيين. و الموضوع اللي ما كان غيره موضوع في القعدة دي كان "النكسة" بتاع يونيو/حزيران 1967.
الزهول كان متقَّل الهوا اللي بنتنفسه كلنا في المضيفة. بس زهولي كان متبطَّن بالخزي، بسسب إحساسي بمسؤوليتي عن اللي ما كان لي ش فيه دخل أي دخل.
واحد منهم بدا:
ـ إزاي دا يحصل في أرض المعركة، و إحنا كنا مأمنين إيمان مُطلق إن الجيش المصري هو تالت جيش في العالم بعد الأمريكاني و الروسي؟!؟
ما كنت ش كمِّلت أول عبارة توضيح للمنطق بتاعي:
ـ مصر انهزمت قبل يوم الاتنين خمسة يونيو/حزيران بوقت طويل، بس موش على إيدين إسرائيل، لاكن بإيدين العسكروت الحاكم، اللي السفارة الأمريكية...
بصيت لقيت وحش خرافي قفز من اين ما اعرف ش سيطر ع المضيفة: زيطة و زمبليطة و هيجان و زعيق و اللي وقف و اللي دبدب و اللي خد بعضه و مشي. بس ساب وراه صدى زعبوبة:
فيه م اللي قعد منهم اللي قال:
ـ بقا دا اسمه كلام؟
و اللي قال:
ـ بقا الزعيم عبد الناصر اللي حرر مصر م الاستعمار الانجليزي اللي نزح ثروات البلاد، و الإقطاع اللي ذل الفلاحين و الرأسمالية اللي نهبت الشعب و أمم قناة السويس و اتنصر ع العدوان الثلاثي في بورسعيد و بنى الاشتراكية في وادي النيل و وقف ضد الاستعمار الأمريكاني الجديد، جاي سيادتك...
و واحد قال:
ـ بقا الزعيم "عبد الناصر" اللي قال:
* الراجل المناسب في المكان المناسب...
واحد تاني قاطعه:
ـ نسيت لما قال:
* العمل شرف العمل حق العمل واجب!
تالتهم اتدخَّل:
ـ و لاَّ لما قال:
*مصر موش ح تنحكم لا من موسكو و لا من واشنطون!
و اللي اتنحنح و فتى بأمان و طمان:
ـ دي بس الدعايات الصهونية- الأمريكاني اللي عايزة تشوه أول تجربة بتعادي الاستعمار بحق و حقيق في العالم العربي، أول تجربة وحَّدت العرب في أول جمهورية عربية متحدة في تاريخ المنطقة!
ليلتها حزنت، و للحزن معاي تاريخ طرَّاح لتمر، جايز أجمل و أمتع و أنقى من تجارب الفرح. رسيت يوميها إن "الناصريين أجمل و أشرف و أنزه م "البكباشي الملهوم" ذات نفسه". فللعميل الأمريكاني في منطقتنا وشين زي البنجر، وش أحمر و تحته طوالي وش تاني (فالأخ العقيد تالت أكبر "حليف" ـ و بلاش الكلمة التانية ـ ظهر في المنطقة للولايات المتحدة بعد "البكباشي الملهوم" و "صدام حسين" ياما زعق: عمالين يقولو لي أمريكا أمريكا، يحرج دين أمريكا، نموذج). يعني لابس وش عكس وشه الحقيقي على كل الخط. يعلن شعار "الرجل المُناسب في المكان المناسب" و هو ذاته ما يكون ش مناسب في المكان بتاعه، فكفاية يكون وصل للحكم على متن دبابة و بتدبير المخابرات المركزية، موش عن طريق سندوق اقتراع و لا في ضل برلمان مُنتخب. بعبارة تانية وش أولاني اللي هو القول و التاني هو الفعل. وعلى أد القول ما كان نزيه الفعل كان خسيس.
و ع شان كدا عذرت ناس زي كاسترو و جيفارا و حتى هوجو شافيز. فإعجابهم بشخص "البكباشي الملهوم" كان في محله. ع شان الإعجاب كان بالوش اللي الأمة المصرية، جايز تكون سمعته و يَّ اللي سمعوه، بس ما شافت هوش منه طول حكمه اللي طال لحد ما "عزرائين" اتدخل بعد 18 سنة.


طبــل و زمـــر:

مزيكاتي حكي لي:

جاتني في البوسطة عُقب حرب الست ساعات قصيدة. و من فرحي بها، لحنتها. و بمجرد ما اتعرفت اتنشرت و ساعة ما وصلت لهم قفشوني.
و في مبنى مباحث أمن الدولة الظباط سألوني:
ـ الكلام دا مين اللي كتبه؟
رديت:
ـ الكلام دا بتاع "سيِّد درويش".
و لما صريت ع اللي قلت لهم، لقيتهم شمَّرو و هب ح يشوفو شغلهم معاي. رحت قايل لهم:
ـ أنا على أتم الاستعداد أمضي لكو على أي حاجة تشوفوها صح، بس ما انضرب ش و لا اتهان ش. و في اللحظة دي حضر رئيس نيابة أمن الدولة "ش. المنباوي". و دوغري قال لهم: سيبو هو لي انتو خالص، إنتو ما انتوش ح تسلكو وي تعبان بالشكل دا.
طلعو و هو خدني ع النيابة اللي كانت في نفس المبنى.
دخلت. قفل الأودة عليَّ أنا و هو. سأل:
ـ الكلام دا اللي انت غنيت هو دا بتاع مين؟
ـ سيِّد درويش يا افندم.
ـ متأكد إنه بتاع "سيد درويش"؟
ـ متأكد يا افندم!
ـ أوعا تكون بتكدب؟
ـ لا يا افندم و رحمة أمي يا افندم.
هرش قورته. قال:
ـ الكلام دا جا لك بالبريد، صح؟
إترددت شوي. قلت:
ـ أيوا
ـ تعرف مين اللي بعت هو لك؟
ـ ح اعرف من اين يا افندم؟
بسِّم بالدحك. طلَّع لي كراسة من دُرج مكتبه. سأل:
ـ الخط اللي في الكراسة دي هو نفس الخط اللي وصل لك بالبريد؟
إتلفِّت حولين مني. رد هو على سؤاله بنفسه:
ـ هو؟
ـ الظاهر كدا، موش فاكر أوي!
ـ لأ هو.
ـ و ليه سيادتك بتأكد بالشكل دا؟
ـ ع شان الخط دا خطي أنا،
ـ خط ك!
ـ و الكلام دا من تأليفي. أنا و أنا اللي كنت باعت هو لك!

الطبل طيط و الزمر طيط
يا شعب يا أهبل يا عبيـط

الطبل طاط و الزمر طاط
يا شعب عايش بس مات

الطبل طوط و الزمر طوط
و الكدب زي العنكبوت
و العنكبوت ناسج تابوت
مدفونة فيه البيوت
جعانين يقول لك مرحلة
ح نموت موش مُشكلة
جوع و انت ساكت مرجلة
و لاَّ انت غاوي بهدلة
ح تشوف بلاوي متلتلة

و الطبل طوط و الزمر طوط
و الناس تخاصم عقلها
و الطبل طاط و الزمر طاط
يطلع يقول "واشرح لها" (سطر من غنيوة لمطرب سوري اسمه "فهد بلان" غناها من هنا و "النكسة" بتعبير الإعلاميين المأجورين و في الحقيقة "الهزيمة" المُرة طبت على نافوخ اللي جابونا.)
الغلطة دي موش مننا
و التانية دي من كلنا
و التالتة دي من ربنا
و الرابعة دي عندي أنا

و الطبل طوط و الزمر طوط
أول ما قال "واشرح لها"
تلقا الألوف واقفين صفوف
تشبه شواهد مقبرة
ملايين عقولها متخدَّرة
مفزوعة ي متهددة
جوا التابوت متمددة

و الطبل طوط و الزمر طوط
أول ما قال و اشرح لها
الكدب ياكل مخها
فالغلطة دي تفرح لها
و الرابعة دي ترقص لها
و تهتف لها

و الطبل طوط
مسامير تمسمر في التابوت
ع شان جميع الناس تموت
و يعيش زعيم الزمر طوط.

و لما الاستغراب اترسم على وشوشنا، إحنا القاعدين. نفس المزيكاتي اتنهد و سأل:
ـ فكَّرو كدا الكلام اللي الجاي دا لمين م الشعرا؟

يا عم يا للي انت غصب عنا ريِّسنا
يا اللي اليهود لوَّصوك و احنا معاك لوصنا
و موسى ديان موش ناوي يخلص ك و لا انت قادر تخلَّصنا
في عز أمشير خدنا ع البحر غطَّسنا
و في بؤونة الحجر خلاَّنا رصرصنا
تسمح يا ريِّس تتنازل تبعبصنا
و ان كنت عايز تنيك مافي ش مانع و جرَّسنا
و ان كنت عايز تنيك غيرنا مافي ش مانع و عرَّصنا
بس يللا هاتهم قوام و خد كيفك و خلَّصنا
خلينا نعرف يا ابن الكلب طيزنا من راسنا!

و لما حُمارنا غُلُب. جاوب على سؤاله بنفسه:
ـ دي لنفس الشاعر اللي غنو له:
و اللاه زمان يا سلاحي
اشتقتك في كـــفاحي
انطق و قول: أنا صاحي...إلخ

البوسطجية اشتكو:

جمعتني الصُّدفة في مطلع الستينات وي مؤلف غنيوة /"البوسطجية" اشتكو/ على قهوة ماسكة ناصية شارع "عماد الدين" وي "سليمان الحلبي" اسمها "اسفنكس". علاقة متناقضة كانت رابطة(ا)نا: الخوف المريع م "المرواح ورا الشمس"، زي المُصطلح ما شاع على كل لسان و قتها، و رغبة رهيبة بتفور جوانا في الفضفضة لا الواحد يطق.
أول ما فتح بقه معاي، كمِّل، زي ما يكون بيزيد و يعيد في "وِرد":
ـ حق الأداء العلني...ما تعرف هوش؟
ـ يعني...
قلت الكلمة و قطمت. قام هو شرح:
ـ كل الغنيوة بتاعتك ما تتذاع، الجمعية تحسب لك حقك/ سيان كنت مؤلِّف زيي، و لا مغناواتي، و لا مُلحِّن. بس سيادته أمر...
و حط بقه في ودني و بعت عينيه، عين على باب "عماد الدين" و التانية على باب "سليمان الحلبي" و فح:
ـ إبن البوسطجي!
ـ وقَّف ها، يعني ما تنذاع ش، يعني سرسوب الماية اللي كان بييجي لنا من "باريس" انقطع...
و حط بقه في ودني و فح:
ـ اللاه يخرب بيت أمه على بيت ابوه!

عبد العزيز عبد اللاه:

وي مطلع التمانينات عيِّنو معانا في الجريدة اللي كت باشتغل فيها محرر-مترجم، ما احب لها ش ذكر يمر على لساني، واحد سُفيِّف. الجدع دا عرفت بعدين إنه كان "كادر" كبير في التنظيمات الناصرية من "جبهة التحرير" لـ "الاتحاد القومي" لـ "الاتحاد الاشتراكي". و بحكم الزمالة كان لازم نقابل بعض و نسلِّم على بعض، و بمرور الوقت صبح علينا نتكلِّم. و بحكم تاريخه، حرصت اقصر حديتي معاه ع النشرة الجوية و أدوية الحكة و الفروق الدقي بين الألوان و ذبذباتها. و طبيعي أي لعيب في سرك، لازم ييجي عليه لحظة يزهق من تقنه للمشي ع السلك المشدود، زي الصراط يوم الحساب. و اللي قرَّب الاحساس بالزهق كان الجو المحاوط المتشبَّع بالآراء و النظريات و الملاحظات اللي بتلف و تدور حولين السياسة، الأمر اللي خلى اصرارنا على تجنب الموضوع افتعال ممجوج . بس في ضل الجو دا كنا عمالين ننسج احنا الاتنين في علاقة صداقة أساسها الحذر المتبادل. و هب لحظة مشحونة بالزمزأة طبت ع "الحر الفقير" على سهوة. اتبسِّمت تبسيمة عريضة، زي ما تكون "فزلين" و سايبه يسيح بهدف التلطيف و التخفيف, قلت:
ـ أنا جاتني فكرة.
سكت. شجَّع ني:
ـ خير!
ـ يوجب علينا نفرَّق بين "عبد الناصر" كشخص و بصفته دي له كل احترام واجب، و بين "عبد الناصر" كـ "راجل دولة" نقدر ننقد بعض ....
اتلفت لقيت سلهوب نار، ما يهم ش كان فوق السبعين من عمره، نط وقف على امشاط رجليه. و فتح في وشي "مُسدس" إيده اليمين: الموات زناد، مع اللحاس ماسورة، و زعق:
ـ شوف لما افهِّمك: ربنا فوق و "عبد الناصر تحت!

كوبري الفردان:

جمعتني الصُّدفة وي الأستاذ السابق الريس السابق لقسم الهندسة الميكانيكي في كلية الهندسة في جامعة "عين شمس" في مطلع التمانيات في بيته في "حدايق القبة" ـ كان وقتها طالع ع المعاش من فوق عن عشر سنين ـ اتطمن لي حكى:
ـ خلال حرب 56، كوبري "الفردان" اللي بيعدي "قنال السويس" ضربوه، و الكوبري كان متصمم فردتين بحيث يقفل لاجل يوصل البرين بتاع القنال، و يفتح يسيب البواخر تعدي. و لما ضربوه، كل فردة ركنت على جنب ريح الشط بتاعها. حكومتنا جابت خبرا أجانب، إي شي أمريكان و إي شي ألمان...إلخ، و كلهم "فتو" باستحالة الاصلاح، و مافي ش فيه حل إلاَّ بنا كوبري جديد. بس البلد كانت طالعة من حرب... قول طلبوني ياخدو استشارتي. رحت عاينت و قررت: التصليح ممكن. و فعل ن، اخترت فريق محدود و شوية معدات، و اشتغلنا و نجحنا في ترجيع الكوبري زي ما كان وي فارق بين الفردتين عند القفل ما يزيدش عن 2 سنتي.
روحي يا ايام تعالي يا ايام قاعد لقيت جاني جواب من رياسة الجمهورية ممهور بختم "سري". فتحت الظرف لقيت "شيك" بـ 146 و كذا كام قرش. ربك و الحق، و بصرف النظر عن كون المبلغ هزيل، انكسفت آخد أي ملين نظير مُهمة اعتبرتها في خدمة البلاد. و قلت دا ياما فيه ناس ماتت و ناس فقدت حبايبها في الحرب، و أنا... تنقطع يميني لو مديتها على مليم. قول رجَّعت "الشيك" للرياسة و ع الظرف كتبت: هدية مني لخزانة مصر. و مضيت "اسماعيل".
قاعد بأمان و طمان لقيت تخبيط ح يقلع الباب، انحدفت افتح بلبس البيت، إلاَّ و ألقاه نط وقف في وسط الصالة، و السؤال سابقه:
ـ إنت فلان!
ـ أيوا
ـ انت اللي اعترضت على حكم "الريِّس"؟
ـ حُكم!
ـ موش انت اللي اعترضت برده ـ يا شرموط ـ ع "الشيك" اللي الريِّس بعت هو لك؟
ـ طيب أغيَّر هدومي.
الرد كان من سيادة الصاغ "أ.أنور" ـ عرفت اسمه بعدين ـ ضرب ني ضربة فنية بصوابع إيديه على نافوخي، سورقت. و لما فوقت لقيت ني في زنزانة مترين في مترين.

وهدان و المستشار:

واقف في ميدان الاسماعيلية(=التحرير) مستني اضرب تلفون موش فاكر لمين. وقفتي جات ـ بالصدفة ـ ورا واحد، كان واضح انه ي ساعي ي شغَّال في مزرعة: عاكم كذا كام جوز ديوك رومي في إيد و بيضرب نمرة تلفون بالإيد الفاضية. سيادته خد السماعة لاجل يسأل الطرف التاني:
ـ "وهدان" بيه موجود؟
ما تعرف ش الرد كان إيه. بس الساعي دا اتكسكس بضهره لاجل يدِّي سكة للي بعده، اللي هو مين؟ بس الاسم كان بربق قدام عيني و الديوك الرومي ساعدت ني، فاديت دوري للي بعدي. و ما قدرت ش أحوش نفسي ما اسأل ش صاحبنا:
ـ "وهدان" بيه اللي "هف" الجمعيات التعاونية في اسكندرية؟
الساعي اتاخد. لاكن لحق دافع عن سيده دفاع مجيد:
ـ بس موش لوحده يا بيه!

وي مطلع الستينات ريحة الفساد كانت فاحت لحد ما زكمت. و بطبيعة الحال "ثورة" قامت ضد الفساد و الرشوة و المحسوبية، لازم تشوف لها حل.
اصحاب القرار، شافو، في ضي تفكيرهم الغميق، يعملو "كبش فدا" يشيِّلوه الشيلة" ـ هيلة بيلة ـ و هب لقو لكو "لقية" م السما.
"وهدان" وقف قدام قاض التحقيق، لاجل يجاوب بالإيجاب على كل الأسئلة اللي سيادة القاضي وجهها له: هل اختلست يوم كذا كذا حسبة كذا كذا؟ الجواب ييجي: أيوا نعم حصل. هل خنسرت؟ أيوا دا اللي حصل بالظبط يا سيادة القاضي. هل حصل في يوم كذا كذا أنك ما ورَّدت ش الإيراد؟ و أورَّده ليه؟ و ما اضربوش في جيبي ليه؟

والجريدة الأولانية شبه الرسمية تنشر اللي الصحفيين سمُّوه "إعترافات وهدان" في أول صفحة و بالبنط العريض على عشر-ت-اكوار.

و فجأة النشر وقف: فيشة و انسلتت.

شوي و ظهر عنوان بالبنط العريض ملا الصفحة التالتة في "الجورنال" اللي "إلاه الكدب في مصر" كان بيترَّأس تحريره في ديك الوقت. العنوان بيقول:
"مصرع المستشار كامل لطف اللاه..."
و على مدى صفحة كاملة هي الصفحة التالتة في الجورنال روى قصة "انتحار" سيادة المستشار، و ازاي لقو الجثة بالملابس الداخلي في منور العمارة. و الجورنال ما نسي ش يستأنس برأي دكتور علم نفس ـ موش فاكر اسمه ـ في العلاقة بين أنواع متعينة م الاكتئاب الحاد و التفكير الجد في انهاء الحياة، اللي "العوام" بيسموه "الانتحار...إلخ

روحي يا ايام تعا ي ايام، تجمع ني الصدفة مع اللي ربط لي المتفكك في كل مفهوم يعني قابل للاستيعاب:

"ع. صبري" زار سيادة المستشار ـ أخوي ـ في بيته و طلب منه الطلب دا:
ـ لم الموضوع يا "كامل"!
ـ و اللاهي أنا ح احكم بالقانون و بالاستناد لواقع الأوراق و المستندات...
ـ القضية بتمس أطراف كتير، لحد النايب الأولاني للرياسة اللي هو سيادة المُشير...
ـ بس أنا ما اقدرش أخالف ضمير القاضي.
ـ هل دا كلام نهائي؟
ـ يعني إيه السؤال دا؟
ـ يعني ما تقدرش تعيد نظر، تفكَّر من جديد في الموضوع، تستشير حد و لاَّ محدود يكون قريِّب منك و حريص على مصلحتك ... و سلامتك... و يعني...؟
ـ يستحيل أخون الأمانة اللي عشت طول عمري شايلها في رقبتي.
ـ حاول.
ـ أحاول في إيه أنا بس.
ـ سعيدة!
ـ سعيدة مبارك!

لبيب شُقير:

"العسكروت الحاكم" نظَّم، عُقب الهزيمة المرة، عدد م اللجان سماها "لجان التوعية". واحدة م اللجان دي وصلت "أسوان" ع شان توعِّي. و اللجنة كانت برياسة د. "لبيب شُقير"، اللي وقف في أول سلسلة الأكاديميين اللي انضمو لسلك الخدم و الحشم بتاع العسكروت الحاكم تحت اسم "رئيس مجلس الأمة". و دي تسمية، تسلم البطن اللي جابت اللي سمَّاها. ليه؟ ع شان ميِّزت بين الـ "اختراع" بتاع الانقلاب الأمريكاني و الكلمة-النظير: البرلمان. و في قصر "ثقافة أسوان" انعقد أول اجتماع في سبيل التوعية. و طبيعي نروح نحضر اجتماع زي دا لاجل نشوف و جايز يوعُّونا، ليه لأ؟
و هناك في قصر الثقافة، اتفاجئت بابن عمتي "ف. ناجي" ضمن الوفد و بالتحديد في صحبة د. شقير. و بكدا لقيت ني مضموم للوفد. و من ناحيتي قلت فرصة اطل ع المطبخ من جوا. و دا اللي حصل و كان.
سيادة المحافظ اللي كان وقتها اللوا "أ.عمر" قال كلمة الافتتاح و وراه طوالي "د. شُقير" و بعديه كلمات الأعضاء اتوالت. و طبيعي كلمات أعضاء وفد م النوع دا تكون م النوع الحماسي. حماسي بعد هزيمة بحجم 67 ليه لأ؟ بدام إيد ماسكة المكرفون و التانية ماسكة الكرباك. و طبيعي التسقيف، اللي ما بيقطعوش غير التهتيف، يرج الحيطان و السقوف. فالحاضرين كانو كلهم تم ن، فيما عدا الحر الفقير، م المستويات الأعلى في التنظيم الواحد الأحد اللي ما بيعكس س إلاَّ غياب الديموقراطية: "الاتحاد الاشتراكي". بس موش معنى كدا إنهم بالنفر، و لا حتى مُعظمهم كانو، من نفس المعدن.
الكلمات بسطت و شرحت و مططت و رحرحت في مقولات م النوع دا:
· اليهود خدونا على خوانة!
· استنينانهم ييجو م الشرق جونا م الغرب!
* أمريكا لحقت عملت جسر جوي خوف لنهزم اسرائيل!
· قواتنا البحرية قدرت لوحدها تغرَّق غواصة اسرائيلية اسمها "إيلات"!
· ضحِّينا أي نعم بالطيارات بتاعتنا و هي باركة ع المهابط بس نجحنا في الحفاظ على طياريننا استعداد للمعركة الجاية: معركة أخدان التار!
· قدرنا نفشل العدوان الاسرائيلي و نمنعه من تحقيق هدفه السياسي في تسقيط "النظام الثوري" في مصر، و بالتالي ـ لو جينا للحق ـ يبقا مين اللي فاز بالنصر؟ أظن موش عايزة فكاكة!
· اللي اتاخد بالقوة ما يرجع ش إلاَّ بالقوة!
· آه و ألف آه لو العرب اتحدو ح نرمي "إسرائيل" دي في اليم في غمضة عين!
....الخ
وي كل مقولة م المقولات دي عُضو من أعضاء الوفد يتناولها خلال جرعة الوعي، اللي شايلها معاه و محرَّس عليها، م العاصمة " مصر"، كت ارشق عيني في عينين "ابن عمتي"، اللي كان قاعد كتفه لزق في كتفي في أول صف وي الحضور، أقوم ألاقي "ابن عمتي" دا رفع لي حاجبه الشمال لفوق و بص لي وصن.
شوي و باب الأسئلة فتحوه.
وقف لكو راجل نوبي عجوز. إيه دخَّله "الاتحاد الاشتراكي" ما تعرف ش، يكون ش الجان بيلعب؟ طيب و إيه وصَّله لحد عضوية لجنة العشرين، و إلاَّ ما كان ش حضر "جلسة التوعية" دي؟ أكيد "إبليس" ما بيونِّ ش. طيب و إيه اللي خلَّى صبي المكرفون يدي له سماعة من احسن سماعات المكرفون في القاعة بتاع القصر بحاله، لا بيتقطَّع و لا بتخروش؟ القضا و القدر؟
بدا الحكاية ـ و الحروف العربي زي الحا و االعا ...إلخ كانت تقيلة عليه ـ فقال:
ـ رئيس لجنة الإشرين بتاأ الاتهاد الإشتراكي بتاأكو دا استولى ألى أرد واهد ست لاجل يبني أليها واهد "بلة" كلتها إزاز في إزاز...إلخ واهد ست فلاهة، تيِّب توكِّل معزتها و غنمتها من فين؟ جولو لي يا اهل المئرفة...إلخ
واحد م الوفد مد بوزه في المكرفون المتثبِّت ع المنصة قاطع النوبي العجوز:
ـ ليه ما قدمت ش شكوى لسيادة المحافظ...؟
العجوز النوبي رد ما ون ش:
ـ أن هو مهافظ دا؟ اللي جائد جنب ك دا، بأت له سبأ شكاوي بإلم الوسول، و لما زهجت رهت له بنفسي بالشكوى بتاأ الست الأرمل في إيدي، و يومها دربني بالشلوت و تردني من مكتبه.
اتطلعت للعجوز النوبي في اللحظة دي لقيته عون، راسه وسط النجوم. أما سيادة اللوا المحافظ فطلَّع منديل ابيض شاهي و نزل ينشف عرقه. و الظاهر عرقه طلع على هيئة خيط واحد و الخيط كر. "الكرارية" نفسها قامت اتلاشت.

انضميت للوفد في الطريق للقصر المنيف ـ يعني إيه بالتحديد منيف؟ ما اعرف ش ـ اللي بيسمُّوه "استراحة الريِّس". و دي كانت أول مرة في حياتي أركب في زفة رسمي بالشكل دا.

على بعد 300 متر بالتقريب القصر المنيف طلع يستقبلنا: سلهوب بارد من رياض الجنة وسط راكية نار "أسوان". قدام باب القصر اتطلَّعت لابن عمتي، لقيته راح راشق عينيه في عيني و هو رافع حاجبه اليمين ـ المرة دي ـ لفوق. و ناسيه هناك.

و قعد كل ما اتطلع له ألقى حاجبه اليمين دا للساه مطرح ما سابه.
الترابيزة ملوكي: عليها طبقان عارف أساميها و طبقان تانية مااني ش عارف لها أسامي. و طبيعي أهم ما خطف عيني كان الديوك الرومي، اللي كانت أزيد، بالراحة، من عدد القاعدين.

و طبيعي الوفد قدام ديك الترابيزة العمرانة ينسى الوجود و يدخل في حالة ما تفرق ش كتير عن "الوجد" عند أقطاب الصوفيين يعني باختصار يغطس ما يقب ش في اللي قدام منه، إلاَّ الحر الفقير، نجف السقف شدني زي سجاد الأرض، زي اللوح ع الحيطان. و قبل كل دا الحرس اللي كانو واقفين علينا: لعاب سايل و ريق ناشف. و طبيعي استغل "مجهوليتي" من جانب أعضاء الوفد ـ و المجهولية في الوفود الرسمي مخيفة ـ لأعلى درجة. و طبيعي أكتر سيادة البكباشي(=العقيد) اللي كان واقف حرس بالقُرب مني يستجيب لهزة نحيفة من تلات صوابع بالعدد من إيدي لاجل يقعد ع الترابيزة. و لما قعد عرفت إنه طول الوقت اللي قضَّاه واقف حرس كان بيحفظ، في الطبقان، اللي ناوي عليها طبق طبق. و دا السر ـ الظاهر ـ ماخدوش منه غلوة!

مع طُبقان الحلو أعضاء الوفد بدو يرجعو للوجود. و بالتالي مديحهم في "الريِّس الحالي" للوفد بدا يرفرف فوق الرووس:
اللي قال:
ـ لولا د. شُقير الراجل النوبي العحوز دا كان كل الجو.
ـ فعل ن، دخل سيِّس الموضوع...
ـ يا أخي قول فلسف الموضوع...
ـ ربنا يزيدك من نعيمه، فعل ن دا اللي حصل بالحرف الواحد. و اتنحنح و بدا يقلِّد: (لقد جئنا من القاهرة إلى بلدكم الكريم كي نتناول قضايا كُبرى تهم الوطن، كل الوطن، في حاضره وفي مستقبله، لا لكي ننزل إلى درْس مشاكل صغيرة محدودة بل و لا أبالغ إذا قلت بالفم المليان: هامشية، إلى أقصى درجة فهي لا تهم سوى أصحابها الذين يُعدون على أصابع اليد الواحدة...اللاه اللاه اللاه عليك يا دكتور!!!(و هنا الإعجاب اتفجَّر على هيئة دُحكة مُشتركة، النجف في السقف لمع معاها أكتر م الأول)

ـ بس ما تنساش أهم كلمة الدكتور قالها كانت...
ـ كانت إيه؟
ـ اسحبو المكرفون منه! كدا و لاَّ لأ؟
ـ و لا زاد و لا غطى إلاَّ الواد الرفيَّع، عضو لجنة العشرين اللي جا يكحلها عماها، قال إيه؟ ريس لجنة العشرين ما خد ش أرض الأرملة، لاكن زحزح السكة الزراعية، اللي واخدة و نازلة على "مصر"، فالسكة الزراعية اضطرت ـ يا عيني ـ تتزحزح شوي يمين و بكدا تبقا هي اللي كلت أرض الست الإيه؟
ـ إي ش عرفنا ـ أصل ن ـ إنها أرملة!
سيف إيد اترفع. بق انفتح:
ـ الفلاحين دايم ن كدابين!
و هنا "الريِّس الحالي" دخل في الحديت يعني إدا لنفسه الكلمة فرتِّل واحدة واحدة:
ـ ميزة الولد الرُّفيَّع دا هي إيه؟
الجميع شرنق و برنق يمة دكتورهته، و هو ساب الكلمات تسرسب حرف ورا حرف:
ـ طوِّل... في كلامه ... قام ... شغل... مساحة ... من الوقت،... لحد ... ما فكرنا ... إحنا ... في الرد ...اللي فحم النوبي ...العجوز... دا!

ابن عمتي ما حب ش يسيب ني، غير لما يكمِّل ـ في تصوُّره ـ على مقاومتي. خدني ع الدور التاني لاجل يورِّي ني "الاجنحة"، اللي ما اقدرت ش اوصف يوميها لا رخامها و لا أرضيتها و لا حيطانها و لا اطرزة سرايرها، و لا حيطانها و لا لوح حيطانها و لا حتى اقدر ألاقي لها وصوف دا الوقت، بعد ما لفِّيت عواصم الدنيا و ريسات جمهوريات عزموني في "اجنحة" برده.

حرب الاستنزاف:

آخر مهندس ألماني في شركة "زوبلين" ساب مطار "أسوان" على متن آخر طيارة قامت من مطار "أسوان". و كان مزقطط زي ما يكون واكل لقمة زيادة.

تاني يوم الصبح عرفنا إن الكوبري" اللي الألمان سلِّموه لمصر امبارح انضرب. و دا الأمر اللي ضربنا بالزهول. و قتها استغربنا للسرعة في تنفيذ الاسرائييلين للعملية. بس اللي اتضح لنا بعد شوي إن السرعة، موش هي و بس اللي تستدعي مننا كل زهول. أمال إيه؟

مهندس انشاءات مصري حكى و هو مزهول:

الكوبري كان متصمم بشكل خصوصي يحصَّنه ضد الضرب من فوق...
ـ أمال اتضرب إزاي؟
ـ اتفجر من تحت،
ـ إزاي؟
ـ قنبلة تترمي في أي مطرح على وش النيل. تيار الماية يعمل إيه؟ غير يشيل القنبلة معاه. بس القنبلة دي متصممة بحيث تنفجر بمجرَّد شعاع الضي الساقط عليها ما ينقطع. و بطبيعة الحال الشعاع دا موش ح يقطعه غير الكوبري ذات نفسه.
ـ يعني ما في ش طيران ضرب؟
المهندس المصري هز دقنه.

انفصال سوريا:

عُقب الانفصال و في الخطاب اللي "البكباشي الملهوم" قاله من منصته في صحن جامعة "فؤاد الأول" (=الكاهرا) سيادته جعر:
/...أمرت بتحريك الطيران المصري لاجل يروح يضرب الانفصاليين في دمشق و الأسطول المصري يروح يضرب ميناء "اللازقية" لاجل يرجعو الوحدة اللي الأجيال .../
و هنا الهتاف انفجر:
ـ إضرب إضرب يا جمال!

"البكباشي الملهوم" كمِّل:

/و مع ذالك إديت أوامري للطيران و هو على بُعد دقايق م المجال الجوي السوري يرجع و الأسطول المصري يديِّر دفته يرجع حقن ن للدماء العربية!/

و هنا الهتاف اتفجَّر:
ـ إحقن إحقن يا جمال!

حنة حمـــــاد:

سألني:
ـ أمه اسمها إيه؟
ـ "فهيمة"...
ـ لا دا اسم مرات أبوه.
ـ أمال إسم أمه؟
ـ "حنة حماد"... و لما أبوه طلَّقها راحت "كوم بكير" اشتغلت برخصة هناك. و هناك المسكينة ماتت م السل اللي عقّر في سدرها لسوء التغذية و التهوية. و دا سر الكره اللي كان مالي سدره، موش ضد ابوه لوحده. و طبيعي الكره يتنهي بقسوة .

اللوا ح. "حافظ":

اتقابلنا في بيت "مُحسن لطفي السيد". و يومها قعد يتفاخر بتاريخه الخصوصي كظابط مباحث اتلقى تدريبه و ي تسدقوه ي تكدبوه ـ على إيدين ظبُّاط السي. آي. إيه ذات نفسهم.
تابعنا مناقشتنا حولين ما-قبل- الانقلاب العسكري بتاع يوليو/أبيب. و سيادته قاعد صانت و لاَّ لأ، ما حدش عارف، بس عمَّال يبحلق في وشوش اللي بيتكلمو، زي ما يكون رسَّام ح يرسم هم بعد ما يمشو.
و فجأة قال:
ـ /يكفي "الزعيم الخالد" إنه اكتشف عروبة مصر!/

عــــــــزا:

موش فاكر يوم 6 و لاَّ 7 و لاَّ ان كان 8 يونيو/بؤونة. كنا بنزور خط الضبعية-أرمنت في الضفة الغربي قبال الاقصر، صديقي "حجاج الباي" و انا. قاعدين قُرب الساقية و قدامنا غيطان القصب و على يمينا راديو ترانزستور، بنحاول نلقط أي أخبار عن الحرب.
شوي و الراديو يعني كافة إذاعة من إذاعات مصر اتضمت لبعضها و بدت تذيع قرءان على اولة من غير أي تفسير.
قاعدين مزهولين لقينا فلاح صعيدي فلت طلع م القصب شاط الراديو عليوي نزل حتت: حديد شاط بلاستيك و الفلاح الصعيدي قال:
ـ كيف ناخد العزا، و دم خواتنا للساه ما بردش ع الرمل!

مصنـــع الذل:

في أواخر الستينات دخت السبع دوخات، و فين لقيت ني في المقر المركزي للسجل المدني بتاع عموم البلاد، في "العباسية". ليه؟ بأدوَّر على اسمي. و في الآخر جابو الدفتر و بصو فيه و حققو و بعدين شالو رووسهم و زفُّولي الاكتشاف دا:
ـ الورقة اللي فيها اسم ك مقطوعة!

هنا انفجرت. و مافي ش و الموظفين اتلمو حوالين مني: اللي يفسَّر و اللي يشرح، و اللي يفلسف الموضوع برمته بترجيع كل الأمور، اللي حصلت لي و اللي ح تحصل لي، للقضاء و القدر.

و من ضمن اللي حضرو، رئيس المقر.
و في مكتبه سألني:
ـ إنت رحت الجيش؟
و شرح:
ـ يعني قضِّيت الخدمة العسكرية؟
مافهمت ش صلة السؤال باللي احنا فيه، بس رديت:
ـ لأ.
ـ يعني اتعافيت؟
ـ نهائي.
الراجل هز دماغه. بسِّم. قال:
ـ أنا قلت كدا برده.
ـ قلت إيه سيادتك؟
ـ قلت الجدع دا، اللي للساه مليان بالروح دي يستحيل يكون خدم بحال م الأحوال في الجيش بتاعنا!

كمـــــام:

ظابط مهندس اسمه "حاجة التوني" جمعتني به قعدة ع الطاير حكي بصفته شاهد عيان:
"الريس" كان بيعشق صوت "أم كلثوم". و في ليلة من ليالي "الخميس" و في نادي الظباط في الزمالك في سنة 63 ي 64. كانت حفلة "أم كلثوم". و الريِّس" كان حاضر، هو و أعضاء مجلس قيادة "الثورة" و وراهم الظباط العاديين ـ من أمثالنا ـ. و في الحفلة دي "اسماعين ياسين" كان بيطلع بين كل وصلة و وصلة يقول كذا كام نكتة.
وصلة خلصت. "سمعة" طلع ع المرسح. بدا قال:
طالب في الكلية الحربية(=الدفاع) اشترى حتة قماشة صوف، و ودَّاها للترزي ع شان يفصَّلها بدلة ملكي. قام الترزي فصَّل البدلة بس عمل لها اكمام طويلة، كل كم فيه تلات اربع-ت-اشبار بالراحة طول.
الطالب استغرب استفهم:
ـ ليه طوِّلت الاكمام بالشكل دا؟
الترزي رد:
ـ بكرا ح تظبط يا بيه!
الطالب رجع استفهم:
ـ دا امتى انشاء اللاه؟
الترزي جاوب:
ـ لما تتخرَّج ـ بالسلامة ـ و يطلَّعوك م الجيش، يمسكوك شركة و لاَّ مؤسسة، إيديك ح تتطول منها لوحدها يا سعادة البيه!
كلنا بالتقريب دحكنا للنكتة، إلاَّ "عبد الناصر" وشه غيِّم.
و اللي حصل و كان. صادرو كل اللي "اسماعين ياسين" يملكه بالقشاية. و أمر بوقف إذاعة كافة أفلامه و مسلسلاته و منولوجاته...باختصار "دفنه" ع الحيا.
ايامها الفنان المصري الكبير اضطر يسافر يلقَّط عيشه على مسارح "بيروت". و تنه على دا الحال لحد ما مات تاني و دي كانت آخر موتة!
***


المصريين و فاشيتهم (نماذج):

(سيطرة "الليثي عبد الناصر" أخو "البكباشي الملهوم" على اسكندرية)

واحد ابن بلد سأل اللي قاعد جنبه ع القهوة:
ـ تفتكر مين اللي حاكم "واشنطون"؟
قام صاحبنا رد:
ـ "ليندون جونسون" طبع ن.
إبن البلد هز دماغه. استفهم:
ـ اللاه! و مين اللي حاكم نيويورك؟
صاحبنا عصر قورته. إتطلع لـ "إبن البلد"و بعد شوي قال:
ـ و اللاهي موش عارف بس الظاهر "الليثي جونسون"!

تحالف:

مرات "البكباشي الملهوم" سمعت حديث ديني لشيخ الجامع الازهر عن "البتاع" الشرعي. و في الحديث نيافته فتى بإنه "قبضتان حتى تظهر الرأس".
تعمل إيه؟ جريت على جوزها، و هي بتبكي و تشكي. و بلَّغته باللي عرفته تو. "البكباشي الملهوم" قال لها:
ـ مين اللي فتى الفتوى دي؟
ردت ما اتأخرت:
ـ شيخ الجامع الازهر!
ـ ذات نفسه؟
ـ ذات نفسه.
"البكباشي الملهوم" داس على زرار تحت رجله. زعق:
ـ هاتو لي "شيخ الازهر" حال ن بال ن!
ع بال "الشيخ" ما جا على ملا وشه سيادته كان نزِّل البنطالون. دخل نيافته. "البكباشي الملهوم" سأله:
ـ إنت اللي فتيت الفتوى إياها دي؟
ـ دي موجودة في مُحكم ...
"البكباشي الملهوم" قاطعه. قام وقف:
ـ طيِّب قرَّب قيس!
"شيخ الجامع الازهر" بسمل حوقل. قرَّب و بيقيس ما زادش عن قبضة واحدة و كام سنتي.
"البكباشي الملهوم" استعجله:
ـ طلع إيه؟ شرعي و لاَّ موش شرعي؟
مرات "البكباشي الملهوم" اتدخلِّت دوغري:
ـ ح يطلع شرعي إزاي بقا و هو أهه ما وصل ش قبضة و نص؟
"شيخ الجامع الازهر" إتبسِّم. هز دماغه بهدو بال. قال:
ـ و للعسكريين النصف!

تنكـــيت:

{في خطبة من خطبه بعد الهزيمة المُرة، اللي سموها له "نكسة" 6 يونيو/بؤونة 1967، و بعد النظام بتاعه ما استرد عافيته وقف لكو "البكباشي الملهوم" و شخط:
ـ{ أظن الأوان آن نبطَّل ننكِّت بقا ع "الثورة"!}
هو قالها من هنا و رجالته جريو من هنا يدوَّرو على ابن الذين اللي عمَّال يعمل النكت الحرِّيفة دي كلها. دوَّرو في سلقط دوَّرو في ملقط، و فين هب لقو واحد "ابن بلد" قاعد في غّرزة في زقاق ديَّق، عمال يشد م الجوزة، و يرْقع النكتة في ديل اختها ع "الثورة". هب انحدفو عليه و قبل ما يحطو الحديد في ايديه سألوه:
ـ إزاي يا راجل انت عمَّال تعمل النكت دي كلها ع "الثورة" و "زعيم الثورة"، إنت ما انت ش عارف إن "الثورة" دي و زعيمها هم اللي حررو مصر م الفساد و الرشوة و المحسوبية، و لاَّ ما انت ش فاهم إن "الثورة" دي بزعامة زعيمها هي اللي رفعت راس مصر و المصريين بين الأمم، و لاَّ ما انت ش دريان إن "الثورة" دي هي و زعيمها اللي رفعو الظلم و الطغيان بتاع "العهد البايد".
كل دا و "ابن البلد" قاعد ساكت و يادوب بيهز دماغه لحد ما جابو آخر ما عندهم. وهنا راح شايل بوصة الجوزة من بين اسنانه بعيد و قال:
ـ شوفو بقا أنا قلت كل النكت و ادي ني باعترف، إلاَّ النكتة دي!

التألـــه:

طلعو لكو الزعما و الريسا و الملوك يقابلو ربنا. و سي "جبريل" قعد يدخَّلهم على جلالته واحد واحد. أول واحد كان "ليندون جونسون". فربنا قام وقف له و سلِّم عليه و سأله:
ـ إزي ك يا "ليندون" و ازي الشعب الأمريكاني، أنا باسط كو و فاتحها في وشِّكو أربعة و عشرين قيراط، و لو انكو موش عاجبني ماية الماية، و ساعات ألاقي واحد منكو قاعد يتَّريق ع الكتب المتقدسة بتاعتي. لاكن على أي حال مع السلامة، خلينا نسمع صوتك.
و رجع جل جلاله قعد في العرش بتاعه.
تاني واحد كان "خروشوف". جل جلاله قام له واقف سلِّم عليه. سأله:
ـ إزي ك يا "نيكيتا" يا ابني، و إزي الشعب بتاع ك، اللي اسمه تقيل دا...
ـ السوفييتي
ـ أيوا حاجة زي كدا. أنا معدلها لكو تمام التمام و لو اني زعلان منكو جامد، إيه بقا حكاية إن أنا ما ني ش موجود دي؟
ـ العلم..
ربنا قاطعه:
ـ و لا علم و لا ما علم ش، إفرض الشعب بتاعك سدَّق الحكاية دي، ح أفيَّص و لاَّ موش ح أفيَّص؟
ـ ح تفيَّصّ
ـ و لما أفيَّص مين يرزق كو بعدي؟
"خروشوف" رفع إيده. حب يدافع. ربنا قاطعه:
ـ مع السلامة يا "خروشوف" بس إبقا خلينا ع البال!
و رجع لكو ربنا قعد مطرح ما كان في العرش بتاعه.
و قعدو لكو الريسا و الملوك و خلافه يدخلو واحد واحد لحد الدور ما جا ع "البكباشي الملهوم" دخل على جل جلاله، قام جل جلاله مد إيديه مسك مساند العرش و زغر له شوي من فوق كتفه، و هو ضارب بوز، و بعدين ديَّر وشه بعيد، و تنه قاعد مطرح ما هو قاعد.
ـ "البكباشي الملهوم"استغرب. سأل:
ـ جرى إيه يا رب؟ قمت يعني لكل الريسا و الزعما و الملوك سلِّم ت عليهم بالواحد، و أنا بالذات...
ربنا قاطعه قال:
ـ إي ي ي!(صوت أنفي طويل معناه في "اللمح": محسوب ك فاقس الفولة) إنت عايزني أقوم أقف تنط تقعد مطرحي!

كبت:

كلب مصري طالع يقزَّح يم الحدود الليبية، الكلاب الليبية قابلوه قالو له:
ـ أما البعيد بهيم صحيح، حد يسيب الوادي الاخضر، اللي كله خيرات، و ييجي هنا في الصحرا، لا لقمة و لا حتى شُربة ماي؟
الكلب المصري رد قال:
ـ أنا موش جاي ادوَّر لا على لُقمة و لا شربة ماي...
ـ أمال؟
ـ أنا جاي أهوهو مرة من نفسي و ارجع!

"هزيمة 67

واحد "ابن بلد" سأل اللي قاعدين حولين منه:
ـ حرب 67ما كمِّلت ش ست ساعات، تعرفو لو كمِّلت سبع ساعات، كان حصل إيه؟
استفهمو:
ـ كان حصل إيه؟
قال:
ـ الجيش بتاعنا كان احتل ليبيا!

نفس الجدع "ابن البلد" وقَّف زميل له:
ـ نسيت أعرَّف ك بسيادة اللوا!
"ابن البلد" التاني ما كان ش عنده وقت. سأل:
ـ قول لي باختصار: سرعة سيادته كام؟

نفس الجدع هو هواه بص للي حولين منه استفهم:
ـ عارفين ش الاسم الجديد بتاع شارع "الجيش" في العباسية؟
قالو له:
ـ إيه؟
رد:
ـ بقا شارع "السبق"(الجيش سابق ن)!

جـــــوزة:

الفساد بتاع "المشير الملهوم" كان شاع على كل لسان، بس كُتيمي، بق لودن، وخصوصي حفلات التحشيش اللي سيادته كان بينصبها ليلاتي. فلما "حرب الست ساعات" حصلت و كل أوامر العسكروت الحاكم استعداد للحرب وي اسرائيل كانت: إدهنو إزاز الشبابيك أزرق تمويه ـ قال ـ ع اليهود، و إلاّ فالغرامة و البهدلة، فطلعت النُكتة دي:
واحد ابن بلد، صادفت و قابل "المشير، قام سأله عملت إيه يا "مشير" إستعداد للحرب. "المشير" رد:
ـ دهنت الجوزة أزرق!

شــــــرف:

واحد عربي وصل المطار(المصري مافي ش كلام). المعرَّصين انحدفو عليه. أول واحد قال"
ـ أما أنا عندي حتة دين نتفة نتاية، مرات واحد موظف بس تعوز خمسة جني.
التاني زقه. إتلايم على ودن العربي قال:
ـ أنا بقا عندي مراة سُقع، مرات واحد مدير عام، بس تحتاج عشرة جني.
التالت راح لاكشه بكوعه و دخل ع العربي. قال:
ـ أنا اللي عندي طلب البيه: واحدة مرات واحد وزير بس إيه؟ مُزة، دي ممكن اتفاهم وياها على خمس –ت-اشر جني.
واحد رابع فرق المعرصين دخل ع العربي. و ما استناش قال:
ـ أنا بقا عندي واحدة تحل من ع المشنقة، مرات واحد رئيس وزارة...
العربي زهل زعق:
ـ إيه دا، مافي ش واحدة شريفة في مصر دي بحالها؟
المعرصين دقونهم وقعت على سدورهم. و تنهم على دا الحال، ما حدش يعرف أد إيه، و فين واحد منهم شال راسه لفوق و هو باصص ع العربي و قال:
ـ فيه يا بيه واحدة، بس دي ح تطلب 25 جني!

خيرات اليمـــن:

{الجيش المصري انسحب م اليمن عُقب هزيمة 67 و المحاكمة اللي الملك فيصل آل سعود عملها لـ "البكباشي الملهوم" في مؤتمر الخرطوم اللي انقعد في ِخنَّار الهزيمة و المشهور بلآته التلاتة}
واحد شحات فايت على "البكباشي الملهوم" اتطلَّع عليه جامد و بعدين قال:
ـ إدي ني حاجة م اللي ربنا اداهو لك من خيرات اليمن.
"البكباشي الملهوم" راح متمطَّع و مناوله...بعبوص!

حرب الاستنزاف:

عسكري إسرائيلي اتعوِّد كل يوم يصحا الصبح بدري يقف ع الضفة الشرقي لقناة السويس و ينده:
ـ يا محمدين!
العسكري المصري يرد:
ـ نعم!
العسكري الإسرائيلي يقول له:
ـ كـ...أمك.
تاني يوم شرحه و تالت يوم و رابع يوم، لحد العسكري المصري ما فاض به. صمم في يوم يصحا بدري و يروح يقف ع الضفة الغربي و يعمل فيه نفس المغرز. وقف نده:
ـ يا كوهين!
كوهين الإسرائيلي رد:
ـ مين اللي بينده.
محمدين قال:
ـ أنا محمدين.
العسكري الإسرائيلي راح قايل له:
ـ ك...أمك!

الأسعـــار:

{زكريا محي الدين مسك رئيس وزارة في سنة 1965، دا لو الذاكرة ما خانت ني ش. و ساعة ما قعد في الكرسي أمر بزيادة الأسعار}
واحد "ابن بلد" سأل اللي حولين منه:
ـ ما دري توش؟
استفهمو:
ـ بإيه؟
ـ الصاغ الملهوم ...
ـ أن هو فيهم؟
ـ زكريا.
ـ ماله؟
ـ فاز ببطولة العالم.
ـ في إيه؟
ـ في رفع الأسعار!

خـــراب مصر:

واحد "ابن بلد" فاض به، يعمل إيه من غير حد ما يمسك عليه حاجة. مشي في الشوارع، و كل عشرة خمس-ت- اشر خطوة يقف و يرفع إيديه للسما و يدعي:
ـ يارب يا إلاهي و انت جاهي تخرب بيت اللي خرب مصر!
مافي ش شارعين اتنين و انقض عليه شاويش مسكه من خناقه خده ع القسم,
في القسم سألو الشاويش:
ـ إنت مسك ت الراجل دا ليه؟
الشاويش رد:
ـ لقيته ماشي في الشوارع و كل شوي يقف و يتطلَّع للسما و يدعي على "جمال عبد الناصر!

أهــــون:

واحد متهوم قاعد قدام شاويش بيعمل له محضر. الشاويش سأل:
ـ اسمك؟
"ابن البلد" رد:
ـ محمد أحمد اسماعين.
الشاويش شال القلم عن الورق. استفهم و حواجبه طايرة في الهوا:
ـ تبقا انت بقا أخو "ليلى"!
"ابن البلد" سأل:
ـ "ليلى" مين يا افندم؟
الشاويش فتح سدره. قال:
ـ أللاه! "ليلى" اللبوة، اللي العيال كانو بيقفو على ك...ها طوابير، و كل من هو يدخل يرقع خمسة ستة خيط واحد و يدي الدور للي وراه!
الجدع "المتهوم" اتجنن قام وقف قعد يُعصر في نفسه:
ـ "ليلى" مين دي يا افندم، أنا ما اعرف ش حد بالاسم دا، و لا لي ش أي دعوة بالكلام اللي انت قلته دا...
الشاويش هدَّاه:
ـ خلاص بسيطة، دا سؤال و السؤال ما حُرم ش.
الشاويش كمِّل المحضر. و حوِّله وي المتهوم للنيابة.
و قدام و كيل النيابة المتهوم قعد مربَّع إيديه. وكيل النيابة بص في الورق سأل:
ـ اسم ك؟
ـ محمد أحمد اسماعين.
وكيل النيابة سمع الاسم من هنا و راح مبرنق. استفهم:
ـ تبقا انت على كدا أخو "ليلى" بقا؟
ـ "ليلى" مين دي يا افندم؟
ـ ح نلعب على بعض، "ليلى أحمد اسماعين" اللبوة، اللي عيال الحارة و تاني حارة و الحتة كلها، كانو يسيبو النعمة و يحلفو بالحسنة اللي طالعة لها في وركها فوق ريح الفتحة...
"المتهوم" انشال و انهبد:
ـ "أنا ما اعرف ش حد اسمه "ليلى" يا افندم، و مالي ش اخوات من أصله، لا صُبيان و لا بنات، "ليلى" إيه دي، مالي أنا و مال "ليلى" و موش ليلى"...
وكيل النيابة يعمل إيه هدَّاه:
ـ حصل خير، أنا ظنيت و الظن دي انت عارف.
وكيل النيابة قفِّل المحضر أربعة و عشرين قيراط. و حوِّله للمحكمة.
و في المحكمة، المتهوم وقف. والقاضي قعد يتصفَّح الورق. شويَّ و القاضي رفع عينيه عن اللي في إيديه و سأل:
ـ إنت اسم ك "محمد أحمد اسماعين"؟
ـ أيوا يا افندم.
القاضي مط بوزه. استفهم:
ـ يبقا انت على كدا أخو...
و صن.
المتهوم استعجله:
ـ أخو مين يا افندم؟
القاضي رده ما اتأخر ش:
ـ أخو "محمود أحمد اسماعين" اللي مسكوه ليلة امبارح في الغرزة إياها دي في الحارة السد اللي بالي بالك، عمَّال ينكِّت على فخامة الزعيم مُنقذ الوطن!
المتهوم المرة دي كان ح يقع من طوله بس مسك نفسه. قال:
ـ يا افندم أنا "محمد أحمد اسماعين" أخو "ليلى" اللبوة اللي العيال يا افندم كانو بيقفو على فتحتها طوابير!

13- احتياط:

"الزعيم الملهوم"، مرة أمر بالقبض ع الحمير. و هب نزلو يقفشو فيهم من أزغر حتحوت لحد أكبر حمار. شوي و لقو لكو بعرور(جمل زغيَّر) طالع يبرطع على آخر ما معاه، قامو جريو وراه يفطَّموه:
ـ دول بيقفشو حمير و انت...
ـ و اثبت إن محسوبكو جمل إزاي!

14- إلاه الكدب في مصر:

اكتشفو بُحيرة في سيبيريا، أي واحد يمشي فيها مايتها تدبه حسب درجة كدبه. الريسا و الزعما و الذي منه، راحو للبحيرة دي. فيهم اللي الماية دارت عراقيب قدمه. و فيه اللي الماية بتاع البُحيرة ضربته لغاية وسطه، و فيه اللي الماية وصلت لحد بزه.
لغاية الدور ما جا ع "البكباشي الملهوم" بصو لقوه ماشي على وش البحيرة بيتمخطر. الواقفين ذهلو، و قعدو يضربو كف على كف. و فين حققو جامد لقو إلاه الكدب في مصر العميل نمرة 39، غطسان باكتافه و ماشي و "البكباشي الملهوم" واقف على كتافه و هو ماشي به من بر لتاني بر في البحيرة.

15- تلاتة سكر نباتة:

واحد "ابن بلد" مات. بص لقا نفسه ماشي في الأخرة. إيه اللي حواه يشوف التلات زعما، اللي حكمو مصر راحو فين ما تعرف ش. يعمل إيه؟ راح على مكتب الاستعلامات. و هناك سأل؟
ـ ألاَّ الزعيم الأولاني فين؟
اللي في المكتب قالو له:
ـ الزعيم الأولاني الناحية دي تتنك ماشي ماشي ح تلاقيه على إيدك الشمال.
و دا اللي حصل و كان. تنه ماشي ماشي لقا الزبانية منفدين سيخ من ساسه لراسه و عمّالين يشوو فيه زي قمع الشاورمة.
"ابن البلد" انشكح فرك إيديه في بعض. و هو بيقول في عقل باله: شويَّ فيه جوَّعنا و صيَّعنا و ذلنا و كبت أنفاسنا.
شوي و رجع لـ "مكتب الاستعلامات" سأل:
ـ و الزعيم التاني؟
اللي في المكتب قالو له:
ـ الزعيم التاني الناحية دي، تتنك ماشي ماشي ح تلاقيه على إيدك اليمين.
و حصل. لقا الزبانية جابين قزان مليان زيت و تحت القزان راكية نار مهولة و الزيت عمال بيغلي و يطقطق من عزم النار اللي قايدينها تحته. و هم عمالين يقلبو في الزعيم التاني شوي على وشه و شويتين على بطنه، زي الفلافل.
"ابن البلد" زقطط. قعد يتنطط، الدنيا ماهي ش سايعة فرحته، و هو بيقول لنفسه: ما يستاهل ش غير كدا، رجّع "سينا" صحيح بس باع مصر ببلاش للأجانب هم و ديولهم.
ما طوِّل ش المرة دي رجع دوغري على "مكتب الاستعلامات" استفهم:
ـ و الزعيم التالت؟
اللي في المكتب قالو له:
ـ الزعيم التالت في الوش، تتنك ماشي ماشي ح تلقاه قدامك.
ما كدِّب ش خبر. تنه ماشي ماشي، و فعل ن لقاه، بس قاعد في جنينة، إشي فواكة من أندر الفواكة مدلدلة لغاية حنكه، و زهور م اللي ما سمع ش عنها إلاَّ في الكتب، و زيد على كدا "مارلين مونرو" قاعدة في حجره، و هو عمال هيه هيه يقبَّص و يقفش و يعصَّر.
"ابن البلد" عقله طار منه. قعد يشد في شعره، و هو بيجري على "مكتب الاستعلامات" و هناك انفجر:
ـ إي ش معنى دا مصيره غير مصير الزعما الاتنين الأولانيين و هو ما يقل ش عنهم في شيئ، و جايز أشنع منهم و أبشع و أجرم؟
اللي في "المكتب" ردو عليه قالو:
ـ انت أصل ك موش واخد بال ك؟
ـ موش واخد بالي من إيه؟
ـ إحنا دا الوقت بنعذب "مارلين مونرو"!

16- على صبــــري:

{أول ما عرفنا احنا الجمهور "علي صبري" لقيناه بيشتغل سكرتير لـ "البكباشي الملهوم". شوي و قعد يقفز في سلك العسكروت الحاكم لغاية ما بقا ريس وزارة و المشرف على تنفيذ أول خطة خمسية و بالتقريب الأخرانية، بعد فشلها اللي جلجل في كل مطرح. بس العسكروت الحاكم اتستر عليه. و بالغ فذاع أرقام متفبركة في المجال دا. و الخطة دي كانت قايمة على دور القطاع العام في بناء الاشتراكية في مصر: (مُجتمع الكفاية و العدل) بتعبير العهد المؤبد. و في إطار بنا الاشتراكية جريت في شوارع مصر عربيات فخيمة زي الرز مكتوب عليها ق.ع. و المراد من جانب العسكروت كان "قطاع عام" و دا القطاع اللي غرَّق البلاد في الرشاوي و المحسوبية و استغلال النفوذ}
فكانت النكتة دي:
واحد "ابن بلد" سأل اللي قاعد ريح منه:
ـ تعرف ق.ع. يعني إيه؟
ـ اللي قاعد في ريحه اتنبه. استفهم:
ـ إيه؟
ـ معناها: "قريب علي صبري"!

17- الجيش الاحمر:

{ في خطبة من خطب "البكباشي الملهوم" بعد الهزيمة المرة في حرب الست ساعات بكذا كام شهر.قال: /إحنا ما احناش عايزين "الجيش الاحمر" يحارب معنا/ . ورا الخطبة دي على طول طلعت النكتة اللي بتقول.}
واحد ابن بلد سأل اللي حولين منه:
ـ عارفين احنا ما احناش عايزين "الجيش الاحمر" يحارب معانا ليه؟
اللي حولين منه استفهمو:
ـ ليه"؟
رد:
ـ ع شان مافي ش "أحمر" من جيشنا!

18- سيــــــادة المشير:

في مطار عاصمة كبيرة زي موسكو سألوه:
ـ إسم ك؟
رد:
ـ عبد الحكيم عامر.
رجعو سألوه:
ـ بتشتغل إيه؟
رد بانفعال:
ـ باقول لكو أنا عبد الحكيم عامر.
استفهمو:
ـ أيوا، بس بتشتغل إيه؟
ـ هو إيه اللي باشتغل إيه دي؟
ـ أيوا يعني لو بتغني تغني لنا غنيوة، لو بترقص ترقص لنا رقصة، لو مُفكر تفكِّر لنا في فكرة...
رد قال:
ـ أنا ما باعرف ش أعمل أي حاجة من أي نوع.
ضربو قورتهم:
ـ أهل ن و سهل ن يا سيادة المُشير!


19-حـــــوَط:

عيِّل كدا ميِّل على جدع "ابن بلد" سأل:
ـ إيه رأي ك يا أخ في الريِّس عبد الناصر بتاعنا؟
"ابن البلد" صاحبنا كان رقم: لقط إن الواد دا مُخبر، خصوصي لما قرَّب "ساعة يد" من بقه. يعمل إيه صاحبنا "ابن البلد"؟
شال صباعه الوسطاني، سكت ن بُكم ن، و عمل به حركة م اللي ماهي موش هي، قدام مينا-ت-الساعة.
الواد المخبر رفع إيده مسك خناق "ابن البلد" و هو بيدحك، و بيقول:
ـ إيه رأي ك إن الساعة دي بالذات بتصوَّر!