روح .. مدونة مصرية ح تصدر قريِّب. اللغة الرئيسية بتاعتها هي "اللمح"يعني اللغة المصري الحديثة.."قول الحق و اتبع الحق، ع شان مافي ش فيه أقوى م الحق، إجبن الحق هو اللي بيجلب للحقاني التوقير"(الفلاح الفصيح.العصر الإهناسي. من عصور مصر (القديمة.

الجمعة، ١٧ أبريل ٢٠٠٩

حوار

حوار


يزعم الحر الفقير أنه يملك مشروعاً ثقافياً متكاملاً لنهضة مصر و المنطقة المحيطة التي عوَّدتنا على قبول كل الأسماء، و أي أسماء يُطلقها عليها الأجانب، و على وجه الخصوص الغربيون بدءاً من الشرق الأدنى إلى الشرق الأوسط الكبير و الأكبر و الجديد، مروراً بالعالم العربي ثم العالم الإسلامي. و لقد بدأت ملامح هذا المشروع في التشكل أمام عينيَّ في منطقة الإبداع. فنشرت صفحة يوم الأربعاء التي كان يُشرف عليها الراحل الجليل "عبد الفتاح الجمل" بجريدة "المساء" أول قصة لي في صيف سنة 1964،و كانت بعنوان "كف". و منذ ذلك الحين لم أتوقف عن كتابة القصة القصيرة، بل و نجحت في اختراق حصار الصمت حول أعمالي مراتٍ ليست قليلة، فنشرت قصصي في العديد من الصحف و الدوريات في مصر و المنطقة المحيطة. وأحدث قصة قصيرة لي نشرتها يوم 21يونيو/حزيران صحيفة "القاهرة" التي تتميَّز بمسحة أستطيع أن أقول عنها "ليبرالية" نوعاً ما و لو أن طابعها الرئيسي حكومي 2005 ....كما امتدت الرقعة الجغرافية التي نشرت فيها قصصي من "الكويت شرقاً حتى "الدار البيضاء" غرباً. فلقد نشرت لي نشرت لي مجلة "البيان" الكويتية الشهرية قصة بعنوان "سراب" في العدد 251 فبراير/شباط 1987 و نشرت لي مجلة "الوحدة" المراكشية الشهرية قصة بعنوان "لقاء" يونيو/حزيران 1988وفي سنة 1999نشرت مجموعة قصص قصيرة بعنوان "أمونة تخاوي الجان". و على هذا الأساس فإن القول بأنني ابتعدت عن الإبداع هو قول ظالم.حيث أنني لم أكف عن اللجوء إلى مملكة الإبداع. فالإبداع عندي ضرورة وجدانية ففي رحابه نستطيع أن نقاوم القبح، و ضرورة عقلية ففي ضوئه نتمكَّن من مقاومة الفوضى، بل و ضرورة بيولوجية، ففي ظله نقدر على الحفاظ على وجودنا الإنساني ذاته فلولا الإبداع لكنت قد سقطت ضحية من ضحايا الجنون منذ وقت طويل. و يعرف المقربون مني، أن الإبداع نحا معي نحو ارتداء أنواع أخرى كالمسرحية مثل "عصفور الجنة" التي استمر "المسرح القومي للأطفال" يعرضها لخمس سنوات و الأدق "مواسم، كما طافت محافظات مصر. و وقع اختيار هذا المسرح عليها لتمثيل مصر في المهرجان الدولي لمسرح الأطفال في سنة 1996 كما نحا الإبداع معي إلى أخذ شكل القصيدة التي نشرت نماذج منها في دوريات عديدة في مصر، و نشرت ديواناً باسم "كل شي ن كان" في سنة 1996. و في هذا الصدد أذكر أن مصرع "جون جرنج" رئيس "الحركة الشعبية لتحرير السودان" هزني حتى الأعماق و كان أن كتبت قصيدة طويلة باسم "عدودة لجون جرنج"، نفس الأمر بالنسبة لقصيدة "مرجعيون 2006" التي كتبتها من وحي صمود المقاومة اللبنانية في وجه العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان فهل رأت أي منهما النور حتى هذه اللحظة؟ بطبيعة الحال لا، لم يحدث. أما السؤال عن السبب فجوابه ليس عندي. لكنني نشطت، مع ذلك، في قراءتها للحلقة الضيقة من الشعراء الذين يعانون مثلي من الحصار. أما تقييم هذا المنجز فمتروك لغيري.
· نعم أنت محق عندما تقول أن مجموعة "ضم القمح ليلاً" كانت الطلقة الأولى التي خرجت من قلمي، على مستوى الإبداع ، في إتجاه التأسيس لـ "أدب مصري". فلقد أكملت المرحلة الثانوية في سنة 1960بامتياز مكنني من الحصول على مجانية التفوق في السنة الأولى بـ "جامعة القاهرة" ـ لم يكن النظام العسكري الحاكم قد مد وقتها مجانية التعليم التي قررتها حكومة وفدية منتخبة انتخاباً حراً ديمقراطياً بالمعايير الدولية، كي تشمل التعليم الجامعي إلا عقب انهيار الوحدة المصرية-السورية في سنة 1961ـ و جاء تفوقي بعد أن تجرَّعت النماذج التي قدمها لي التعليم العام للأدب و كانت دون استثناء على وجه التقريب، عسيرة الفهم، ركيكة الصياغة و ممجوجة الطعم، لا تبهج و لا تنور و لا تصنع مع متلقيها ما ينبغي لأي أدب من آداب الأمم التي عرفنا آدابها في أوقات لاحقة أن يصنعه. فلقد درسنا للشاعر "أمرؤ القيس"، على سبيل المثال، و أرغمنا مدرسو اللغة العربية بما كان يُسمى في ذلك الوقت "الزُّخمة" على حفظ الأبيات الأولى من معلقته الشهيرة عن ظهر قلب:
مكرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معاً
كجلمود صخر حطه السيل من عل...الخ
في حين أن القصيدة نفسها، و لم تكن "المعلقات" تحفل بالوحدة العضوية، تضم أبياتٍ أكثر شاعرية و أكثر رهافة كالأبيات التي تبدأ بـ:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل،
و إن كنت قد أزمعت صرمي
فأجملي أغرك مني أن حبك قاتلي
و أنك مهما تأمري القلب يفعلِ
و أنك قسمت الفؤاد فنصفه
قتيل و نصف بالحديد مكبل
و ما طرفت عيناك إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلبٍ مقتَّلِ
و إن تك قد ساءتك مني خليقة
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل.
و المذهل و غير المعقول و غير المبرر معاً أن يتجاوز الإختيار أيضاً عن هذه القصيدة التي تذهب التقاليد إلى أنها كانت آخر ما كتب شاعرنا:
أجارتنا إن الخطوب تنوب
و إني مقيم ما أقام "عسيبُ"
أجارتنا إنا غريبان هاهنا
و الغريب للغريب نسيبُ
فإن تصلينا فالقرابة بيننا
و إن تصرمينا فالغريب غريب.
أجارتنا ما فات ليس يؤوب
و كل ما هو آتٍ في الزمان قريب
و ليس الغريب من تناءت دياره
و لكن من وراه التراب غريب.
حقاً لست أول من يشير إلى هذا التجاوز عن الشعر العربي الأرقى إلى ذلك الإختيار الفاسد، فكم من تربوي و كم من شاعر أشار، قبلي، إلى نفس الموضوع و لكنني أظن أنني أول من يطرح هذا السؤال الآن: أكان ذلك الإختيار مقصوداً، لا ينفع معه نصح تربوي طيب أو شاعر غيور، في ضوء سعي الحكم العسكري في مصر إلى تحييد دور الفن، بصفة عامة في المجتمع أم جاء صدفة لضعف الذائقة الفنية مثلاً عند التربويين المصريين؟
في سائر الأحوال أكملت تعليمي الثانوي كي أجد نفسي فاقداً لكل ثقة في قدراتي و امكانياتي، بل و "كافراً" بالأدب ذاته. أما في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، فلقد سلمنا، في ظل المناهج الدراسية، بأن الحضارة انبثقت مرة واحدة، عند "الأثينيين" على نحو ما قفزت "أفروديت" إلهة الحب و الجمال في أساطير اليونان من رغوة البحر، دون روافد ترفد تلك الحضارة أو أي أُسسٍ تكون قد استعارتها من الخارج كي تبني عليها. و على هذا النحو وجدتني "كافراً" مرة بذاتي الفردية و القومية معاً و "مؤمناً" مرة بالعبقرية اليونانية الفذة، و قل الأوروبية التي تستند إلى الحضارة اليونانية-الرومانية، و أود هنا أن أسوق مثالاً واحداً لضيق المساحة المتاحة: عندما قرأت عند "شكسبير" وصفه لـ "الموت" بأنه "ذلك السفر الذي لم يرجع منه أحد"، وجدتني ساجداً أمام عبقرية الشاعر الإنجليزي العظيم، و قرب التخرج قرأت نفس المعني في أحد أسفار "التوراة"، فوجدت رصيد الإعجاب ينتقل بصورة تلقائية إلى العبرانيين. و لكنني عندما عرفت أن هذا المعني الذي يشكِّل رداً ناعماً و ساحقاً على الديانة "الأتونية" و مشتقاتها التي انتقلت إلى أقوام غرب آسيا، و خصوصاً الساميين منهم سواء عن طريق مباشر، كما يقول علماء بينهم جيمس هنري بريستيد" أو عن طريق طرف ثالث كما يقول عالم المصريات "دونالد ريدفورد"، ورد في نص شعري مصري قديم، أي قبل ظهور العبرانيين بألفي سنة على الأقل ـ و دع عنك الإنجليز الذين لم يتشكلوا في "أمة" إلا مع انحناءة القرن الثالث عشر لإفساح المجال أمام القرن الرابع عشر "م.ع.م." ـ أدركت كم هو حجم الإساءة التي ألحقها التعليم العسكري، برأسي و وجداني معاً. و لعلني أذكر بأسى مرير أننا درجنا خلال دراستنا الجامعية على التعبير عن استنكارنا لعدم استعياب مخاطبنا لما نقول على هذا النحو: Am I talking Hieroglyphics هو أنا باتكلم هيروغليفي؟
في سائر الأحوال تخرجت من جامعة الكاهرا" التي يكتبونها بخطأ جهول تسنده حواديت/خراريف هزيلة: "القاهرة"، "كافراً" بهويتي المصرية الأصلية. و شكل هذا "الكفر" بالنسبة لي قلقًا لا يزال يلح منذ وقت طويلٍ على رأسي، و لم يفارقني حتى هذه اللحظة، و بالتحديد لم تفارقني الأسئلة التي ولَّدها داخلي سؤالاً إثر سؤال. و جواباً على سؤالك أقول: نعم لا أزال أعتقد في ضرورة التأسيس لـ "أدب مصري"، بمعنى ناطق بما أسميه "اللغة المصرية الحديثة" أو "اللمح"، و مستلهمٍ للثقافة المصرية التي تضرب في أعماق التاريخ لخمسة آلاف سنة من التاريخ المدون و دع عنك التاريخ غير المدون، و هو الأمر الذي لا أزال أواصل الدعوة إليه و العمل وفقاً له، أي الكتابة بلغتي الأم "اللمح" إستلهاماً لتراثي المصري بالدرجة الأولى ثم التراثات الإنسانية بصفة عامة، و منها التراث العربي بطبيعة الحال.
* نأت الآن إلى مشروعي الثقافي، و هو المشروع الذي بذلت كل ما أستطيع في سبيل طرحه بكل وسيلة ممكنة و في كل ساحة متاحة و في كل وقت مناسب. و بكل لغة ألم بها بما في ذلك اللغة العربية "الفصحى". حقاً حاز قدراً من الاهتمام، و لكنه ليس القدر الذي يستحقه في رأيي. و يرتكز هذا المشروع بادئ ذي بدء على رصد المعطيات و فحص المعلومات و "تسهيم" (=فك إتجاه) التيارات، التي يوفرها الواقع الروحي و المادي ، بصورة موضوعية مجردة من العاطفة و منزهة عن الهوى، بهدف رؤية هذا الواقع، ليس في لحظته الراهنة أو الساكنة و حسب، بل و في حركته، أي رؤية ما هو قائم و في نفس الوقت رؤية ما سيكون عليه، في ظل ثبات/تغير الظروف المحيطة، فالحقيقي ـ هكذا يخبرنا بعض الفلاسفة ـ هو ما سيكون. والمراد هنا، بصورة ضمنية ليس ما هو قائم، فوجوده ليس سوى بعض الوهم. و هذه خطوة أولى و ضرورية لطرح أي اقتراح معقول أو مشروع مقبول للتغيير، و بعبارة أخرى إعتماد المنهج الوصفي descriptive ، دون المنهج الوعظيprescriptive الذي لا يثمر لا رطب و لا صيص، و لا تزيد قيمته كثيراً عن هواء ساخن، و مع ذلك لا يمل و لا يكل جميع "الفلاسفة" في مصر و المنطقة المحيطة من ترديده، كما كان يفعل السحرة في الأزمنة القديمة: ينبغي أن يتحد العرب/ يجب أن يحذو العالم العربي حذو أوروبا/آه و ألف آه لو تجمَّعت الدول العربية إلخ. و لم يطرأ مثل هذا السؤال على أذهانهم: لماذا لم يتحد من يُسمَّون أنفسهم "عرباً" حتى الآن، مع مرور ما يزيد على أكثر من قرن من الزمن، على الدعوة إلى "القومية العربية" تلك التي بدأها "الشوام المسيحيون"؟
و لقد نظرت فرصدت أن في مصر ثقافتين بصفة رئيسية، إحداهما قومية أي مصرية-أفريقية، و الأخرى أسيوية-غربية و الأدق سامية-عربية. تقوم الثقافة الأولي على بنية زراعية بالدرجة الأولى و بالتالي الإستقرار و الثقافة الأخرى تستند، بصورة رئيسية على الرعي، و بالتالي الترحال. ثقافة تسيِّد قيمة العمل و الإنتاج و الدقة و السرعة و الإتقان و العطاء و بالتالي ازدهرت في ظلها العلوم من رياضيات و كيمياء و تدوين و الفنون من النحت إلى التصوير و نعرف أو ينبغي علينا، أن مصر ساهمت في ركب الحضارة الإنسانية المعاصرة مساهماتٍ تعجز المساحة المتاحة عن تعدادها من النظام العشري في الرياضيات إلى الكيمياء (و إسم "كيميا" نفسه جاء نسبة إلى "كيميت" التي أصبحت "كيمي" بفعل عوامل التحات اللغوية التي طالت في هذه الحالة بالتحديد حرف "التاء" الأخير. و الإسم هو أحد الأسماء التي أطلقها جدودنا المصريون على بلادهم) إلى الأبجدية. أما الفنون فحدث دون ملل بدءاً من كسر قواعد المنظور في التصوير. و لقد استمرت مصر ترسل إشعاعاتها الحضارية شمالاً إلى السواحل الشرقية للبحر المتوسطLevant و جنوباً إلى أعماق أفريقيا منذ آلاف السنين و حتى اليوم. و أستند في ذلك، ليس إلى محض شوفينيتي ـ كما يرميني البعض ـ و لكن إلى علماء أجانب و أجلاء. يقول "إف.جريفيث" العالم البريطاني الذائع الصيت في كتابه "نصوص نوبية من الفتـرة المسيحية"
Texts of the Christian period,Oxford,1913) The Nubian) في إشارته إلى خمس كلمات استعارتها اللغة النوبية من اللغة المصرية في مرحلتها القبطية و ما قبل القبطية: "هذه الكلمات، هي، بالتحديد، ما كان لأمة شبه بدائية، أن تستعيره عندما تتصل بحضارة أرقى، تعرف أي هذه الحضارة مثل هذه الكلمات في مجال التدوين(الكتابة) و المقاييس و الموازين و تقسيم الزمن إلى وحدات متماثلة و المصطلحات القانونية و الخدمة المنزلية". و يقرر "دونالد ريدفورد" العالم الكندي الشهير في كتابه "أخناتون: الفرعون المارق" Akhenaten,the heretic King ص 213 في إشارته إلى عائلة "عبدي-عشيرتا" التي استمرت على قوتها في "أمورو" في أعماق سوريا في القرن الرابع عشر ق.ع.م.:
"حقاً لا نعرف سوى أقل القليل عن أصول هذه العائلة، إلاَّ أن المرجح أنها تنتمي إلى عشيرة من السكان الأصليين الذين يقيمون في منطقة قصية لم تلمس تخومها الحضارة المصرية". و أرجو ألاَّ يرمي أحد من "العروبيين" الأشاوس أياً من العالمين الأجنبيين، بالشوفينية أي التعصب لصالح الحضارة المصرية لرصدهما تلك الحقيقة الناصعة نصوع الشموس: مصر هي إحدى أعظم إن لم نقل أعظم حقيقة سطعت في العالم القديم، بل و ظلت إشعاعاتها ساطعة حتى اليوم مع تدهورها على كافة المستويات خلال نصف القرن الماضي أي منذ سلَّمت الحركة الوطنية المصرية "البائسة" مصر إلى قبضة العسكروت، فيما عدا مستوى واحد، لا يزال يقاوم التدهور هو الآخر، أي المستوى الثقافي الذي يتبدى أكثر ما يتبدى في لغتها "اللمح" التي تعد في تصوري الخاص أنفس ما يملكه المصريون بل و سكان المنطقة المحيطة بمن فيهم "بنو إسرائيل" أنفسهم، مع أن الخبراء الأمريكيين يواصلون تفانيهم في الوقت الحاضر في سبيل إحلال الثقافة العربيةـ السامية و في قلبها بطبيعة الحال "اللغة العربية القديمة" (=اللعق) أي الأدنى محل الثقافة القومية لمصر أي الأرقى، أي تجريد مصر و بالتالي المنطقة المحيطة من أهم سلاح تملكه في مقاومة تخلفها أي في مساعدتها في مغادرة العصور الوسيطة التي تزال "ترفل" في "نعيمها المؤبد". و في عبارة أخري فرض "الإبادة الثقافية" على "الأمة المصرية"، و تلك ثاني أكبر جريمة تاريخية يرتكبها الأمريكيون بعد جريمتهم الكبرى التي تتمثَّل في إبادة "الهنود الحمر"، الذين شرع الخطاب الأمريكي يسميِّهم في الوقت الحاضر: الأمريكيين الأصليين Native Americans. و لكن الموضوعية تفرض علينا أن نقرر أن بريطانيا العظمى هي التي بدأت هذه الجريمة، إلاَّ أن الولايات المتحدة تستكملها بنجاح فائق، و بأيادٍ "مصرية" بالإسم و "الباسبور" الأخضر.
و لقد نظرت فرأيت أن مصر و المنطقة المحيطة ـ سمها ما شئت ـ تنطوي على إتجاهين و قل إرادتين رئيسيتين: الإرادة الأولى أستطيع أن أسميها إرادة الحياة و الإزدهار، فالسهم الذي يقودها يتجه إلى الأمام و الأخرى إرادة الموت و الإندثار التي يتجه بها سهمها إلى الوراء. الإرادة الأولى هي إرادة محلية و الأخرى إرادة أجنبية. و من دواعي الأسف أن كافة من يسمون أنفسهم بطمأنينة يحسدون عليها بـ "المثقفين العرب/المصريين" ينتصرون، العملاء المعتمدون منهم و غير العملاء على حدٍ سواء، للإرادة الأجنبية. (يلف الضباب الحدود التي تفصل بين منطلقات و استنتاجات شخص هو "صديق" للولايات المتحدة، حسب وصف "مايلز كوبلاند" له في كتابه الذي المحاصر، أي "م.ح.هيكل"، كيلا نقول "الوصف الآخر" و شخص آخر يطلقون عليه أحياناً اسم "المفكر" مثل "م.أ. الجاهل" عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في مصر إزاء "القومية المصرية".نموذجاً)
و بينما تسعى الإرادة الأولي المحلية إلى تبني الثقافة الأرقى و في قلبها اللغة الأرقى، أي الأسهل و الأسرع في توصيل المعنى المراد، فاللغة: "وسيلة و كافة الوسائل تتفاضل الواحدة عن الأخرى على أساس مدى سهولتها و سرعتها في أداء الغاية المنشودة و هذه الغاية في حالة اللغة هي التفاهم"، كم علمَّنا أستاذنا د.أنيس فريحة. في حين تعمل الإرادة الأخرى الأجنبية على فرض ثقافة أدنى و في قلبها لغتها، فاللغة هي أبرز مظاهر الثقافة بصفة عامة. و بطبيعة الحال لا أقصد بالثقافة الأرقي هنا سوى "الثقافة المصرية" و باللغة الأرقى دون شك ما أسميه "اللغة المصرية الحديثة" (=اللمح)، و يسميها الخبراء ـ و لا أقول العلماء ـ الأنجلو-أمريكيون مرة "لهجة" و مرة أخرى "عامية". و لا هذا الإسم و لا ذاك صحيح علمياً. و المجال ليس مجال الخوض في نقاش علمي صارم، مثلما أفعل في كتبي و دراساتي، و بعضها منشور. و لكنني لو كنت أحترم مبدأ التخصص أكثر مما أفعل لقلت أنني متخصص في اللغوياتLinguistique الذي يتمتع بتسميات متعددة منتشرة في منطقتنا من فقه اللغة(مصر) و اللسانيات(المغرب) إلى الألسنيات (الشام). و في إطار هذا التخصص استكملت أدواتي من الإلمام باللغات القديمة مثل المصرية (بمراحلها المختلفة كالهيروغليفية و القبطية ) و اليونانية و اللاتينية بالإضافة إلى اللغات الحية كالإنجليزية و الفرنسية و الأسبانية و الألمانية. و في ضوء الطابع الخاص لهذه الدورية سوف أكتفي بالإشارة إلى تحوُّل اسم الموصول في اللغة العربية الموصوفة بالفصحى، دون أي سند من واقع أو منطق، فالفصيح هو الإنسان الناطق بهذه اللغة أو تلك مثل "سحبان وائل"، و ليس اللغة بحد ذاتها. فالسيد "ونستون تشرشل" لم يكن في فصاحة "شكسبير" لمجرد حديثهما أو كتابتهما بلغة واحدة. و لعلنا نلاحظ أن اللغة المصرية الحديثة أو "اللمح" اختصرت كلاً من (الذي و التي و اللذان"اللذين" و اللتان"اللتين" الذين اللاتي"/اللائي") في اسم موصول واحد هو "اللي" أي جرَّدت هذا الإسم إلى الحد الأقصى، و هذا تطور، و لو أن خبراء لغويين أمريكيين يأنفون من هذه الكلمة و يصرون على استخدام كلمة "تغير" لأسباب لا مجال للوقوف عندها الآن. و قد تبنت سائر اللهجات في المشرق و المغرب كيلا أقول "اللغات" فأكتسب أعداء جدداً، هذا التطور. أما إذا انتفض أحد المصريين-الساميين زاعقاً، كما حدث مرة سابقة خلال إلقائي ورقة عمل في أحد المؤتمرات الثقافية: و لماذا لا يكون المصريون هم الذين تبنوها عن العرب، فجوابي، و كما كان يومها، هو: اللغة القبطية القديمة تعرف هذا التطور أي قبل أن تظهر اللغة العربية إلى الوجود بألف سنة على الأقل.أما إذا هددني سيادته بإلحاق أي أذى بنفسه إحتجاجاً على "شوفينيتي" هذه فلسوف أقبل منه فوراً أن تكون "اللغة المصرية الحديثة" هي التي استعارتها حتى من أهل "نمنم" أو سكان جزر "الواق واق"، فما دمنا نريد التفاح فعلينا أن نأخذه حتى لو جادت به أشجار الصفصاف، كما يقولون الأفغان في حكمة لهم شهيرة.
هذا على مستوى الصرفيات أو الـMorphology أما على مستوى اللفظيات أو الـ Phonetique فلقد بدأنا نسمع أبناء عمومتنا اللبنانيين عبر الفضائيات و هم ينطقون كلمة "اليوْم" (بتسكين الواو) على هذا النحو: "اليُوم"(بضم الياء)، و معنى ذلك أنهم "اختصروا" الصائتين المدمجين وبتعبير إصطلاحي:Diphthong إلى صائت واحد هو : الـO و كان ذلك مرة أخرى سيراً على نهج اللغة المصرية الحديثة أو "اللمح" التي توصلت إلى هذا التطور منذ "ابن دانيال" على الأقل. و نحن نعرف أن "فيروز" سفيرة المنطقة عند النجوم نطقت هذين الصائتين المدمجين قبل نحو بضعة عقود و حسب هكذا: aw في غنوتها الشهيرة:
دخلك يا طيْر( و ليس طِير) الوروار!
و كذلك في غنوتها الأخرى:
وقف يا أسمر، في إلك عندي كلام:
ها البنت يا اللي بيتها "فوْق"(و ليس "فُوق") الطريق...إلخ.
و على هذا الأساس يكون القول الذي يلوكه جميع "الفلاسفة" في المنطقة و يذسب إنتشار "اللمح" في المنطقة التي تمتد من الخليج الفارسي حتى المحيط الأطلنطي إلى أسبابٍ خارجية طارئة مثل انتشار الغناوي و الأفلام الناطقة بـ "اللمح" هو قول بائس بالغ الضحالة فلقد حوَّل التتابع الزمني إلى تتابع سببي، فالأصح أن "اللمح" تطرح على تلك "اللهجات" الصورة التي ستصير إليها عندما تتطوَّر أي تنتقل من الصعب إلى الأقل صعوبة. و هذا هو السر وراء تأثر سائر "اللهجات" المشرقية و المغربية بـ "اللمح"، أكثر من تأثرها باللغة العربية (الفصحى) رغم أنها هذه اللغة هي لغة التعليم و كثير من الإعلام في المشرق و بعض المغرب، و هو وضع لا تتمتع به حتى الآن "اللمح". و المعروف أن "اللمح" هي اللغة المشتركةLingua Franca التي يعرفها جميع من يسمون أنفسهم عرباً دون أن يتعلموها في دور تعليم، و دون أن يُعطوا هذه الحقيقة اللغوية اسمها الصحيح.
و في هذا الصدد أعتقد أن "المتعلمين المصريين"، لم يفهموا بصفة إجمالية ما الذي يقصده الحر الفقير عندما يقول أن "الأميين المصريين" أفضل من نظرائهم من "المتعلمين المصريين"، و أود أن أخص بعدم الفهم أولئك الذين أبدوا استحساناً هائلاً بكتاباتي في هذا المجال و صفقوا له حتى التهبت كفوفهم. فلقد وشت لي أعينهم المرة تلو المرة بما يتناقض مع ما حاولت ألسنتهم أن تزفه إلى الحر الفقير على غير سند. و يبدو أن الموضوعية أعجز من أن تصل بضحايا "التعليم المصري" أولئك إلى حد الإعتراف بأن "الفلاح"، سواء في شمال الوادي أو جنوبه أحسن منهم على المستوى العقلي و الوجداني معاً. و لعل السبب الرئيسي وراء ذلك كامن في عملية "التنميط"stereotyping التي لا تكف الثقافة السائدة عن النهوض بها، دون فخر، لـ "الفلاح" الذي يشكِّل الضلع الرئيسي بالنسبة لي في مفهومي عن "الأمي"، عبر نسقيها الشديدي الفعالية: التعليم و الإعلام، حتى أصبحت كلمة "الفلاح" تفيد "شخصاً أبله غبياً فظاً متخلفاً. و في هذا المجال أذكر أن أحد القواميس الإنجليزية- العربية المعتمدة في مصر، و هو من تأليف شخص "متعلم مصري" كبير بطبيعة الحال، ترجم كلمةvulgar إلى "فلاح". و هذه العملية هي التي تحول دون رؤية "المتعلمين المصريين" للمصريين-المصريين أي الأميين الذين يُعدون في تصوري "آخر فلول المصريين" أو المصريين الذين فلتوا من الإبادة الثقافية، و بعبارة أخرى الورثة الحقيقيين لإحدى أعظم الحضارات التي عرفها العالم القديم، إن لم نقل، مرة أخرى، أعظمها. فلقد كانت "الأمية" بمثابة المحارة التي حجبت عنهم كثيراً من مؤثرات الثقافة السامية أو الأسيوية-الغربية الأقل تقدماً من ثقافتهم، و حرمت تلك الثقافة الأقل تقدماً من "حرث" عقل المصريين-الأميين، و هو الأمر الذي نجحت فيه إلى حدٍ كبير، و مأسوفٍ عليه مع عقل "المصريين-المتعلمين". و لا يتضح ذلك أكثر مما يتضح في نطاق العلاقات اللغوية، أقصد العلاقة بين "اللعق" و "اللمح".
و أذكر أن "متعلماً مصرياً" كبيراً ـ ماركسي سابق و يكتب شعراً و مسرحاً ـ كتب على هامش محاضرة لي هذه العبارة/ السؤال: "و ما مصلحة بريطانيا أو الولايات المتحدة في فرض "الثقافة العربية-الإسلامية" على المنطقة؟
و كان يكفي أن أشير لسيادته إلى أن فرض تلك الثقافة التي أسميها "الثقافية السامية"، و في قلبها "اللغة العربية" المقدسة يؤبد إستمرار تخلف "البقع المتخلفة" في المنطقة مثل دويلات "الخليج" من جانب كما يضمن عودة المناطق التي كادت أن تفلت من أسر "التخلف" إلى حظيرة التخلف، كما هو الحال مع مصر و بلدان محدودة أخرى من جانب آخر، أي فرض الكابوس الخماسي الأضلاع: الغباوة و الجهالة و الفظاظة و الخباثة و السعادة بإلحاق أشد درجات الأذى و القهر و الإذلال بالآخر، على المنطقة السعيدة بأسمائها المتعددة التى يلصقها عليها الغربيون بين الحين و الآخر.
و يعرف اللغويون أن اللغة البشرية تستقل على النقيض من سائر مظاهر الثقافة الأخرى بميلها المستمر نحو التحول إلى الأسهل. فاللغة السنسيكريتية كانت تعمل وفق ثماني نهايات لحالات إعراب للإسم،(فاعل/مفعول/مضاف/منادى إلخ) اختصرت في بناتها اللاتينية إلى ست و اليونانية القديمة إلى خمس، و الألمانية إلى أربع، و لكنها في حفيدتها الدانماركية إلى حالة واحدة و لا تزال الإنجليزية "تحرجم" في سبيل الوصول مثل الدانماركية إلى أقصى درجة تجريد أي حالة واحدة. و يعرف اللغويون أيضاً أن اللغة المصرية القديمة تخلَّصت من هذه الحالات جميعها ـ و أرجو ألاّ يندهش أحد ـ "فيما قبل التاريخ"، كما نعرف من البروفيسور "أنطونيو لوبرينو" بجامعة "كاليفورنيا في كتابه "اللغة المصرية القديمة"Ancient Egyptian ص 51.
و المعروف أن "اللغة العربية" تعمل بموجب ثلاث حالات، تماماً مثلما كانت تعمل اللغة الأكادية، أقدم لغة سامية وصلت إلى أيدينا لها مدوناتٍ أي نصوصاً مكتوبة، بينما تخلصت سائر لهجاتها/بناتها العربيات+العبرية من نهايات هذه الحالات كي تصبح غير معربة.
و قد يندهش البعض و يستنكر بعض آخر و يستعصي على فهم عديدين مثل هذه الحقيقة: تخلُّف المنطقة التي تمتد من الخليج حتى المحيط راجع بالدرجة الأولي إلى إعتماد لغة ميتة، لم تعد لغة قومية بمعنى لغة أمmother tongue لأحد في هذه المنطقة بما فيها أهل "مكة" و أهل "يثرب" أنفسهم أي لغتهم التي "يكتسبونها" أكرر "يكتسبونها"، مثلما "تُكتسب" كل اللغات الأم أي اللغات القومية لشعوبها و تراهم يحتاجون أي "المكيون" و "اليثاربة" و أبناء "عِنزة" في قلب "نجد" إلى أن "يتعلموها" في دور تعليم كاللغات الأجنبية سواء بسواء، و في هذا السبيل "يستقدمون" "أجناباً"، كما يذهب مصطلحهم الخاص في الصدد، من "بلاد الفراعنة" كي يعلموها لأبنائهم، أي أن موقفهم هنا لا يزيد و لا يقل على المستوى اللغوي عن موقف الإيطاليين المعاصرين من لغة جدودهم "اللاتينية" و لو أن "الإيطاليين" يعترفون بذلك الموقف من انحناء القرن الثالث عشر من القرن العشرين! و فوق ذلك فـ "اللعق" لغة عسيرة كل العسر لا يستطيع أحد إتقانها مهما بذل من جهدٍ و وقت و مال. و بناء عليه فدخول المنطقة رحاب العصور الحديثة أي مغادرة العصور الوسيطة مرهون بالتحول عن هذه اللغة المقدسة إلى اللغات المستخدمة في أداء الطقوس اليومية، تماماً مثلما تحوَّلت شعوب أوروبا، عن لغتها المقدسة أي اللاتينية، إلى اللغات الأم/القومية من ألمانية و فرنسية و انجليزية إلخ و مثلما فعلت شعوب جنوب شرق آسيا عندما تحولَّت عن لغتها المقدسة أي السنسيكريتية إلى اللغات الأم/ القومية من هندية و بنغالية و كشميرية إلخ، و هو الأمر الذي تصفه البروفيسور "نيلوفر حائري" الأمريكية من أصلٍ إيراني، بجامعة "جون هوبكنز" الأمريكية بـ "التحول إلى اللغات القومية/الحية/المنطوقة" أوVernacularization
· و في هذا الإطار دعوت إلى الكتابة بما أسميه "اللغة المصرية الحديثة" و تسميها أنت "العامية المصرية"، و هذا كرم منك في حقيقة الأمر، فالخبراء الأمريكيون، و وراءهم "المتعلمون المصريون" ـ و القوسان هنا بهدف التحفظ ـ يكتفون بتسميتها بـ "العامية"، على اعتبار أن هناك لغة واحدة سائدة في المنطقة التي تمتد من الخليج الفارسي حتى المحيط الأطلنطي، و أن لهذه اللغة: اللغة العربية (الفصحى) الواحدة خمس مستويات، العامية هي المستوى الأدنى منها، هكذا يفقهنا أكاديمي نصف مصري و الأدق سامي-مصري يعمل رئيساً لأحد الأقسام بكلية الآداب بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. و بطبيعة الحال هذا القول ليس صحيحاً من الناحية العلمية، و علاوة على ذلك فهو قول مغرض، لا يقل كثيراً عن الحكم الذي يُمليه حاكم عسكري على قاضي(=قاضٍ) أي مقرر بشكل مسبق لخدمة غرض غير معلن بحكم طبيعته، و إن قامت عليه شواهد و قرائن و أدلة عديدة و لكي أكون أكثر وضوحاً لخدمة استراتيجية أنجلو-أمريكية، أي بدأتها بريطانيا زعيمة الإستعمار القديم و تستكملها بعدها الولايات المتحدة الأمريكية التي تتزعم الإستعمار الجديد. و يُمكننا تلخيص، هذه الإستراتيجية، بعد طول درس و تمحيص و معاناة من جانبي، في تعريب المنطقة بمعنى "تسييم" أي فرض الثقافة السامية بوجهها المتخلف أي العربي عليها، و هو الأمر الذي يخدم أول ما يخدم الوجه المتقدم لهذه الثقافة ذاتها، ذلك الوجه الذي تحمله إسرائيل،. فالعروبة ليست سوى "مجمل خصائص العرق السامي القديم" كما قال العالم الألماني "دينلف نيلسن" في كتابه "الثالوث الإلهي"، و نقلاً من جانبي عن "التاريخ العربي القديم" تترجيم: د. فؤاد حسنين علي. و إذا كان هناك من يسمح لنفسه أن يتهمني بـ "الشوفينية" لدعوتي إلى الكتابة بهذه اللغة فهناك عرب أقحاح و ساميون كمَّل أجدر مني بهذه التهمة التي لا أنكرها و لا "أستعر" منها، أحدهم هو د."أنيس فريحة" أستاذ اللغات السامية بجامعة "بيروت" الذي ورد ذكره في وقتٍ سابق. فلقد اقترح في أواسط الستينات "تقعيد" ما أسماه بـ "اللهجة المصرية" و هو نفس المسمى الذي نطلق عليه "اللغة المصرية الحديثة"، تمهداً لاتخاذها لغة للتعليم و الثقافة في "العالم العربي"، و كان الأقرب إلى منطق روح العلم أن يُسميه، لهذا السبب بالتحديد، أي لوجود "لغة" أو "لهجة" يستطيع سكانه أن "يكتسبوها" كي يتفاهموا بها، دون سواها من اللهجات/اللغات:"العالم المصري"، مهما شق عليه ذلك و خدش عواطفه القومية العربية أو الدينية الإسلامية!
و في هذا النطاق نسأل: ماهي أركان/ أقانيم "الثقافة السامية" أو "الثقافة العربية؟ و ليس هناك أي هدف آخر للحر الفقير من طرح هذا السؤال سوى رؤية ما هو مشترك بين "السامي" و "العربي" مع عدم نكران ما قد يُميِّز هذا عن ذاك في نفس الوقت. و الجواب: الركن الأول هو: رفع شأن الرعي على الزراعة فرئيس المجمع الإلهي السامي يقبل قربان الراعي و يرفض قربان الزارع، مع أن غلة ساعة العمل في الزراعة أعلى من غلة نظيرتها في الرعي و هو الأمر الذي أسس تاريخياً للترحال و البداوة و اتخاذ الغزو وسيلة رئيسية لكسب الرزق بل و فضيلة الشجاعة و اتخاذ "الأسد" رمزاً قومياً و شعيرة الصوم، و هو ليس سوى الجوع الذي كانت تفرضه بيئة طبيعية شديدة الفقر، بعد رفعه في اتجاه السماء كي يغدو شعيرة دينية مقدسة و بالتحديد أحد أعمدة الديانة المحمدية. الركن الثاني: الوحدانية. الثالث: دونية المرأة...إلخ و على النقيض من ذلك نجد "الثقافة المصرية-الأفريقية، فركنها الأول هو: تمجيد الزراعة و بالتالي التأسيس للإستقرار و الحضارة و انعكاساً لهما في عملية جدلية متبادلة. الركن الثاني: التعددية. الثالث: سوائية المرأة مع الرجل بل و فضيلة الصبر و اتخاذ "الجمل" رمزاً قومياً و شعائر تقريب القرابين و بينها شعيرة "الصببان" أي صب قدر من الخمر(النبيذ في الغالب) على الأرض و نصب الأعياد على مدار السنة إلخ و تفصيل ذلك موجود في مختلف كتاباتي.
* لا أملك أن أقول عن تجربتي مع محاولة تأسيس حزب باسم "مصر الأم" ، و كانت محاولة لنقل ما هو "ثقافي" إلى ما هو "سياسي"، إلا أنها تجربة بطعم الحنضل. فلقد أعطيت الحزب إسمه و كتبت الجزء الأكبر (75%)من برنامجه، أما الجزء الآخر فكتبه أصحابه تحت تأثير واضح، لكتابي الأساسي حتى الآن "حاضر الثقافة في مصر". و أطلق عليَّ كثيرون داخل الحزب و خارجه لقب "فيلسوف الحزب". و تقوم الفقرات المنقولة نصاً من كتابي الصادر في أحدث طبعة له سنة 2003 إلى صلب البرنامج، المقدم إلى لجنة الأحزاب يوم 14فبراير/ 2004 دليلاً مادياً يستعصي دحضه على ذلك. و لكنني فوجئت بامتداد و تجذُّر ما أسميته وقتها بـ "اللوبي الأمريكي في مصر" داخل الحزب. و بدأ هذا "اللوبي" ينسب إلى نفسه كل ما لم ينتج. و سرعان ما قفز ذلك "اللوبي" كي يسيطرعلى الحزب و هو لا يزال رهن التأسيس و يوجهه و"يسوقه" نحو التأييد غير المشروط للإستراتيجية الأمريكية في مصر و المنطقة.
و أذكر من سخريات القدر أن أحد أقطاب ذلك اللوبي و هو م. البدري طرح إقتراحاً ذات يوم على هذا النحو: هل ندخل "الشرق الأوسط الأكبر" الذي تدعو إليه الولايات المتحدة دون تحفظ؟
و في ظل آلية الديموقراطية، التي أعرفها بإيجابياتها و سلبياتها طرحت إقتراحاً مضاداً: الدخول مع التحفظ. و جاء التصويت على هذا النحو: تسعة أصوات لصالح الإقتراح الأول، أما اقتراحي فلم يحظ إلا بصوتٍ واحد!
و كان أن جمَّدت عضويتي من طرف واحد في "الحزب"، لكنني لم أفتح فمي علناً بكلمة واحدة ضده حتى بوضعه الذي آل إليه، كيلا أتحمل أمام نفسي وزر رفض الحزب الأول و الوحيد الذي يدعو إلى القومية المصرية بوجهها الحديث، و قدرت يومها أن تسجيل "مصر الأم" كحزب مشروع يمكن أن يثير حماس عدد أكبر من المصريين-المصريين الذين سيتصدون على الأرجح لذلك "اللوبي" الذي "اختطف" الحزب عبر آلية تحظى بالإجلال: الديموقراطية، مثلما "اختطف" الحزب الإشتراكي القومي بزعامة "أدولف هتلر" ألمانيا عبر نفس الآلية في ثلاثينات القرن العشرين.
* إذا قلنا: "مصر" نكون قد قلنا: "التعددية". فمصر القديمة تعرف دياناتٍ أي أنساقاً لاهوتية متعددة من تاسوع "أون" إلى ثامون "الأشمونين" إلى ثالوث "منف"الخ. و ليست ديانة واحدة أو إله واحد أو كتاب مقدس واحد. و لقد عبد المصريون القدماء مئات الآلهة المختلفة و المتكاملة مثلما فعل اليونانيون و لا يزال يفعل الهنود. و نعرف أن "سنوهي" كان يرفع يديه إلى السماء في منفاه و يدعو: "يا إلهي أياً كنت هب لي أن أدفن في الأرض التي شهدت يوم ميلادي"، أي أن المصريين لم يعرفوا "التكفير" طوال تاريخهم الذي يمتد لآلاف السنين ـ اللهم لمدة سبع عشرة سنة خلال فترة حكم الفرعون و الأولى الملك "أخناتون"، بل و سمحوا بعبادة آلهة غير مصرية و خصوصاً غرب أسيوية مثل "عشتارت" و "بعل" في أرض "إيزيس". حقاً انتهى ذلك عقلياً في مصر تحت نفوذ ساحق للثقافة السامية، لكنه لا يزال يفعم بآلائه وجدان المصريين و هو الذي يقف وراء قراءة المصريين الخاصة للشعبتين الثانية و الثالثة أي المسيحية و المحمدية من الديانة الإبراهيمية أو "ديانة الساميين" على حد تعبير عالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي "روبرتسون سميث"، فـ"السيدة زينب" و شقيقها سيد الشهداء "الحسين" ـ مثلاً ـ يعدان إمتداداً على مستوى الوجدان، لكل من "إيزيس" و شقيقها الشهيد "أوزيريس". و هذه التعددية هي التي أسست للتسامح الذي ظل يُميز المصريين حتى فجر يوم الأربعاء الأسود أي 23يوليو/بؤونة1952. و قل ذلك أيضاً على التحايا المصرية البالغة التعدد و التنوع، نظير التحية الأحادية للساميين عرباً و عبرانيين: السلام عليكم/شالوم عليخم.هذه التحايا التي يتبنَّاها العرب حالياً فيما يتجاهلها المصريون في رحلة تعريبهم/تعربهم.
* إسمح لي أن أقسم السؤال إلى قسمين مستقلين، الأول: هل ترى معنى لاستراتيجية السلام؟ و الثاني: ماذا عن معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية؟
و رداً على القسم الأول أقول، بصريح العبارة إنني أومن و أدعو و استكشف كل فرص السلام بين جميع الشعوب و جميع الأمم و الطوائف و الملل و النحل إلخ. فالبشر لا يتحاربون منذ فجر البشرية إلاَّ من أجل إرساء أسس السلام، كي يعيشوا في "تباتٍ و نبات". و معنى القول أنني أومن باستراتيجية السلام. و لكن يبقى السؤال: أي سلام. أما عن اتفاقية السلام بين مصر و إسرائيل لسنة 1979. فلقد جاءت إنعكاساً لخلل قائم في القوى بين مصر غير المصرية غير المنتجة غيرالمدنية غير الديمقراطية غير الحرة، و في عبارة واحدة "مصر الضعيفة" أو مصر "اليوليوية" أي العسكرية و بين إسرائيل الإسرائيلية و المنتجة و المدنية و الديمقراطية و الحرة، و في كلمة واحدة "إسرائيل القوية". و في هذا الصدد أتذكر أن الزعيم التونسي الكبير "الحبيب بورقيبة" نصح "البكباشي الملهم" خلال زيارة له لمصر في سنة 1964، إن لم تخونني الذاكرة، بأن يبرم إتفاق صلح مع إسرائيل "الآن" فالقوي يأخذ أكثر عند إبرام الصلح، مما يمكن أن يأخذه متى دب فيه الضعف. إلا أن الحاكم العسكري لمصر، أي الذي وصل إلى الحكم و تربع في دسته على متن دبابة ذات فجر، بتدبير سفارة أجنبية استعمارية هي سفارة الولايات المتحدة، على نحو ما كشفت عنه مئات الوثائق اللاحقة، رفض النصح و أطلق على "الناصح المخلص" إعلامييه الأشاوس.كيف رأى الزعيم التونسي الكبير أن السلام قادم لا محالة بين البلدين؟ هل كان يدرك أن "إنقلاب يوليو الأمريكي" قام من أجل هدف محدد: الإعتراف بإسرائيل؟ كيف استشعر أن مصر تنتقل من حالة ضعيفة إلى حالة أضعف؟ لست أدري.
أفضل رداً على هذا السؤال أن أبدأ بالحديث ليس عن نهضة من أي نوع و لكن عن استكشاف إمكانية إبطاء وتيرة الانهيار و حسب. فالسؤال الذي يواجه من يغرق في عرض البحر، هو كيف ينجو من الإسفيكسيا، و ليس الطريق الذي ستأخذه فيه قدماه عندما يخرج إلى البر. و في هذا السبيل أرى ضرورة طي صفحة "ثورة يوليو الأمريكية" على حد تعبير الكاتب البارع "جلال كشك" في كتاب له بهذا العنوان بل و شطب ذلك الإنقلاب و هذا هو الإسم الأدق من تاريخ مصر و المنطقة جملة و تفصيلاً. و أتصور أن ذلك لن يحدث إلا إذا أجرى "المتعلمون المصريون" ـ و لا أقول المثقفين المصريين ـ محاكمة لذلك الإنقلاب الذي يُعد في رأيي أنجح إنقلاب عسكري دبرته المخابرات المركزية الأمريكية في سائر أرجاء العالم في القرن العشرين، فلقد نجح و لا يزال يواصل نجاحات متصاعدة و الأدق متفاقمة حتى هذه اللحظة، في سبيل الهبوط بمصر من منزلة دولة عظمى إقليمية إلى دولة ضعيفة تابعة لا يحسب لها أدنى حساب، و توُصف في غُرف الدردشة على "الشبوكة" بأنها "زوجة الولايات المتحدة"، حتى لو أدى ذلك النجاح أو تلك النجاحـــات إلى إنهاء وجود "أكبر واحة منقولة في العالم"، و هي المنزلة التي لا تتردد إسرائيل في إحتلالها من فورها.
أعود و ألخص مشروعي الثقافي على هذا النحو: يجب على "المتعلمين المصريين" ـ و إني لأنفي مجدداً أي وجود لمثقفين مصريين ـ أن يكفوا ليلاً عن إنتاج و إعادة إنتاج أو إرساء أسس ما يضجون من نتائجه المباشرة و غير المباشرة نهاراً أي الإستبسال في تبني الإستراتيجية الأنجلو-أمريكية و الدفاع عنها، في "تسييم/تعريب" المنطقة أي فرض التخلف عليها، و خصوصاً ما يتعلق منها في الإستمرار في اصطناع "اللغة العربية" المقدسة كلغة للعلم و الثقافة، و ذلك كخطوة أولى ثم يمضون من فورهم إلى تبني "الثقافة المصرية" الأرقى و في قلبها اللغة المصرية الحديثة "اللمح"، حتى لا يحكم عليهم التاريخ بأنهم كانوا "عملاء غير مأجورين" أي عملوا بالمجان لغباوتهم و جهالتهم وحدهما في خدمة الأهداف الإستعمارية الغربية في المنطقة، و هم يحسبون أنهم ـ و يا للعجب ـ يقاومونها، و بعبارة أخرى يجب أن ينذر "المتعلمون المصريون" أنفسهم لما هو آتٍ، ذاك الذي تعمل شعوب المنطقة بصورة تلقائية على تبنيه، دون وعي من جانب أولئك "المتعلمين المصريين" ـ و "المتعلمين العرب" معهم ـ و يتمثل في تبني أرقي ما يملكون أي الثقافة المصرية" و هو الأمر الذي يعني، بالضرورة أن يتحوَّلوا إلى "مقاومة" ما ينتصرون له حالياً من ثقافة "سامية" يطلقون عليها، وراء الأجانب المغرضين أي الغربيين، و خصوصاً الأمريكيين منهم إسم "الثقافة العربية-الإسلامية"، تلك التي تفرض على المنطقة التخصص في إنتاج خام البترول و الغاز الطبيعي، دون سواهما. و عندئذِ بطبيعة الحال ينتقل أولئك "المتعلمون المصريون" و معهم نظراؤهم العرب من مجرد قارئين-كاتبينliterates إلى مستوى "نخبة قومية مثقفة" قائدة، مثلما هو الحال في سائر البلدان التي تتمتع بالإحترام على نطاق العالم، و بينها إيران و تركيا و لسوف يتيح هذا المشروع عقد تحالفٍ أراه مشروعاً و ضرورياً مع "النخب" في سائر بلدان المنطقة و من بينها و قل على رأسها إسرائيل، أي أولئك الإسرائيليين غير الساميين، و بعبارة واحدة: معاً، نحن المصرين و الساميين، عرباً و عبرانيين ضد "السامية/العروبة" ومع "المصرية" أي ضد التخلف و مع التقدم، مهما أغضب هذا الطرح الثقافي أعداء المنطقة في هذا المنعطف التاريخي، و خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية. و غني عن الذكر أن المراقب اليقظ يستطيع أي يشُم في إسرائيل الرغبة في الحلول محل الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، خصوصاً و أنها أصبحت تملك نفس القدرات الإمكانيات التي ملكتها يوماً بريطانيا أيام السلام البريطانيPax Britannica، و ما تملكه اليوم ما نطلق عليه أمريكا، بصفة عمومية في ظل السلام الأمريكيPax Americana، و ماملكته قبلهما بوقت طويل مصر على زمن الـPax Egyptiaca.
و في الختام أطرح هذا السؤال: لماذا يحرص الخبراء الغربيون و أتباعهم بصفة عامة و الأمريكان و متدربوهم من أكاديميينا على حرماننا من هذه اللغة و فرض تلك علينا؟ و ألا يصب هذا في صميم استراتيجيتهم في المنطقة؟ أنهم بلهاء، لا يدركون مصلحتهم/مصالحهم القومية؟ أم أنهم يريدون لنا التقدم و الازدهار، و قد تابوا و أنابوا عن الاستعمار؟
ترى متى يقتنع "قومي" بأن الغابات تتحرك نحونا، هل بعد أم قبل فوات الأوان؟
: ملحوظة
الشاعرمحمود قرني عمل الحوار دا وي الحر الفقير للنشر في جريدة "القدس العربي"،بس الجريدة المذكورة ما رضيت ش تنشر حرف واحد م الحوار. الأمر اللي خلَّى الشاعر المصري و مراسلها في "الكاهرا" ينشر جزء منه في جريدة مصرية مستقلة.